وللحج أيضاً مشكلات دينيّة واجتماعيّة
وللحج أيضاً مشكلات دينيّة واجتماعيّة
كتبه العالم الرباني الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي عام 1979
في العام الماضي أُتيح لي أن أحجّ -وللمرّة الثانية في حياتي- إلى بيت الله الحرام وكانت المناسبة دعوة تلقّيتها من جامعة الملك عبد العزيز في مكّة لإلقاء محاضرة فيها على إثر موسم الحج.
وآثرت ألا أتصل أيام الحج بأي جهة رسميّة في المملكة، مفضلاً أن أندمج مع سواد الناس في أداء المناسك، متحرراً عن القيود، بعيداً ما أمكنني -في تلك الأيّام- عن المعارف والمشاغل، مؤملاً أن أتشرّف ولو بنصيبٍ من الصفة التي رغب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للحاج أن يتصف بها عندما قال: "الحاجّ أشعثُ أغبر".
ولكنّي ما عرفت إلا أخيراً بأن المعنى الذي قصد إليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بكلمتيّ: "أشعث أغبر" (وهو أن يكون الحاجّ متجرّداً عن الزينة والرفاهية، بعيداً عن الاهتمام بالمظهر والشكل، مخشوشناً في سائر أوضاعه وتقلّباته، مستغرقاً في مظاهر الذلّ والعبودية لمولاه عزّ وجلّ، ضمن مناخ من النظافة والطهر) لم يعد هو المعنى الذي يمكن تحقيقه في هذه الأيّام، وإنّما يمكن للحاج أن ينقلب اليوم أشعث أغبر بمعنى واحد، هو أن يبرز للناس وكأنّه خارج من تحت أنقاض، وأن ينسى كل ما هو بصدده من وظائف العبادة والعبوديّة لله عزّ وجلّ، ليتفرّغ لمدافعة أمواج العذاب والهلاك، وليدخل مع عباد الله الوافدين إلى بيته في مباراة صراع وطعان.
فلئن كانت مزيّة الشعَث والغبرة فيما مضى من تعاليم المصطفى عليه الصلاة والسلام أنّها توقظ الإنسان من سكرة الدنيا وأهوائها، وتقف به عبداً ذليلاً خاشعاً أمام ألوهيّة الله عزّ وجلّ ، ليس بينه وبينها حجاب، فإنّ مزيّة هذه الحال اليوم أنّها تشغله عن عبادته كلّها، وتفسد عليه خُلُقُه وحلمه، وتضرب بينه وبين حقائق عبوديّته لله عزّ وجلّ بحجاب صفيق من الخوف على المصير، وعواصف الضيق والتبرّم بسائر من حوله من الناس.
فلئن لم يرجع الحاج إلى بيته اليوم بأعباء جسيمة من الأوزار، لشدّة ما شُغل عن آداب المناسك وضوابطها، ولكثرة ما آذى الناس في سبيل التخلّص من زحامهم وإيذائهم ، فإنّه لجدير أن يُهنّأ لحظّه العظيم في حسن الخلاص، حتّى وإن لم يعد بشيء من المثوبة والأجر يدّخرهما لنفسه عند الله.
وإنّي لأذكر كيف أنّي أحجمت عن طواف القدوم إلى اليوم الثاني وربّما الثالث من قدومي إلى مكة المكرّمة، ثمّ اتّكلت على الله وغامرت كما يغامر رجل لا يحسن السباحة إذ يرمي بنفسه وسط يمّ متلاطم لا يتراءى له ساحل ولا قاع.
ولقد رأيتُني في أحد الأشواط وقد ذُهلت عن كلّ ما أنا بصدده من طواف وتلاوة ودعاء، فقد أطبقت عليّ الحشود المتلاطمة، وبدا لي أنّي سأغرق مختنقاً تحت وطأة الزحام، ولقد رأيتني مشدوداً مع ذلك إلى مشاعر مضحكة (وشرّ البليّة ما يُضحك) فإنّه لمضحك حقاً أن يكون الإنسان مقبلاً على الله تعالى في تبتّل وضراعة وخشوع، وإذا هو ينقلب فجأة إلى حيوان ضار، يدافع من حوله في سبيل البقاء، وقد تخلّت عنه وداعته وضراعته ونسي أذكاره وأوراده.
أمّا مخاطر رمي الجمار والمآسي التي تحدّق بأمكنته وما حوله، فسيء يفوق الوصف والتصوّر، ولم أجد فيما بدا لي أنّ شيئاً من الترتيبات والتنظيمات الجميلة قد حقق الغاية المرجوّة في الأمر.. لا لأنّ تلك الترتيبات أُقيمت على غير وجهها الصحيح، بل لأن من الطبيعي أن تتراجع آثارها الإصلاحيّة المفيدة إلى الوراء ما دامت الحشود تتضاعف، وما دامت السمة الغالبة على هذه الحشود هي الفوضى والعشوائية المطلقة.
وإنّه لمبعث للطرافة المؤلمة أن تقارن بين ما يذكره علماء الشريعة الإسلاميّة، من آداب الرمي وكيفيّته والأدعية التي ينبغي أن تقال بكل خشوع وضراعة بعد رمي كلّ جمرة من الجمرات في أعمّ الأحوال، فمن المستحيل بكلّ تأكيد أن يفكر الإنسان آنذاك بشيء آخر غير السعي إلى تخليص نفسه من الاختناق والهلاك.
والشيء الذي هو أخطر من هذا وذاك، على مستوى النطاق الصحي والاجتماعي والآثار السيئة، القريبة والبعيدة، على سمعة الإسلام والمسلمين في أذهان من نزعم أننا نسعى لدعوتهم إلى الإسلام، منظر آلاف من الحجاج وقد انتثروا في أرض العراء بمنى، يعومون بأرديتهم وأزرهم وسط أقذار ومياه آسنة، ومنظر جثث كثيرة ممتدة بينهم لا تدري أهي في حال موت أو حياة.
ولقد انتابني حالة من التمزّق النفسي وأنا أتأمل هذا المشهد، وأسأل نفسي: أليس هذا من المؤكد أنه يوجد بين هذه الحشود الكثيفة أناس ليسوا من الإسلام في شيء، ساقتهم إلى هذا المكان رياح الأغراض والمصالح، أو هم وافدون إلى الإسلام وهديه من جديد فهم لا يزالون من حقائقه ما بين مدّ وجزر، فماذا عسى أن يخلف هذا المشهد من الآثار في نفوسهم؟
وهل يتصوّر أن يسدل بينهم وبين الإسلام حجاب أغلظ وأصفق من حجاب هذه الحالة التي تفرض نفسها باسم الإسلام، وفي أقدس بلاد الإسلام؟
فهذه هي المشكلة.. وما أظن أنه يوجد في دنيا المسلمين كلهم من يزعم بأنها أمور طبيعية يقرّها الدين الحنيف، أو أنها مشكلات بسيطة لا تحتاج إلى أكثر من شيء من الصبر والتحمّل.
إذن فلنتساءل قبل عرض الحلول: ماهي الأسباب التي أوجدت هذه المشكلة أو ساهمت مساهمة فعّالة في تفاقمها؟
والجواب: أمّا الجهود التي انصبّت على التنظيم والتوسيع والتنظيف، فلا نشك أن المملكة السعودية قد أنجزت من ذلك ما قد تعجز عن إنجازه أي دولة أخرى. غير أن هذه الجهود مهما عظمت واتسعت فهي محصورة -بطبيعة الحال- في نطاق مكاني محدود. فماذا عسى أن تحقق هذه الجهود وأضعافها، إذا ضاق المكان كلّه عن الهضم والاستيعاب؟ ماذا عسى أن تفعل بالإناء الذي لا تملك غيره.. إذا فاض بالماء حتّى انساح أكثره على الأرض؟
إذن فالمشكلة تكمن في المتدفقين على المكان، ولم تعد محصورة في سياسة المكان وأمر تنسيقه.
وهنا، لا أجد ما يصدّني عن القول بأنّ السعي للحج إلى بيت الله الحرام قد غدا في هذه السنوات الأخيرة، عند كثير من الناس لوناً من المتعة، وفنّاً من فنون السياحة، كما أصبح لدى آخرين منهم موسم تجارة وربح.
ذلك لأن أسباب الحج قد تيسّرت في السنوات الأخيرة بشكل لم يكن متوقعاً. وقد عبّدت (إلى جانب خطوطه الجوية والبحرية ) خطوطاً برّية، فلم يعد عسيراً على كل صاحب سيّارة أن ينظم مع أصدقائه رحلة حج يفرش طريقها بألوان السرور والمتعة، ويملأ أيامها بمجالس البهجة، ويحيي لياليها مع أصدقائه بحفلات (التجلّي) والطرب، ثم يعود من رحلته موفور الراحة والمال، وأمر طبيعي لهذا الذي ذاق (طعم القرب) أن يشد الرحال إلى الحج في كل عام.
كما لم يعد مجهولاً أنّ كثيراً من أصحاب التجارات والصناعات والأعمال اليدويّة المختلفة يرون في أشهر الحج موسماً تجارياً هاماً، ما ينبغي أن يضيع سيما والطريق معبّد، والسيّارة موفورة، ولسوف يعود الكل بالربح والفائدة بدلاً من تحمّل الخسران والنفقات.
وثمّة فريق آخر (يشكل السواد الأعظم) يندفع إلى الحج بما يتوهّم أنّه الشوق إلى بيت الله الحرام، والرغبة في الأجر والثواب، ولكنّه لو محّص النظر لعلم -كما يقول الإمام الغزالي- أنّه مندفع إلى ذلك بأهواء نفسيّة ورغبات دنيوية، ولعلم أنه ربّ جذوة شوق تشتعل في الفؤاد على البعد حنينيً إلى بيت الله الحرام أيّام الحجيج، تُقرّب صاحبها إلى الله أكثر من الذين أطفؤوا تلك الجذوة بالوصول إلى المسجد الحرام والارتماء على التحطيم والمقام. لأن هؤلاء إنّما أطفؤوها بإعراضهم عن واجبات ومصالح دينية أهمّ عند الله من حجّهم الذي حققوه، أمّا أولئك فإنّما تحمّلوا وطأة الشوق والبعد، رغبةً في تحقيق ذلك الأهم في ميزان مرضاة الله عزّ وجلّ، فلا جرم أن الله يكتب لهم أجر الحج الذي فاتهم، والصبر الذي اعتلجت ناره في أفئدتهم، والقربات التي حال اهتمامهم بتحقيقها دون الاشتراك بجسومهم وأشباحهم في زحمة الحجيج.
فمن هذا الفريق: أناس يتبرمون بأعمالهم ووظائفهم التي يحصرون جهودهم في محيطها المكاني والرماني على مدار السنة. بقطع النظر عن نوع هذه الوظائف دينية كانت أو دنيوية، فيلجؤون في كل عام تقريباً إلى رحلة الحج، يتخذون منها نافذةَ تنفس وسبيل إجازة واستجمام، دون أن يتأملوا في الموازنة بين مصلحة استمرارهم في الوظائف التي أنيطت بهم ومصلحة السعي إلى مناسك الحج، بمقياسٍ صافٍ دقيق من النظر في مرضاة الله عزّ وجلّ .
ومن هذا الفريق أناس يشدّهم (الشوق المستعر) إلى الانسياق في قوافل الحجيج، وذممهم مشغولة بحقوق مالية للآخرين دون أن يحملهم ما يكافئ ذلك الشوق من مشاعر الخوف من الله تعالى على أن يسالوا أنفسهم: أيجوز مثل هذا السفر لمثل هذا الإنسان؟ ولو أنهم فعلوا ذلك لعلموا أنه لا يجوز للمدين أن يسافر من بلدته إلى أي جهة، لأي عبادة أو غرض، إلا بعد أن يوفّي دينه أو يستأذن غريمه.
ومن هذا الفريق أيضاً أناس آخرون تعوّدوا الحج في كل عام، وتعوّدوا البذل والسخاء في سبيله، مع أنّ لهم أولاداً بلغوا سنّ الزواج وأصبحوا يعانون من وطأة العزوبة ومن مخاطر الانحراف، يسترحمون آباءهم بلسان القول والحال أن يوفروا شيئاً من هذا المال الذي ينفقونه في سبيل إعفافهم، ولكنهم عن هذا الواجب معرضون، فأي قيمة تبقى لوجد هذا الحاج أو تواجده الذي لم يشكل أكثر من حاجز دخاني كثيف، صده عن التنبه إلى عظم جريرته وعن سماع قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما روى البيهقي وغيره: "من ولد له ولد فليحسن اسمه وأدبه، فإذا بلغ فليزوّجه، فإن بلغ ولم يزوّجه فأصاب إثماً فإنّما إثمه على أبيه".
ألا فليعلم عوام المسلمون وكثير من متعلميهم، أن من أخطر الآفات على الدين أن يخلط المسلم بين متعة النفس لركونها إلى كثير من أهوائها الظاهرة أو الخفيّة، وبين ما يسمّى بالتجلّيات الدينيّة أو الانشراحات الروحانيّة، ولو أنهم أمعنوا ودققوا -كما يوصي بذلك العلماء الربانيّون- لاتهموا أنفسهم في تحليل هذه التجلّيات وأسبابها، ولعلموا أن مداخل الشيطان في التلبيس على النساك والمتعبدين أخطر من المزالق التي يضعها تحت أقدام الفسّاق والمارقين.
فإذا تجلّت منابع المشكلة من خلال هذه النماذج التي ذكرناها فمن الواضح بأن الحل إنّما يكمن في العمل على تنظيم روافد الحج على ضوء المشكلات التي ذكرناها، وذلك بأن تفتح سبل الحج بالدرجة الأولى بل مع ما يزيد من التسهيلات، أمام هؤلاء الذين لم يؤدوا فريضة الحج بعد، أما الذين يغاودون الحج نافلة -ولعلّهم يشكّلون نصف الحجيج على أقل تقدير- فما ينبغي أن يترك الأمر بالنسبة إليهم -وإن الحال كما وصفناه- طليقاً عن القيود والأنظمة التي من شأنها أن تخفف من وطأة الزحام وتيسر لإخوانهم الذين لم يحجوا بعد سبيل القيام بمناسك صحيحة منضبطة مقبولة .
وإنّ الحديث حول رسم هذه القيود والأنظمة وبيان طبيعتها، حديث متشعّب طويل الذيل، لامجال للخوض في تفصيلاته، في مثل هذا المقال. غير أني أجزم بأنّ العمل على تطبيق هذه الانظمة والقيود، على صعيد البلدان الإسلامية المختلفة -بالتعاون مع المملكة العربية السعودية- لا يتوقف على جهود كبيرة، ولا تعترضه مشكلات عويصة، إذا ما توفر حسن النية وسلامة القصد إلى جانب الجرأة في الحق.
على أني أجزم بأن وضع مثل هذه الترتيبات، وإن كان الخطب فيها يسيراً، يحتاج -كما يقترح كثيرون- إلى مؤتمر يعقد لهذا الأمر بخصوصه، فليس موضوعه أقل أهمية من الموضوعات الأخرى التي تتلاحق من أجلها المؤتمرات -هنا وهناك- ومهما يكن من أمر فإنني أجزم بأنّه لو بعث فينا عمر بن الخطاب، وهو الذي كان يستعجل الناس إذا انقضى الحج أن يرجعوا إلى بلادهم، وينادي فيهم:
يا أهل الشام شامكم.. ويا أهل اليمن يمنكم.. حذراً من عواقب الازدحام المختلفة -ورأى حالة الحجيج اليوم لما ترك الأمور تسير على سجيّتها، ولصدّ كثيراً من الناس حج، خير لهم عند الله تعالى أن يحبسوا أنفسهم عنه في بيوتهم، ليوسعوا على إخوانهم الذين لم يكتب لهم أداء مناسك الحج بعد.