مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمد توفيق رمضان
التاريخ: 29/03/2014

الكلمة التي أرسلها د. توفيق البوطي إلى مؤتمر تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة

مقالات

الكلمة التي أرسلها الدكتور محمد توفيق رمضان البوطي
إلى مؤتمر تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد
فلعل المرحلة التي تمر بها أمتنا اليوم هي الأخطر في تاريخها، وإن الوضع الذي تعاني منه الدعوة الإسلامية هو الأصعب على امتداد الزمن، وإن صورة الإسلام قد تعرضت لإساءة وتشويه لم يسبق أن تعرضت لمثله.
ولئن تم تسويق ذلك كله تحت اسم الربيع أو الإصلاح أو الحرية أو غير ذلك من التسميات، ووصفت أنشطة الموغلين في هذه الحالة بالجهاد، فإن على كل غيور على دين الأمة وسلامة أبنائها وأرضها أن يكون أكثر يقظة ووعياً لما يتم في الساحة وان يضعه في موقعه الصحيح.
الدعوة الإسلامية التي لخصها من أنزلها بقوله: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) تحولت في أعين العالم بسبب هذه الأنشطة إلى مصدر رعب وإرهاب، وسفك الدماء ونشر الخراب.
ولئن كانت الرصاصة تقتل رجلاً، أو كانت القذيفة تدمر بناء، فإن الفتوى المنحرفة تدمر وطناً وتقتل أمة. بل لقد صرحت بعض الفتاوى بتسويغ القتل ولو استحرّ، وما زلنا نسمع بعض الأصوات التي تبارك القتل والتدمير، بحجة أو بأخرى.
إن المشكلة تجاوزت كونها حرباً على أنظمة أخطأت بحق شعوب، لقد غدت تشويهاً للإسلام ومبادئه، وطرحاً لأبشع الجرائم على أنها تمثل الجهاد، وأنها تتم في إطار نصرة الإسلام وإقامة دولته.
الفتوى اسم عظيم يحمل لوناً من القداسة إن صح التعبير، وكما قالوا: إن المفتي يوقع عن الله، فهو يروي حكم الله وينقل شرعه، فما يصدر على أنه فتوى يصدر على أنه دين الله وشرعه. وهذا يستلزم تحمل من يتصدى للفتوى مسؤولية عظيمة بين يدي ربه. وقد وصف الله تعالى أئمة مضللين في الأمم سابقة بقوله: (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) وإن من يشوه شرع الله بفتاواه، ويسوغ بها جرائم القتل والإفساد هو أشبه بالذين وصفهم الله في هذه الآية. فلئن كان أولئك يحرفون اللفظ فإن هؤلاء يحرفون المعنى ويكذبون على الله فينسبون إليه ما لم يأذن به الله.
لقد أفتوا بقتل كبار العلماء، واستباحوا ارتكاب أقذر الجرائم، باسم الإسلام. وإذا تصفحت وجوه فئتهم وجدت أمشاجاً أكثرهم لا صلة لهم بالإسلام، بل هم ممن يصنفون بين خصوم الإسلام وأعدائه.
وقفوا جميعاً صفاً واحداً يثيرون الفتنة، تارة باسم الحرية، وأخرى باسم الإصلاح، وتقف وراءهم جهات مشبوهة تؤيد دعواتهم، لا غيرة ولا محبة، ولكن لأن مصالح تلك الجهات تقوم على أنقاض وجودنا، ومن شأن هذه الدعوات أن تقوض وجود الأوطان وحضارة الأمم. وهل أبقوا على قرية لم ينشروا النزاع بين أبنائها؟ هل أبقوا على حي لم يثيروا الصراع بين أهله؟ بل هل بقيت أسرة لم تمزقها فتنتهم؟
لقد قاموا بدور الشيطان إذ حذر الله منه بقوله: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً).
لقد قلنا إن تصحيح الخطأ مطلوب، ولكن الحمى لا تعالج بالطاعون، وإن إنكار المنكر إذا ترتب عليه منكر أكبر غدا منكراً بحد ذاته.
إن بث روح الكراهية ضد رموز الهداية والدعوة قد جرى بصورة ممنهجة ومنظمة، خدمة لتحقيق أهداف هذه الفتنة التي بدأت، ولم تنته، ولا يراد لها أن تنتهي. والذين أوقدوا نارها سيحترقون بالنار التي أوقدوها. ولو تأملنا مجريات الأحداث ومفرزات ما جرى لاتضح لنا ما لا يمكن إنكاره. أرأيتم كيف تمارس جرائم القتل والذبح لكل من لا يوافق نهجهم، وأقل تهمة تسوغ لهم القتل: تكفيرهم لمخالفيهم. والتخريب والتدمير للمنشآت والمصانع والجسور والمساجد والمقابر .. مقترناً كل ذلك بشعار: الله أكبر !! ويمارس كل ذلك تحت أقدس اسم نعتز به: الجهاد !! والملفت للنظر أن وسائل الإعلام العالمية استطاعت أن تدخل بين هؤلاء وتصور فظائعهم وتنشرها في القنوات الإعلامية لتصور أمام العالم أن هذا هو الإسلام !!
الإسلام الذي قال فيه ربنا تبارك وتعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) التوبة6
الإسلام الذي قال فيه ربنا تبارك وتعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل125
(لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) البقرة256 ويقول فيه: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) الممتحنة8
الإسلام الذي علمنا رسول الله r منهجه بقوله:"يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا" والذي قال: لما كسرت رباعيته r وشج في جبهته فجعلت الدماء تسيل على وجهه وقيل: يا رسول الله ادع الله عليهم فقال r: "إن الله تعالى لم يبعثني طعانا ولا لعانا، ولكن بعثني داعية ورحمة، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون"
الإسلام الذي صنع حضارة لا يزال العالم ينعم بعظيم قيمها وخيراتها، غدا على أيدي هؤلاء وفي وسائل الإعلام المعادية إرهاباً تشمئز منه النفوس، وصوّرته الجرائم بصورة غيبت حقائقه الاعتقادية وقيمه الأخلاقية وحضارته الإنسانيه.
إننا مسؤولون بين يدي الله عن كل تقصير في إعادة الأمر إلى نصابه، بنشر الحق ناصعاً كما أنزله الله. مسؤولون بين يدي الله عن الصمت الجبان الذي نراه من كثير من الدعاة خشية أن يقال عنهم إنهم من شيوخ السلطان ... أو غير ذلك من معجم شتائم المتطرفين الذين حاربوا إسلامكم باسم الإسلام وشوهوا الإسلام بعباءة الإسلام.
إن الدعوة لا تعرف المجاملة ... بل تنتهج الخط الذي يحقق رضى الله رضي الناس أم سخطوا، وتنشر الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، شاء من شاء من الخلق أم لم يشاؤوا.
إن علماء الأمة والدعاة إلى الله فيها يجب أن يتحملوا مسؤولياتهم في حفظ سلامة الأمة وسلامة دينها وسلامة أوطانها بالعودة إلى النهج القويم في الدعوة إلى الله، وفي تصحيح صورة الإسلام بين أبنائه في الداخل وعند مخالفيه في الخارج. والمأمول من مثل هذا المنتدى والقائمين عليه أن يضعوا النقاط على الحروف ويجمعوا المخلصين من العلماء والدعاة لوضع برنامج واضح تصحح فيه المفاهيم وتزال غاشية التشويه التي اعترت مبادئ ديننا الحنيف لنتحمل مسؤولياتنا جميعاً في إنقاذ الإنسان من شر الإنسان. ليعيش في ظل الرحمة الإلهية التي تسعد في ظلالها المجتمعات الإنسانية، وتأمن فيها البشرية من التطرف والإرهاب، ويسعد فيه الرجل والمرأة والطفل. ويتجلى في الكون معنى قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)
قال تعالى: (قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
والسلام عليكم ورحمة الله

تحميل