مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 09/01/2022

أهمية الارتباط بالأكابر

مقالات


أهمية الارتباط بالأكابر


نَصُّ محاضرة ألقيت في كلية الشريعة بتاريخ 13/12/2021


 د. محمود رمضان البوطي


 


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، والصلاة والسلام على سيد السادات سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. 


تأتي هذه المحاضرة في زمن قد تاهت فيه البوصلة، وكثرت فيه الفتن، وكثر فيه المشوشات والمغريات، واتخذ الكثيرون من شباب وبنات المسلمين أسوةً لهم وقدوة أناساً ممن لا خلاق لهم في الدنيا ولا في الآخرة، الذين لا تزيد رؤيتهم القلوبَ إلا ظلمة، ولا تزيد العقولَ إلا ضياعاً، مرة بحجة متابعة الفن، ومرة بحجة التعلق بالرياضة، ومرة ومرة ...


تأتي هذه المحاضرة التي كلفني بها فضيلة الدكتور محمد حسان عوض حفظه الله تعالى، خطوة في سبيل ربط الفروع بالأصول، لأن أول عاصم من هذه الفتن والمغريات والمشوشات هو الارتباط بالمرجعيات، الذين كان لهم الفضل في حمل أمانة هذا الدين ونقل شريعة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، من خلال تلقف أخبارهم، والاطلاع على أحوالهم، وتتبع آثارهم، والسير على نهجهم. فكما يقولون: من ليس له كبير ليس له تدبير.


ومن صور المشوشات المعروفة، ما يواجهه طالب الشريعة اليوم من اللوم والعتب على اختياره لهذا الاختصاص، على دخوله لكلية الشريعة، لكن الحقيقة هي أن فضلاً من الله عز وجل ونعمةً قد اختصكم الله عز وجل به، عندما جعلكم منسوبين إلى هذه الكلية، وموصولين بهذه المدرسة.


أما الشهادة الجامعية فهي تحصيل حاصل لأمر كائن لكم ولغيركم من طلاب الكليات الأخرى، لكن فضل الله عز وجل لن يستشعره إلا من انتسب لهذا المكان، وجلس في قاعاته، وتجول في حديقته وممراته. وأنا واحد منكم قد شملني هذا الفضل من الله عز وجل في يوم من الأيام وما زلت أتقلب فيه.


وفي هذه الدقائق سندرك بعون الله عز وجل ماهية هذا الفضل الذي يقتضي منا الحمد والشكر مدى العمر.


هذا الفضل الذي أريد أن ألفت نظركم إليه يقوم على محورين رئيسيين: المحور الأول المناهج التي تتلقونها، والمحور الثاني المكان الذي بوأنا الله إياه.


ومن المعلوم أن الكتاب كورق ليس له أي ميزة وفضل، كما أن جدارن المكان وأرضَه وقاعاته من حجر ومدر ليس لها بحد ذاته أي ميزة، إنما جاءت قيمة الكتب والمقررات جاءت من المحتوى - من موضوع المقررات أولا،ً ثم من الأكابر الذين نقلوا لكم هذه العلوم وتعاقبوا على هذه المقررات تأليفاً وتنقيحاً وتدريساً ثانياً.


وقيمة المكان وسر البركة فيه إنما جاءت من منزلة ورفعة شأن الذين تواردوا عليه؛ الذين شهدتهم هذه الجدران وهذه القاعات وهذه الأرض التي تمشون عليها.


ودعوني أضع النقاط على الحروف.


 


بالنسبة للمحور الأول:


هل فكرت يوماً من الأيام في معنى أنك طالب شريعة، وشرف ما تحمله من بضاعة. شريعة من ندرس؟ ندرس شريعة الله عز وجل، وشريعة رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وموضوع مقرراتكم الأساسية كما تعلمون هو: قال الله تعالى وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم بعد ذلك قال الصحابي فلان وقال الإمام فلان، ثم الأمثل فالأمثل .. وهكذا سلسلة متصلة مستمرة لا انقطاع فيها إلى أن وصلت إلينا، ولو تتبعت أسماء السلسلة حلقة إثر حلقة لوجدت أنها تتألف من أكابر كلهم من العدول الأولياء الأصفياء الأنقياء، الذين بذكرهم تتنزل الرحمات، وبمحبتهم تنال الشفاعات. فأي شرف أعظم من هذا الشرف.


فإذا علمنا ماهية ارتباطك اليوم بطرف السلسلة الأول، بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن بعده أصحاب القرون الخيرية الأولى، فكيف ينبغي أن تكون علاقتنا مع منتهاها من المتأخرين الذين هم أقرب إلينا زمناً؟! أعني الذين نقرأ عباراتهم اليوم ونشهد آثارهم.


ليس من اللائق بنا ولا من خلق الوفاء الذي يتخلق به المسلم أن تكون صلتنا مع صلة الموصول، مع الذين وصلونا بالسلسلة منبتة.


هؤلاء الأكابر الذين وصلونا بالسلسلة لم تكن نسبتهم إلى العلم كنسبتنا إلى غوغل ولا إلى المكتبة الشاملة، هؤلاء كانت أسرارهم وبركة حرفهم كامنة في أسرار شيوخهم الذين تلقوا عنهم في حلقات العلم في المساجد وعلى الركب، كل منهم كان منسوباً إلى ثلة من الأكابر ممن تلقوا عن أكابر قبلهم وهكذا .. إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. ابحث في سيرته تجده أن فلاناً منهم قد تلقى عن الشيخ الفلاني والشيخ الفلاني، والآخر كذلك والآخر كذلك ..


ثم بعد أن نضجت جهودهم، وتقومت عقولهم، وباتوا علماء، يمموا وجوههم قِبل الأزهر ليحملوا الشهادة. وكان شيوخ الأزهر آنذاك يقولون عمن يأتيهم من الشام: (يأتون إلينا علماء) 


والمهم أن تعلم أنك عندما شرفك الله واصطفاك للدخول إلى هذا الكلية صرت منسوباً إلى مدرسة ثلة من الأكابر هم الذين أسسوا لنا هذا الصرح من حيث المبنى ومن حيث المعنى. وبانتسابك إلى هذه الكلية قد بدت حلقة جديدة في هذه السلسلة الشريفة المباركة، تحمل هذه الأمانة كما حملوك إياها، لتنقلها لمن بعدك، فتكون وارثاً نبوياً.


نعم فأنتم اليوم حملة الأمانة، أنتم حملة هذه الأسرار لمن بعدكم. أنتم سدنة هذا الصرح بمناهجه، أمناء على هذا العلم الذي تتلقونه، وعلى المكان الذي بوأنا الله إياه، أمناء على القيم التي ورثناها عنهم وعن شيوخهم، هذا المعنى ما ينبغي أن نغفل عنه.


وأزيد أمر أهمية التلقي وضوحاً فأقول: كلنا يعلم سند التلقي والإجازة في القرآن الكريم، وفي مجالس الرواية، لكن هل تعلم سر سراية النور المحمدي من النظر بعين الشيخ الذي تتلقى عنه، هل تعلم أنك بنظرك إلى عين الشيخ الرباني الذي تتلقى عنه، تسري سراية من عينه إلى عينك، لأن النظر بعين الشيخ الرباني هو نظر بعين من نظر إليه هذا الشيخ إلى شيخ شيخه وهكذا ..  الأنوار تنتقل من عين إلى عين، إلى أن تتصل بنور عين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وهي العين التي أثنى عليها رب العزة جل شانه فقال: " مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى". وما أعظمها من عين وما أشرفه وأرفعه من مبصر صلى الله عليه وسلم.


فنسبتك إلى هذا النور من خلال هذه السلسلة لا تأتي من التعلم عن طريق غوغل ولا من ويكيبديا بل من خلال تلقي العلم مشافهة. ولذا نص علماؤنا على قاعدة ما ينغي أن ننساها: كل من يطلب العلم دون شيخ فهو في ضلال.


وأصدقكم القول: عندما كنت أنظر بعيني سيدي الشيخ نور الدين عتر رحمه الله، والله انظر في عينيه وأرى من خلالهما عيني سيدي الشيخ عبد الله سراج الدين، بل وعيني الشيخ نجيب سراج الدين والشيخ مصطفى مجاهد والشيخ عبد الوهاب البحيري وغيرهم. صدر قد حوى ما حوى من كلام سيدنا رسول الله.


سنوات أربع ونحن ندرس ونحفظ قال الله تعالى كذا وقال رسول الله كذا، وقال الصحابي فلان وقال الإمام فلان .. أليست كفيلةً هذه السنوات أن ندرك سر هذا الاصطفاء الذي اختصكم الله عز وجل به عن زملائكم في بقية الكليات.


أليست كفيلة هذه السنوات أن نعرف قدرهم، وندرك حجم الجهود التي بذلها الأكابر من الأولين والآخرين، من المتقدمين والمتأخرين، حتى وصلت هذه العلوم إلينا، أليست السنوات الأربعة كفيلة بأن تتعشقهم أرواحنا، ونتوق إلى لقيالهم، ونرجو من الله عز وجل أن يحشرنا معهم، فأنتم من خلال دراستكم الجامعية بتم منسوبين إلى الله وإلى رسول الله .. وإلى الصحابة والأئمة الذين جاؤوا من بعدهم .. إلى حلقة السلسلة الأخيرة التي لمّا تنتهي بكم .. بل هي مستمرة بإذن الله تعالى لمن بعدكم. فإن تكونوا صغار قوم يوشك ان تكونوا كبار آخرين، وما خير شيخ أن يكون شيخاً وهو جاهل كما كان يقول سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه ..


نورانية قال الله وقال رسول الله سترسخ في قلب من استشعر هذا المعنى، وأدرك عظيم هذه المنة، وحرر النية.


ومع تقديري لبقية الفروع والاختصاصات، فإن فلاناً وفلاناً من علماء ومفكري الشرق والغرب ممن يستدل زملاؤكم بأقوالهم ويدرسون نظرياتهم ويتعلمون علومهم لا نورانية في أقوالهم، ولا أحوال انتابتهم وهم يؤلفون، ولا أسوة في أفعالهم وأخلاقهم، ليس لهم تهجدات في جوف الليالي، ولا أوراد عندهم .. فأنا لهم بقبس من سراية هذا النور. وإنما هي علوم مجردة - لا غنى عنها - تثري العقل ولا تنعش القلب، تثري العقل ولا تحرك الأرواح.


كل علم من العلوم نسبته أخيراً إلى مبتكريه، ومبدعيه، حتى ولو كان من الملحدين والجاحدين والفاسقين. أما العلوم التي تتلقونها فلا ينال شرف خدمتها ورعايتها ونقلها إلا الربانيون. لأن نسبتها إلى الله، " وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا "، هي العلوم التي توصلك إلى الله، حرص على خدمتها الأكابر جيلاً بعد جيل إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.


وأحسب أننا أدركنا الآن سراً من أسرار هذا الاصطفاء الذي اختصكم الله عز وجل فيه؟


خلاصة القول: هذه المقررات هي مظهر لكفالة حفظ الله عز وجل لدينه، قيض لها رجالاً، هم رجال شكلاً ومعنى جبال. أناس ربانيون، سهروا الليالي وهم يحضرون ويكتبون المقررات والمناهج بماء عيونهم.. في زمن لم يكن فيه غوغل ولا ويكيبديا ولا المكتبة الشاملة ولا ثقافة النسخ واللصق.


هذه المقررات مرآة لسلسلة طويلة ممتدة متصلة جيلاً بعد جيل إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت اليوم قد بت حلقة جديدة في هذه السلسلة لتحملها لمن بعدك. والدين محفوظ بنا وبغيرنا، لكن إما أن تنال شرف الانتساب إلى دائرتهم أو أن تخرج نفسك باختيارك من دوحتهم. وأسأل الله تعالى ان لا يحرمنا شرف خدمة دينه.


 


محور المكان:


إذا علمنا سر البركة في المقررات، وعلمنا معنى الاصطفاء والاختصاص الذي أكرمكم الله عز وجل به، تعالوا أحدثكم عن سر البركة في هذا المكان.


كانت كلية الشريعة في أول نشأتها تتمثل بغرفة صغيرة في إحدى جهات هذا المبنى الذي نتجول اليوم في أرجاءه، وأظنها كانت - بكل مكاتباها اليوم وأقسامها - في غرفة النسخ الحالية، وما زالت تتسع وتتسع حتى صارت بالحال التي ترونها اليوم.


وليس هذا وليد يوم وليلة، ولم يكن هذا ليتم بتدبير عقل بشري محنك، وإنما هذا الذي ترونه فضل من الله عز وجل ومنة، إذ جند لهذه الكلية أناساً أفذاذاً على مدى أحقاب متطاولة بذلوا أعمارهم وواصلوا الليل مع النهار في العمل الدؤوب والجهود العظيمة، واجهوا تحديات ومكائد يصعب حصرها واستقراؤها بمثل هذا الموقف.


هذا المكان الذي نلقي فيه اليوم هو ثمرة جهود ونشاطات علمية كان محورها هذا المسجد الجاثم بعز وفخار وسط حديقتها، ليشهد على هوية المكان، وأثر الأكابر الذين تواردوا عليه. هذا المكان ثمرة أكف ضارعة ارتفعت إلى سماء الله عز وجل في هدأة الليالي، يسألون الله عز وجل أن يعينهم ويوفقهم، أن يحمي طلابهم وطالباتهم من مكائد شياطين الإنس والجن الذين يتربصون بهم، وأن يحمي هذا الصرح من شر المكائد التي كانت تحاك ضد هذه الكلية. في فترة لا تكاد تجد في كلية الشريعة فتاة واحدة منقبة.


فمن أين جاء التجانس بين المكان والمكين؟ المكان وعاء أو مرآة لما ينعكس عليه من آثار الذين مروا فيه، إياكم أن تنحجبوا بالأجرام والاجسام عما تحمله هذه الجدران وهذه القاعات عن معان. هذه القاعات وهذه الجدران وهذه الأرض، كم شهدت من تنزلات ربانية، ومن فتوح لمعان فتح الله عز وجل بها على أقوام حلوا في هذا المكان وبقي المكان على آثارهم عطراً.


كم سالت دموع جدي وهو يذكر لطلابه وطالباته قصة الأنصار مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين.


وكم بكى سيدي الشيخ نور الدين صاحب الدمعة السخية والعبرة الحرة، عندما كان يذكر لطلابه وطالباته قصة أمهات المؤمنين رضي الله عنهن، وقد خيرهن الله بين البقاء أو الفراق.


وكم بكى سيدي الدكتور عجاج الخطيب، وهو يفسر قوله تعالى: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ "


وكم وكم ... كم من دموع سالت على تلك الوجوه النويرة وهم يشرحون ويدرِّسون، وكم من قلوب خشعت لهدير أصواتهم، وكم من مغاليق عقول فتحت، ما كانت لتفتح لولا ساعات في السحر كان الأساتذة الربانيون يمضونها بالبكاء والتضرع. وسرى سر هذا الوجدان إلى القاعات والجدران. قد صدق فيهم قول سيدي بومدين: قَوْمٌ كِرَامُ السّجَايَا حَيثُمَا جَلَسُوا يَبْقَى الْمَكانُ على آثارِهِم عَطِرَا..


ومن هنا ندرك سر ما خلفوه من آثار عظيمة من بعدهم، من مؤلفات نافعة، ومقررات تتلقفها الكليات الشرعية من هنا وهناك، من دروس وتسجيلات، من طلاب وطالبات، بل من أجيال من المربين والمدرسين والمعلمين الذين تخرجوا على أيدي هؤلاء المربين، تسمعون عنهم وعن أسمائهم اليوم في أرجاء المعمورة شرقاً وغرباً ويفتخرون بنسبتهم إلى هذا المكان. 


وهنا أنبهكم إلى قاعدة ما ينبغي أن تغيب لنا عن بال: كل ظاهر في النهار من أعمال الجوارح ليس له باطن يدعمه في الليل من اعمال القلوب ستذروه الرياح ولن يجد سبيله إلى قلوب السامعين.


لعل فيكم من يرى في كلامي شطحاً، فما علاقة هذه التجليات وهذه الوجدانيات بالمبنى وجدران المبنى وقاعاته، وسأدلل على ذلك بدليلين.


الدليل الأول واقعة حال حصلت في التاريخ الغابر. ولم أسمع من الأولين ولا من الآخرين من أنكر على صاحبها. وذلك عندما خرج الإمام السبكي لزيارة الإمام النووي رحمهما الله تعالى في الشام، وقد تعلق قلبه به بل عشقه من كتبه ومن سيرته، مما وصلهم إلى مصر من علمه وشمائله وأحواله، ولم يكن قد التلقى به من قبل. وعندما وصل إلى الشام فوجده قد عاد إلى بلده نوى بعد أن ألم به المرض، ثم بلغه نبأ وفاته ولم يلتقي به، فأتى إلى دار الحديث وبات فيها. وسأل عن مكان جلوس الإمام النووي فدل عليه فصار يمرغ وجهه ولحيته على المكان الذي كان الإمام يضع عليه قديمه، وينشد قائلاً:


وفي دار الحديث لطيف معنى... على بسط لها أصبو وآوى


عسى أنى أمس بحر وجهي * مكانا مسه قدم النواوي


إنه منطق الحب، منطق الوفاء، منطق التعلق بالصالحين وبالعلماء الربانيين، لا ينكره ذائق، وإنما ينكره كل أحمق وجاهل. ولو أننا عرفنا من هم هؤلاء الذين مروا من هنا، لكان الحال غير الحال. لكننا ما عرفناهم وجهلنا قدرهم.


الدليل الثاني على الاعتداد ببركة المكان لما مر فيه من مكين، وأنتم طلاب كلية الشريعة، تعلمون أن مبنى كثير من عباداتنا إنما يقوم على الذكريات، وبركة كثير من الأمكنة التي هي اليوم من شعائر الله إنما جاءت من المكين. فبركة الصفا والمروة من أين جاءت؟ وشعيرة رمي الجمرات، وذبح الهدي، من أين جاءت؟ وبركة المدينة المنورة من أين أتت.


وما طابت طيبة إلا بالطيب عليه الصلاة والسلام الذي سكنها ووري بثراها، وتقلب في حماها، صلى الله عليه وسلم. وما طابت البقيع إلا بسكّانها ومن كان على أثرهم، ولا الحجون إلا بسكانها ومن كان على أثرهم، ولا طاب جبل أحد إلا بمن دفن في سفحه، وما صار أحدٌ أحُداً إلا عندما سال على سفحه دم حمزة ومصعب وإخوانهم رضي الله عنهم أجميعن. ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم: "أحد جبل يحبنا ونحبه" وهل في الصخر والحجر والمدر سرٌ لولا سر من دفن فيه؟! فكيف لا نعتد ببركة المكان لبركة من مر فيه، ودرّس فيه، وبكى فيه .. بل وأحبه.


نعم فقد كانوا يحبون هذا المكان، وقد كان واحدهم يعتبر أن محبة هذا المكان قربة إلى الله عز وجل. كان مما يؤنس سيدي الشيخ نور الدين عتر في أواخر حياته زيارة هذا المكان والتردد عليه، يشم عبق الماضي من خلاله، ويستذكر رفاق دربه، في حمل هذه الأمانة، ورعاية هذا المكان، والانتساب لهذه الشريعة، وكذلك الحال لجدي، فهو استشهد السبت والخميس كان يلقي محاضرته في القاعة الثالثة بالذات. نعم كانوا يعتبرون محبة هذا المكان قربة إلى الله عز وجل.


وهذا المعنى أشار به سيدي الشيخ نور الدين عتر رحمه الله تعالى لأستاذنا الدكتور بديع حفظه الله تعالى وكنت حاضراً في ذات المجلس، لأن محبة المكان هو عين الوفاء للمكين، والتعبير الصادق عن الارتباط والحب.


نعم عندما كانوا يمضون إلى هذه القاعة او تلك في الممشى هذا او ذاك، ترى الهيبة تعلو رؤوسهم، والوقار يعلوا جباههم، أُحِبُّهُم وأُدَارِيهِم وأُثِرُهُم بِمُهْجَتِي وخُصُوصاً مِنْهُم نَفَرَا


ولئن فاتكم أنتم مجالستهم والجلوس بين أيدهم والتلقي عنهم مشافهة فلم يفتكم دراسة كتبهم ولا تتبع نورانية حرفهم، لئن فاتكم مجالستهم فلن يفوتكم أن تتلقفوا وتتبعوا آثارهم واخبارهم، أن تدرسوا ما فتح الله عليهم من علوم وكنوز وفقهم الله عز وجل إليها. فالصلة بينكم وبينهم قائمة، لكن لمن أدرك هذا المعنى .. وتمسك بهذه السلسلة من أولها إلى منتهاها.


من واجبنا تجاهكم ومنطق الوفاء معهم أن نخصص مثل هذا المجلس لنتحدث عن مناقبهم وما أدركنا من شؤونهم، لننتفع بها، ونقتدي بها، ولست من الجيل الذي أدركهم، وإنما أدركت سنواتهم الأخيرة. قد اكتحلت عيني برؤية بعضهم في هذه الممرات وهذه القاعات وهذا البهو وهذه الحديقة، وذلك في أواخر عهدهم بالكلية، في سنوات حياتهم الأخيرة. ولن يعكر علي صفو تلك الأيام، والتعلق بهذا المكان، مظهر غير لائق، أو تصرف غير مناسب رأيته هنا أو هناك.


ولعلنا سنلتقي قريباً لأحدثكم عن شيء من أحوالهم وشؤونهم التي شهدتها، عسى أن أكون من المنتفعين لا من الناقلين فحسب، فعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمات. 

تحميل