رسالتنا والحرية
رسالتنا والحرية
د. محمد سعيد رمضان البوطي
من الكلمات التي تأخذ مكانا متألقا من صفحة مجتمعنا اليوم، وتتجلى فيه بأحرف لماعة وضيئة، كلمة: (الحرية)... الحرية بمعناه العام، أي الحرية في القول، والحرية في الرأي، والحرية في العمل السلوك... وإلخ، ولعلك تستطيع أن تقول إنها كلمة الموسم في هذا العصر، أي إنها كلمة القرن العشرين... أي الكلمة الدولية التي تجري على كل لسان، وتمر بكل حلم.
ومن شأن مثل هذه الكلمات التي تستأثر باهتمام الأفراد وحماسهم، وتتخذ قرارها المكين في أحلامهم وأفكارهم، أن تكون قد أذيبت دراسة وتحليلا، وفهما للمصدر الذي أتت منه والنتيجة التي تنتهي إليها، ولكن في اعتقادي أن كلمة (الحرية) مع أنها تحتل مكان الصدارة من الأحلام والألسن، ومع اكتناف التعليقات والشروح بها، لا يزال معناه خفيا عنا، ولا نزال بعيدين عن تحليل مصدرها وموردها وطبيعتها.
إن علينا قبل كل شيء أن ندرك أن ميلاد هذه الكلمة في الأذهان، يرجع إلى أواسط عهد الاستعمار في بلادنا، ولعل من الغريب في الأسماع أن نقول بأنها كلمة ولدتها سياسة الاستعمار نفسه... فكيف ذلك؟ ولماذا؟
إن روح التحقق في الواقع من الأمور الطبيعية التي تركن إليها النفوس، ويلذّ لها الانطلاق في ميدانها، ولا ريب أن جثوم المستعمر فوق صدور الأمم يعني انغلاق أوسع باب لهذا الميدان في وجهها، والنتيجة الطبيعية لذلك أن تتجمع في النفوس عوامل الثورة للانقضاض على ذلك الباب وتحطيمه...
ولكي يتفادى المستعمر هذه النتيجة، فقد كان من خبثه ومكره أن يشغل النفوس عن الانتباه إلى القفل الكبير الذي أوصد به بابها الطبيعي الشرعي إلى ميدان التحرر، وذلك بصرفها إلى المنافذ والثقوب التي أوصدتها-لحكمة- الشرائع والمبادئ والتقاليد، وغايته من وراء ذلك أن يحيل –بالتدريج– مظهر الباب المقفول أمام تلك الشعوب ظلماً وعنواناً، إلى مظهر جدار طبيعي قائم، لا يعقل أن يهدم أو يثقب، أما مجال الانطلاق والتحرر الإنساني فهو تلك النوافذ الأخرى التي أغلقها ما يسمونه بالشرائع والأخلاق همجيةً ورجعيةً وظلماً!!
وإن كلاً منا يذكر فرنسة -يوم كانت جاثمة في بلادنا– كيف كانت تسلك بنا هذا السبيل الماكر إلى تلك الغاية، لقد كانت تغرينا باسم رسالتها الحضارية والتحريرية، بتحطيم كل ما ورثناه عن تاريخنا وما عرفناه من مقوّماتنا وأخلاقنا، لأن كل ذلك في نظرها أغلال، أغلالٌ تقيّدنا وتحرمنا من متعة المدنية الحديثة وحضارة القرن العشرين التي قامت على تحقيق كل رغائب الإنسان.
ولقد عرفت فرنسة، وعرف كل عاقل وأحمق على وجه الأرض، أن فرنسة لم تكن لتقلق إلى هذا الحد من أجل راحتنا ومن أجل أننا لا نتمتع بكل رغائب الإنسان، وما كان كبدها ليحترق كل هذا علينا من أجل أننا مقيدون في الأغلال...
ولكنها كانت تحرص على أن يكون سبيلنا الطبيعي في التحرر والاستقلال بعيداً عن مجال منفعتها منا، نائيا عن الطريق الذي تمتص منه حقنا وكرامتنا، وليمن ذلك السبيل منحرفا بعد ذلك نحو أي جهة أخرى، ليكن جاريا على حساب ديننا ومبدئنا وتاريخنا.. فإن لها في ذلك تجارة بربحين، ربح استغلالها لبلادنا وحقنا، وربح تحطيم مبادئنا والثأر من ديننا وشريعتنا.
والشيء الثاني مما يجب أن ندركه بدقة، هو أن من المستحيل أن يتمتع إنسان ما بحرية تامة نزيهة كما نتخيل أو نظن، وكلمة الحرية لا يمكن أن تتحمل كما يحمّلها بعض الناس من أمان وغايات. إذ إن دوافع الإنسان نحو سلوك ما محصورة في ثلاث قوى. فإما أن تكون العقل والمنطق السديد، أو دافع التشبه والتقليد (وهو دافع نفسي برأسه لا يستمد قوته لا من العقل ولا من التشهي)، أو دافع الشهوة والأهواء.
فالإنسان على كل حال مستعبد استعباداً كاملاً لأحد هذه الدوافع الثلاثة، ولئن استطاع أن يتحرر عن توجيه الموجهين وتقليد الآخرين فإنه لن يستطيع أن يتحرر من كلا السلطانين الآخرين، ولئن استطاع أن يفلت من سطوة أحدهما فما من شك في أنه سيظل مستعبدا لسطوة الثاني.
ولكن تحت أي هذه القوى يضع الإنسان تصرفه، ولأي مملكة من هذه الممالك ينضوي ويخضع؟ إن الإنسان هنا فقط يملك حرية تامة صحيحة، وفي هذه اللحظة فقط يستطيع لأن يشعر بامتلاكه لزام أمره، فهو يملك خياراً تاماً في أن يسلم زمام أمره إلى أيّ هذه السلطات يشاء.. وعليه في تلك اللحظة أن يفكر في البحث عن أنبل تقيد وأشرف استعباد وأعدل سلطة من هذه السلطات.
ومن منا لا يدري أن أعدل مملكة من هذه الممالك الثلاث هي: المنطق والعقل المتدبر الحكيم؟ ومن منا يجهل أن أشنع استعباد وأرذل تقيد هو ما جاء عن سيطرة النفس الثائرة والنزوات العابرة والتقليد الأعمى؟
إن كثيرا من الناس ينادون دائماً بالحرية، يدعون إليها في كل مجال، ويحببونها إلى كل عقل، ويدخلون هواها في أذهان الناشئة من هذه الأمة، ولكن ألا يجدر بنا أن نمعن في واقعنا الذي نعيش فيه لنتبين مدى اقترابنا من هذه الحرية وتلمسنا لها؟ لقد أرادوا أن يكونوا أحراراً في كل اتجاهاتهم، فماذا فعلوا حين أرادوا ذلك؟ لقد استجمعوا جرأتهم ثم قفزوا قفزة جعلتهم من هذه الحرية أبعد ما يكونون!
ولقد كانت النقطة التي قفزوا منها هي تراث هذا الشرق العربي الإسلامي...
صحيح أنه تراث لا تتراءى فيه روح التلفت، ولكنه على كل حال يأبى أن ينحني وينقاد يوماً ما إلا لسلطان العقل وحده، وشعاره في سلوكه دائماً هو: خذ "الحكمة"... ولا تبال من أي وعاء خرجت.
أما النهاية التي قفزوا إليها، فهي شهوات أوربة ومدنية أوربة.
صحيح أنها نهاية متحررة عن تقاليد الشرق وشعاره، ولكن من الذي يجهل أنهم تحرروا من هناك ليتصاغروا مستذلين تحت سلطان النزوات البدائية والتقليد الأصم الأبكم هنا؟ أما شعار هذين السلطانين فهو: متَّع حيوانيتك، ولا تبال أكانت حكمة أم جنوناً.
أما الطاقة التي دفعتهم إلى تلك القفزة فليست هي الروح التحررية كما وهموا، ولكنها استجابة لتلك الحيل الاستعمارية التي كانت تسير نحو غاية مرسومة طبق مصالحها. ومهما يكن من أمر الاستعمار معهم بعد ذلك، فإن تلك الاستجابة لديهم ليست سوى إشارة إلى مكان المملكة الاستعمارية الجاثمة في نفوسهم.
وقد يدافع هؤلاء عن أنفسهم فيقولون: إن ما نريده هو أن تنجلي عن بلادنا يد الاستعمار وجيوشه، وما دام هذا قد تم فلنا أن ندع ما نشاء ونأخذ غيره.
فانظر! أليس هذا منطق قوم يعترفون بضعف كينونتهم، وبأنهم فقراء الشخصية والإبداع، لا مندوحة لهم عن الاتكاء على عصا الغرب أو الشرق، ولا غنى لهم عن استجداء مناهج الحياة ومقوماتها من الآخرين، فضلاً عن أنهم لا يملكون عقلاً يستطيع أن يدرك أنهم حملة رسالة... قادة اريخ... ورثة مبدأ ونظام وشريعة.. ومن ثم فهم لا يملكون شخصية معتزة تستطيع أن تهضم فلسفة الحياد الإيجابي وتتبنى المساهمة في إرسائه وتقريره.
ومثل هؤلاء الناس حينما يحاولون أن يتحدثوا عن القومية العربية، يبتعدون بمفهومها ما أمكن عن ظل المبادئ وتبعة الرسالة، وحينما يريدون ان يكونوا بارعين في تحليل مفهوم القومية العربية لا يزيدون على جعلها نتيجة تفاعل نفسي في أمة اتحدت في اللغة والمشاعر والبقعة الجغرافية! ولعلك تحسُّ كيف أن هذا التعريف يصور لك القومية العربية أشبه ما تكون بعائلة متكتلة منعزلة، كل ما تبتغيه هو أن تغلق على نفسها باب دارها لتستقر في ركنه بأمان.
ولو أن قادة العرب السابقين ممن صنعوا تاريخنا العربي، فهموا القومية العربية على هذا الشكل لما كان للعرب اليوم أرض من عالمنا هذا سوى شبه جزيرتهم المنعزلة القديمة التي تحُدّها سورية من الشمال، والفرات من الشرق، والبحر الأحمر من الغرب، فذلك المكان هو وحده مهدهم الجغرافي، وهم وحدهم الذين كانت تجمعهم اللغة العربية، وهم وحدهم الذين كان يشيع فيهم الشعور والدم العربي كما يقولون.
ولكن التاريخ العربي لا يتعرف على هذه الصورة المتقلَّصة الرجعية عن مفهوم القومية العربية، إنه يعرفها بالشعور العربي الذي يتوحد على رسالة ويجتمع على محور من المبدأ، ثم يتحمل في ثورة موحدة تبعة أدائها ونشرها في كل جهات العالم. ومن ثم فقد استطاعت القومية العربية أن تقتلع جدران حدودها الجغرافية، ثم تتمطّى وتنتشر في شرق العالم وغربه، وإذا بمملكة فارس ودولة الرومان، وإذا بشرق العالم إلى الصين وغربه إلى أواسط أوربة، إذا بكل تلك الأصقاع فروع للجزيرة العربية، وإذا بمعظم أهلها ينطقون بلغة الضاد، وإذا بهم يتخذون أمكنتهم أعضاء عاملين في مجلس القومية العربية!
وسبب ذلك أن القومية العربية -في تاريخنا العربي- إنما قامت على مبدأ.. مبدأ لا يعترف بأنانية ولا يحصر الخير لطائفه أو عنصر أو جماعة، شأن القوميات الأجنبية الأخرى التي حدثنا عنها التاريخ.. وإنما هو مبدأ يصنع السعادة لكل من على هذه الأرض ويمد ظلال الأمن والسلامة في كل شعب وأمة، ومن ثم فقد كان هذا المبدأ عمادها الذي عصمها من الانهيار، وطاقتها التي بعثت فيها النمو والاتساع، وكان هذا المبدأ هو رسالة الإسلام... رسالة العرب إلى العالم..
غير أن هؤلاء لا يريدون القومية العربية كذلك.. إنهم يريدونها رجعية تنفصم عن المبدأ، وتتراجع متصاغرة متضائلة إلى داخل جغرافيتها الصغيرة التي انطلقت منها، وهم بذلك يناقضون انفسهم مناقضة صارخة في زعم أنهم تقدميون! فلماذا؟! لماذا يريدونها ممسوخة كذلك؟!
إنهم يشتهونها هكذا لأنهم يتضايقون من تبعة المبدأ، ولأنهم مقيدون، مقيدون بأغلال (الحرية) ولذلك فهم ليسوا على استعداد لتجديد رسالة وقيادة مبدأ، وخير ما يجمع لهم بين التحرر من تبعة المبادئ والتقاليد، ومظهرهم القومي العربي، هو أن يفسروا القومية العربية هذا التفسير الذي لا يحوجهم إلى تعب ولا يقيدهم بشيء.
فخير لنا جميعاً أن نحطم أغلال هذه (الحرية).. ونستبق إلى إحياء تراثنا.. ومبادئنا.. وأخلاقنا.. لنعيد اليوم الذي يحدثنا عنه التاريخ بأننا كنا متبوعين لا تابعين.
ولنعلم جميعاً أن الإنسان لن يستطيع أن يكون حراً في ذاته مهما جهد، ولكنه يستطيع أن يتقرب إلى الحرية، وإن أقرب ما يكون الإنسان إلى الحرية حينما يسلم مقادته لعقله ويدخل تحت سيطرة تفكيره السليم، وإن أبعد ما يكون الإنسان عنها حينما يستذلُّ لهواه ويستكين إلى نفسه ويركن لحيوانيته.