مميز
EN عربي
الكاتب: ابنة الشيخ
التاريخ: 20/08/2013

الشَّيخ وهبي سليمان غاوجي

تراجم وأعلام

نبذة من حياة والدي الشَّيخ وهبي سليمان غاوجي رحمه الله

بقلم ابنة الشيخ رحمه الله تعالى

الحمد لله على كل نعمه وآلائه, الحمد لله الذي أكرمنا بالإسلام وبنبيّنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم خير رسله وخاتم أنبيائه. والصلاة والسّلام الأتمّان الأكملان على المبعوث رحمةً وهدايةً ونوراً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدّين وبعد.

فإن الله تعالى أرسل إلينا رسوله محمداً صلَّى الله عليه وسلَّم بهذا الدّين العظيم ليكون لنا قدوةً عمليَّةً في تطبيقه، فكان الإسلام كلُّه متمثلاً في شخصه صلَّى الله عليه وسلَّم، وذلك من رحمته تعالى بنا ليسهِّل علينا تطبيق هذا الدِّين من خلال محبة هذه القدوة العظيمة وتلمُّس خطاها في كلّ صغيرة وكبيرة.

فكانت السّنة النبويّة المطهّرة الّتي نَقَلت للأجيال من بعده كلَّ أقواله وأفعاله وصفاته وأخلاقه، فوصلتنا ناصعةً واضحةً تنير دروبَ السَّائرين إلى الله إلى أن يرثَ اللهُ الأرض ومن عليها.

ثمّ كان من تمام نعم الله أن أكرمنا بورثة الأنبياء، العلماء والدّعاة المخلصين، الّذين ساروا على طريق رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم وأحبّوه فكانوا نعمَ القدوة لمن حولهم.

وكان من بين هؤلاء العلماء العظام والدي الشّيخ وهبي سُليمان غاوجي رحمه الله. الّذي عاش حياته كلَّها عالماً عاملاً داعياً إلى الله ورسوله مُحبّاً للسّلف الصّالح وسائراً على نهجهم إلى أن توفّاه الله. ورأيت أنّه من الواجب أمامَ الله أن أعرّف بهذه القدوة العظيمة الّتي كانت عظيمةً بقدر ما أحبّت وأطاعت الله ورسوله وبقدر ما نصرت دين الله وأعزّته في نفسها ومن حولها.

أردتُ أن أُعرَّف بهذا العالم الرّباني الصَّالح وأنشرَ سيرته لعلَّنا نحن أبناءه وأحفاده ومن عرفه ومن لم يعرفه أن نتأسّى به ونسيرَ على خطاه، ونأخذ من حياته ما يعيننا على السّير في درب الله في زمن كثرت فيه الفتن وندرت فيه مشاعل النّور الحق الذّين يستضاء بنورهم، وأن نعلم أن المسلَّم قادر بعون الله ولو في أحلك الظروف والفتن أن يجاهد نفسه ويحملها أن تكون في كل أمورها على المنهج الربّاني القويم فتذوق سعادة الآخرة مهما طال الطريق وصعب، فالجنّة عروس مهرها النّفوس، نسأله تعالى أن يثبتنا على طريقه المستقيم الّذي سار عليه سلفنا الصّالح وأن يعيننا ويتولَّانا برحمته ويكرمنا كما أكرمهم ويجمعنا بهم في الفردوس الأعلى من الجنة إنه سميع قريب مجيب.

ولعلني في هذا المجال أذكر أهمّ ما كان يحرص عليه والدي رحمه الله وما رأيت منه خلال وجوده معنا لنقتدي به ولنتعلم منه :

· حرصه على طلب العلم وحبُّ تعليمه:

كان حبه لطلب العلم من أهم ما تميَّز به رحمه الله، بل كانت حياته كلّها في طلب العلم وتعليمه بدءاً من هجرته من ألبانيا إلى الأزهر وهو في سن الثالثةَ عشر طالباً للعلم، وانتهاءً بآخر أيامه في مرض وفاته في المستشفى حيث يعرض عليه بعض تلامذته كتاباً ليجيزه في تدريسه.

أحبَّ العلم وانكبَّ على دراسته وانهمك في تحصيله من أول ما دخل الأزهر الشّريف، وكان اختلاف اللّغة داعياً للمزيد من الجهد الكبير والسّاعات الطوال الّتي يقضيها في غرفته منعزلاً عن كلّ ما يشغله من أمور الدّنيا حوله والتي كانت تشغل غيره من الشباب. وكان كثيراً ما يحمد الله على أنَّه حفظ عليه دينه في غربته وحبَّب إليه العلم، ثمّ بعد ذلك لم يكن يكتفي بكتب الدّراسة بل كان شديد الحرص على اقتناء الكتب المفيدة من راتبه الّذي كان بالكاد يكفي لطعامه ولو بات يومه ذلك طاويا،ً إلى أن تخرّجَ من الأزهر الشّريف -بعد أن أخذ من علمائه الكثير- بإجازة من كلّية الشّريعة وإجازة في القضاء في الواحد والعشرين من عمره، ليبدأ رحلة التّعليم المبكّرة والّتي امتدت إلى آخر أيَّام حياته. درَّس في مدارس سوريا ما يقرب من عشرين سنة ثم في السُّعودية ثمّ عاد إلى سوريا يدرّس في مدارسها حتّى سنّ التّقاعد، ليكمل التّدريس في الجَّامعة الإسلاميِّة في المدينة المنوّرة ثمَّ إلى الإمارات في كلّيّة الشّريعة للبنات الّتي كان أول من درّس فيها منذ افتتاحها، وبقي فيها خمس عشر سنةً ليعود فيقضي آخر سني عمره في دمشق، يدرس في معهد الفتح الإسلاميّ للإناث حتّى قبل وفاته بسنتين وهو في سن الثامنة والثمانين.

رحلةٌ طويلةٌ أفاد منها الكثيرين وهدى الله الكثير على يديه، ولقد التقيت بكثيرٍ ممَّن درَّسهم فتحدَّثوا عن صدقه في إيصال العلم إليهم بأسلوبٍ محبَّبٍ وقلبٍ حاضرٍ وبسمةٍ هادئةٍ تنير وجهه دائماً ونصيحةٍ بين الفينة والأخرى تشحذ الهمم وتذكّر الغافل.

كذلك كان في أهل بيته وأقربائه لا تخلو جلساته من حديث يشرحه أو نصيحةٍ يقدّمها بحبٍّ وحرصٍ على الخيرِ لمن حوله أو كتاب يقرأ منه, كان لا يرضى أن يجلس جلسةً دون تذكيرٍ بالله أو علمٍ ينفع به غيره ولو دقائق معدودة، ولقد كان يحثُّنا نحن أولاده وأهل بيته على طلب العلمِ منذ الصغر، يقدِّم لنا الكتب المناسبة كلٌّ حسب عمره من مكتبته الّتي تحوي آلاف الكتب الّتي جمعها في رحلته العلمية الطويلة في الفقه والحديثِ والتفسيرِ والسّيرةِ وغيرها، وكان يحبُّ أن يرى الجميع في أوقات فراغهم بين الكتب كما كان يفعل، بل كان يحثّنا على تعليم بعضنا فكان يعطيني الكتاب (وكنت أكبر أخوتي البنات) لأقرأ منه على إخوتي كلّ يوم نصف ساعة بعد أن يشرح لي ما عَسُرَ فهمه ويجعلني مسؤولة عن متابعتهم.

كانت له دروسٌ كثيرة غير التدريس في المدارس، أذكر منها تدريسه في السَّبعينيات في جامع الرّوضة في دمشق وجامع الدّلاميّة، يدرِّس التَّفسير غالباً، كذلك كانت له دروسٌ لطلاب العلم في بيتنا، يدرّس الفقه الحنفي وغيره من العلوم, كذلك كانت له دروس في الأردن حيث أقام بها عامين.درّس أيضاً في الإمارات في بيته للرجال وأيضاً دروساً خاصَّةً للنساء.

لقد كان بعيداً عنا خارج سوريا ما يقرب عشرين عاماً، كان يشجِّع طلَّاب العلم الّذين يأتون إليه فيعلِّمهم ويدعمهم ويعينهم مادِّياً ومعنويَّاً، فمن كان يريد كتابة رسالة للدَّكتوراه مثلاً يعطيه الموضوع والمراجع ويشرف عليه، كذلك من أراد أن يأخذ إجازةً في تدريس كتابٍ معيّنٍ يقرأه عليه ويشرحه له، كذلك كان له جهده الكبير في الطَّلبة الألبان الَّذين كان يأتي بهم من ألبانيا ويسجّلهم في معهد أبي النّور، ويتابعهم علميّاً ودينيّاً وماديّاً إلى أن يتخرَّجوا دعاةً ليعودوا إلى بلدهم ويحضر غيرهم، وذلك بدءاً من سقوط الشيوعية عام 1990م فقد كانت ألبانيا قبلها مغلقةً تماماً يُمنع أن يدخلها أحد أو يخرج منها أحد، فلمّا فتحت أبوابها كان يذهب صيف كلِّ عام إليها وهي بلده الأُمّ وكان ما يزال يتقن اللّغة بأسلوب متميِّز ليدعو إلى الله هناك ويستقدم طلّاباً من الذُّكور والإناث للدِّراسة العربيَّة والشرعيَّة في معهد أبي النّور، وبقي على هذه الحال عدة سنوات كذلك أسس هناك مدارس شرعيَّة للذكور والإناث، ومن يتخرج من سوريا من الطلاب كان يدرس في هذه المدارس الّتي يدعمها والدي مادّياً ويؤلف لهم الكتب الشرعية المدرسيّة، كما أمَّن المطبعة التي تطبع لهم هذه الكتب، يساعده في هذا الدّعم الماديّ أهل خيرٍ صلحاء يبتغون الأجر من الله وما تزال هذه المدارس إلى الآن والحمد لله.

· مؤلَّفاته:

أما رحلته في التَّأليف فقد بدأت بمقالات في كثير من الجرائد والمجلات من أولى أيامه، وفي آخر الأربعينيات من عمره بدأ بتأليف الكتب باللغة العربية، فكان أول كتاب ألفه (أبو حنيفة النُّعمان إمام الأئمة الفقهاء) كان والدي حنفيَّ المذهب محبَّاً للإمام أبي حنيفة حبَّاً جمَّاً، فقد كان مذهبَ والده وموطنه في ألبانيا شأنَ كلِّ دول أوربا الشرقية التي فتحها العثمانيون ونشروا فيها المذهب الحنفيِّ، فقد كان جدِّي رحمه الله أيضاً عالماً فاضلاً ومجاهداً صادقاً لا تأخذه في الله لومة لائم، هاجر من ألبانيا مع زوجه وأولاده تاركاً بيته وأمواله وأراضيه إلى بلاد الشام المباركة حيث أوصى الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم بالهجرة إليها بعد وفاته ليحيى بالإسلام العظيم متمسِّكاً بكلِّ ما فيه.

أوَّل ما قدم هذه البلاد واستقرَّ بالديوانية بنى المسجد مع المهاجرين أمثاله من الألبان وما يزال هذا المسجد حتَّى الآن، كان يدرِّس فيه ومن بعده كان والدي يخطب فيه للجمعة في أولى أيَّامه.

أيضاً من مؤلَّفاته رحمه الله (المرأة المسلمة)، (أركان الإيمان)، (أركان الإسلام) الَّذي كان يُدرَّسُ في معهد الفتح، (الكافي في الفقه الحنفيّ)، (الحياة الآخرة أحوالها وأهوالها(، (كلمة هادية في البدعة وأحكامها)، (محمَّد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم والذين معه رضي الله عنهم)، (الطريق إلى الجنة)، (جابر بن عبد الله)، (إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي)، (مسائل في علم التَّوحيد)، (سهام طائشة عن الفقه والحمد لله)، (محاضراتٌ في تاريخ الفقه الإسلامي)، (من قضايا المرأة المسلمة), (محاضراتٌ في تاريخ الفقه الإسلامي), وكان آخر كتاب كتبه في فضائل الصَّحابة آخر سنة من حياته لم يطبع بعد، وله أيضاً كتابان آخران لم يطبعا.

حقَّق من الكتب أيضاً: ملتقى الأبحر، إيضاح الدَّليل في قطع حجج أهل التَّعطيل، كما علَّق على كتاب مَحْقُ التَّقُول في مسألة التَّوسُّل.

ألَّف بالُّلغة الألبانيَّة ما يزيد على ثلاثين كتاباً في العقيدة والفقه والسِّيرة وما يلزم في أمور الدّين، لأنه كان يشعر بعظم مسؤوليّته تجاه الألبان.

عمرٌ طويلٌ قضى أكثره في العلم الشرعيّ الَّذي كان يخدمه بحب وحرص وإخلاص وفي حثِّ أولاده وطلَّابه وأحفاده دائماً عليه، نسأل الله تعالى أن يجعله له ذخراً وصدقة جارية لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم "أو علم ينتفع به".

· حرصه على الاستفادة من الوقت:

من أهمِّ ما تميَّز به رحمه الله طوال حياته حرصه الشَّديد على الاستفادة من الوقت, فكلُّ وقته مليءٌ بما ينفع, ينظِّم وقته بالدّقائق لا بالسَّاعات, فلا تكاد دقيقةٌ تخلو من حياته من عمل, يبدأ يومه بصلاة التَّهجد ثم صلاة الفجر ثم قراءة القرآن والذّكر إلى أن تطلع الشَّمس ليصلِّي بعدها الضُّحى، ثم يأكل لقيماتٍ ويذهب إلى التَّدريس في المدرسة أو الجَّامعة، ثم يعود فيتناول غداءه ثم ينام لمدة لا تتجاوز العشر دقائق في الشِّتاء وتطول أكثر من ذلك في الصَّيف، ثم يصلِّي العصر ويجلس مع أهله في مسامرة لطيفة يسأل فيها أولاده عن أحوالهم ثم يقوم إلى مكتبه وعمله في التَّأليف حتَّى أذان المغرب, وبعد العشاء يأكلُ لقيماتٍ ثمّ يجلس لذكر الله ولا يستقبل ضيوفاً في هذا الوقت بل هو مخصَّص للعبادة.

كان لا يضيع وقته وينزعج حين يرى غيره يضيع وقته, إن زار أحداً فزيارته قصيرة وإن استقبل أحداً فكذلك، إلَّا أن تكون جلسة علم أو طاعة لله, ربّانا على أن يكون وقتنا مليئاً بما ينفع، وكان يكره أن يجلس في مجلسٍ يتحدَّث فيه بما لا ينفع، بل ينبه الجَّالسين أن يذكروا الله أو يحوِّل الجلسة إلى درس علم شيِّق بأسلوب محبَّبٍ وبسمةٍ تزيد وجهه نوراً وجمالاً.

هذه المثابرة على الاستفادة من وقته استمرت حتى آخر سنيِّ عمره الّتي كثر فيها مرضه وتعبه فلم يستسلم بل كان حريصاً كل الحرص على التَّأليف واستقبال طلاب العلم وملءِ وقته بالأذكار والدُّروس لأهله ومحبيه وكلِّ ما فيه رضى الله ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم.

· حمله هم المسلمين:

عاش حياته رحمه الله يحمل همَّ المسلمين بين جوانحه، يتحدَّث دائماً بحرقةٍ عن المسلمين المضطهدين في العالم يتابع أخبارهم أوّلاً بأوَّل يتوجَّع لمصابهم ويفرح بنصرهم، يحدِّثنا عن مخططات أعداء الإسلام الَّذين يكيدون له وما يجب أن نعمله من أجل نصرة هذا الدِّين وأهله, مذكراته الَّتي كان يكتبها إنما هي عن أخبار المسلمين ومصابهم في بلاد العالم, عشنا معه أحداث الشيشان والبوسنة والهرسك وأفغانستان والعراق وفلسطين وسوريـــا، كان قلبه يتقطَّع حرقةً وحسرةً لا يكفُّ عن الدُّعاء في كل وقت بيديه المرفوعتين ودموعه المسكوبة على وجنتيه، يدعو و يدعو و يدعو حتَّى تنقطع أنفاسه فنشفق عليه، كان دائماً منشغل البال مهموماً دائم الحزن على مصاب المسلمين وما آل إليه أمرهم، نادراً ما أعرف عنه أنه ذهب في نزهة يروِّح بها عن نفسه كما يفعل النَّاس (وإن كان هذا ليس خطأ) لكنَّه لا يجد في نفسه الاستعداد لمثل هذا ولأنَّ وقته منظَّم بشكل لا يجد فيه فراغاً.

كنا نستغرب أنَّ أبي دائماً يحدِّثنا عمَّا يلاقيه المسلمون من ظلم وإبادة منظّمة عليهم ونعيش معه هذا الهمّ الكبير بينما النَّاس من حولنا تلهيهم الدُّنيا ومتاعها ومسرَّاتها دون علمٍ بما يجري, آمالهم وأهدافهم محدودة لا تتعدَّى عائلاتهم الصَّغيرة واهتماماتهم الدُّنيوية العاجلة.

كان معارفه رحمه الله كثراً ومن بلاد شتى وكان يستقصي من كلِّ من يراه من تلك البلاد عن أمور المسلمين فيها وأوضاعهم هناك، وكان ينشر هذا الاهتمام بأمور المسلمين لكلِّ من يراه ويحثُّهم على نصرتهم، وقد سافر لنشر الإسلام في بلجيكا وتفقُّد أحوال المسلمين هناك ثم سافر عدَّة مرات إلى ألبانيا لنشر دين الله وتتبُّع أحوال المسلمين وتأمين ما يلزمهم من مساجد ومدارس وكتب إسلاميَّة وإعداد الدُّعاة والمعلِّمين ومتابعتهم وخدمتهم.

· صلته للأرحام:

كان رحمه الله وَصُولاً للرَّحم وثيق العلاقة بأرحامه يَبَرُّهم ويُكرمهم ويزورهم ويتفقد أحوالهم مرَّة في الأسبوع على الأقل, أمَّا في آخر أيامه فكان يتواصل معهم بالهاتف ويدعوهم لزيارته أو على مائدته مسروراً بهم يبشُّ بوجهه في حديثٍ ودِّي جميل وكرم ضيافة كبير. أمَّا المحتاجون منهم فكان يقرضهم ويعطيهم رواتب شهرية أو رأس مالٍ ليعملوا به و لا يردُّ من سأله أو استدان منه وكثيراً ما كان يسامح من استدان, فأحبَّه الجميع وكان رأس الهرم في العائلة يحنو على الجميع ويحزن لمصابهم ويفرح لفرحهم إذا عاد من سفرٍ فلا بدَّ أن يكرم الجميع صغاراً وكباراً بهداياه.

كلُّ من دخل بيته وكأنما يدخل جنَّةً، تجد عنده السُّرور والأُنس بكرمه وبشاشة وجهه ومحبته, كان كلٌّ منَّا ينسى همه ومشاكله فيخرج من عنده بقلبٍ جديد و نفسٍ سعيدة, حتَّى الأطفال لابدَّ أن يسمع منهم سورة ولو صغيرة من القرآن ليجزل العطاء لهم تشجيعاً على القرآن، أمَّا من كان يختم القرآن حفظاً من أحفاده أو غيرهم من العائلة فله هديةٌ كبيرةٌ دون أن يغفلَ عن أحدٍ منهم.

إذا ألَّف كتاباً فلا بدَّ أن يهدي أفراد العائلة منه، بل كان كلَّما أعجبه كتابٌ اشترى من ماله نسخاً منه ليوزعها على العائلة. وفي يوم المولد النَّبوي كان يجمع العائلة على مدح النَّبي صلَّى الله عليه وسلَّم، ويهدي الجميع بعدها ما أعدَّه لهم ككتابٍ في السِّيرة ليعلِّمهم محبة النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم, بل كانت جلساته مع أهله وأرحامه لاتخلو من موعظةٍ صغيرةٍ بأسلوبٍ لا أجمل ولا أمتع منه لأنه كان حديث محبٍّ مشفق, يتحدَّث مع كلِّ شخص حسب قدراته ومعارفه بتواضعٍ مع الصغير والكبير والمثقَّف والعامِّيِّ فيفهم الجميع ويستفيدون.

لقد كان فقده رحمه الله مصاباً عظيماً لأننا فقدنا عالماً كبيراً وأباً عطوفاً رحيماً ودوداً مشفقاً محبَّاً، أمَّا أهله وأرحامه فقالوا فقدنا البيت الَّذي كنَّا نجتمع فيه فنرى السَّعادة والكرم والأُنس والحبّ في زمانٍ قلَّت فيه صلة الأرحام حتَّى بين الأخ وأخيه, وقد كان رحمه الله يوصينا كثيراً في جلساته بصلة الرّحم ويسألنا عن زيارة أقرباءنا ويحثُّنا عليها ويستشهدُ بقوله تعالى: ((فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطِّعوا أرحامكم)).

· أدبه رحمه الله:

ومن أهمِّ أخلاقه المتميِّزه أدبه الجمّ رحمه الله في كلِّ شيء، فقد كان رحمه الله الغاية في الأدب والذّوق، ما سمعنا منه كلمة غير أديبةٍ في رضاه أو سخطه جادَّاً كان أم مازحاً مع الصغير أو الكبير، فيدفع من يجلس إليه أن يكون حريصاً على الأدب لما يجد من لباقته وهدوء صوته وانتقاء كلماته, وكان لا يتحدَّث بالعامِّية فقط بل كان في كلامه الكثير من اللُّغة العربية الفصحى مما زاد جمال حديثه.

ربَّانا على الأدب منذ الصغر فلم يكن في البيت من يتكلَّم بكلمةٍ غير أديبة أو يعلو صوته بحديث مع والديه أو حتَّى مع بعضنا البعض و يسود البيت احترام الصغير للكبير والتَّأدب معه، كذلك كان أدبه في جلسته فلم يكن يمدُّ رجليه أمام أحدٍ إلا في آخر أيامه رحمه الله حيث كان لابدَّ له صحيَّا من رفعهما على كرسيٍّ أمامه فكان يعتذر ممن حوله.

ما رأيته مضجعاً إلا عند نومه وعلى شقِّه الأيمن حرصاً على اتَّباع السُّنَّة النَّبويَّة.

أما لباسه فلم يكن إلا الفضفاض السَّاتر, يلبس الكمَّ الطَّويل صيفاً وشتاءً, ولا يجلس أمام أحدٍ في ملابسه الدَّاخلية مع أنها لا تقلُّ سترةً عن الخارجية.

ربَّانا على السَّتر والحشمةِ فما لبسنا غير الفضفاض الطَّويل السَّاتر، أمَّا خارج البيت فكان يرى رحمه الله أن غطاء الوجه فرضٌ وله الفضل الكبير علينا أنَّه عوَّدنا اللَّباس الشرعيَّ الكامل منذ صغرنا.

كان شديد الحياء، درَّس طول عمره في مدارس البنات خاصَّة أيَّام شبابه وكان يقول ما كنت أعرف طالبةً من غيرها، فلا يحدُّ النَّظر في امرأةٍ غريبةٍ بل كان يصفه الكثيرون بتمُّيزه في القدرة على غضِّ البصر.

كان لا يجلس مجلساً يختلط فيه الرِّجال والنِّساء إلا أواخر أيَّامه عند زيارة بعض أقاربه له وربَّانا على ذلك فجلسة الرِّجال لا يدخلها النِّساء وجلسة النِّساء لا يدخلها الرِّجال, فحياته كلها طهرٌ وعفَّةٌ وأدبٌ جمّ.

· حبه للنبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم وتقليده للسُّنَّة النَّبويّة بأدقِّ تفاصيلها:

كان رحمه الله شديد الحبِّ لرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم كثير الصَّلاة عليه، إذا سمع مدحه أو وصفه تراه يغيب عنك غياب العاشق الولهان وتغمره سعادةٌ كبيرة وتملأ الدُّموع عينيه حبَّاً وشوقاً وحنيناً.

أحبَّ المدينة المنوَّرة كثيراً حبّاً لساكنها عليها أفضل الصَّلاة والتَّسليم, وسكنها بضع سنواتٍ وزارها كثيراً بفضل الله وكان يدعو أن تكون وفاته في مدينة حبيبه صلَّى الله عليه وسلَّم وأن يدفن في البقيع.

كان متَّبعا لسنَّة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة والأمثلة على ذلك كثيرة...

ما رأيته مرةً أكل أو شرب بغير اليمين كذلك يبدأ لباسه باليمين أوّلاً، وهو حريص كلَّ الحرص على ذلك حتى عندما يحاول أحدٌ إعانته في لبسه آخر أيامه. لا يحبُّ السَّهر وكان يقول: (كان صلَّى الله عليه وسلَّم يكره السَّمر بعد العشاء), لا يدع التَّهجد أو صلاة النَّفل في أيِّ حال، وكذلك مجلس الذّكر من بعد الفجر حتَّى طلوع الشَّمس مع صلاة الضُّحى, يواظب على ذكره وأوراده المعتادة, لا يدع غُسل الجمعة وجمعَ العائلة حوله لقراءة سورة الكهف ويس, يتطيَّب لكلِّ صلاة ويستاك لكلِّ وضوء, ينام على شقّه الأيمن.

· أخلاقه:

ومن أهمِّ ماتميَّز به رحمه الله تخلُّقه بكثيرٍ من أخلاق المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم, فهو صادق الحديث, قليل الكلام فيما لا يهم, صادق الوداد, يفيض وجهه بشراً وسروراً لضيفه مهما كان يعاني من ألم مرضه الطَّويل الَّذي كان صبوراً عليه, لا يشكو لأحد ما به بل هو دائم الحمد لله, وإذا سألته عن صحته أجاب (الحمد لله.. شباب) وسرعان مايغير لك الحديث فيما ينفع ويسألك عن أحوالك أو يعظك بحديثٍ أو آية بأسلوبٍ لطيفٍ محببٍ, يكرم الضَّيف ولا يردُّ سائلاً, شديد الحياء, له همَّة في العبادة قليلة النَّظير،فالصَّلاة في أوَّل وقتها في المسجد مهما كان مشغولاً وفي أواخر أيامه في بيته, ذكره الدَّائم لله, تهجده, كثرة قراءته للقرآن فهو يختم ختمة كلَّ أسبوع, لايحبُّ أن يمدحه أحد.

يتخلَّق بأخلاق المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم في عفوه، فلا يحمل في نفسه على أحدٍ ويسامح من أساء, بسَّاماً ضحَّاكاً في أهله يمزح معهم مزحاً لطيفاً يزيد في الحبِّ والألفة ويسرُّ الجالسين حوله, لا يغضب للدُّنيا فهو زاهدٌ بكلِّ ما فيها، رحيم القلب, لا يحبُّ المظاهر ولاتهمُّه، أمَّا إذا انتهكت حرُمات الله فتجده حينها يغضب ويحمرُّ وجهه حتَّى يُغيِّر المنكر أو يزيله.

كان شديد الورع رحمه الله يحاسب نفسه محاسبةً دقيقة ويأخذ لنفسه بالأشدِّ وإن كان يُيَسِّر على غيره، وخاصَّةً في أمور المال فقد حرص أن يأخذ ماله حلالاً, وأذكر أنَّه في كلِّ مراحل تدريسه ماكان يضيع من الحصَّة ولو ثانية فكلُّ الحصَّة يجب أن تحصل فيها الفائدة للتَّلاميذ, فإذا كان يريد أن يتحدَّث مع أحد الطُّلاب أو كان عنده موضوع خاصٌّ فكان يجعله خارج ساعة الدَّرس ليأخذ أجره حلالاً, كان لايدرِّس إلا واقفاً عدا آخر أيّامه فقد كان يعتذر من الطُّلَّاب في أن يعطي الدَّرس قاعداً فمن حقهم أن يعطيهم الدَّرس واقفاً.

كان جواداً كريماً يحبُّ العطاء وجبر خواطر من حوله وإدخال السرور عليهم بالهدية أو الكلمة الطَّيِّبة، رحيماً شفوقاً يفيض قلبه حبَّاً وحناناً على أولاده وأحفاده وأهله ومن حوله, لاينقطع دعاءه للجميع بالخير, كنَّا إذا طلبنا دعاءه قال لي يا ابنتي لاتوصيني فأنا أدعو لكم في كلِّ وقتٍ وصلاةٍ خاصة وقت السَّحر وبعد الأذان وغيره، فهو دائم الدعاء لنا ولجميع المسلمين.

متواضعاً جداً يجلس مع المتعلِّم والعامِّيِّ والصَّغير والكبير ويسمع منهم، لا يتكبَّر على أحدٍ وإذا ذكره أحد بعلمه أو تقواه قال إنَّما أنا طُويلب علم. لا يحب الظهور لكن الله كان يرفعه ويعزه دائماً طيلة حياته، وحتى بعد وفاته. لا يتكلم عن إنجازاته بل كنا نسمع من الناس عن العديد الذي أسلَّم على يديه أو هداه الله بسببه، بل كان دائماً يسأل الله أن يقبله ويرحمه ويكرمه بحسن الخاتمة.

· حسن معاملته لأهل بيته ومثالية تربيتهم على تقوى الله:

فقد كان رحمه الله نعم الزَّوج المحبُّ الرَّحيم الودود, يكرم والدتي حفظها الله ويدخل السُّرور على قلبها، يسود بينهما الاحترام وطيب المعشر والنُّكتة اللَّطيفة والحديث العذب, أمَّا والدتي فقد كانت نعم الزَّوجة المخلصة المحبَّة المتفانية في خدمته وتهيئة كلِّ ما يدخل السُّرور على قلبه، وكلّ ما يعينه في طريق دعوته وانشغاله الطَّويل بالعلم، مقدمةً راحته على راحتها وسعادته على سعادتها, فقد كانت حفظها الله نعم السَّند له إضافة إلى ما أخدته من العلم عنه.

اختارها لدينها من عائلة علمٍ ودين فكانت له نعم العون على تربية أولادها، يدها في يده يرعياننا على مراقبة الله ومحبَّته والخوف من معصيته, سمَّانا رحمه الله بأفضل الأسماء واختار أكثرها من أسماء الصَّحابة الكرام ليكونوا لنا قدوة, تابعنا للصَّلاة من سنِّ السَّابعة فما أعلم أنَّ أحدنا فاتته فريضة فجر ناهيك عن غيرها.

لا يترك مناسبة يستطيع فيها أن يذكِّر وينصح إلا قام بها،نجتمع يوم الجمعة لقراءة سورة الكهف ويس، وفي مناسبات الإسراء والمعراج والنِّصف من شعبان والمولد النَّبوي الشَّريف يحدِّثنا عن فضلها ونشترك معه في الدُّعاء والعبادة, حبَّب لنا السَّتر -نحن البنات- فتحجبنا في سنٍّ مبكِّرة ثمَّ غطاء الوجه, لم يكن في بيتنا أي اختلاط ضمن العائلة أو خارجها, ربَّانا على الحياء والطُّهر والعفَّة.

وممَّا كان يهتم به رحمه الله التَّربية على احترام الوالدين وكبار السِّن والعلماء واحترام بعضنا لبعض تسود بيننا المحبَّة، لا ألفاظ نابية تخلُّ بالأدب, بل الأدب والأدب والأدب.

حبَّب إلينا العلم وشجَّعنا كثيراً على تعلُّمه وحثَّنا على حفظ القرآن والعلم الشَّرعيِّ، فتخرَّج الكثير منَّا من المدارس الشَّرعيَّة, كان يحاول دائماً ملء وقتنا بالمفيد من القراءة أو العمل, لم نقتن التِّلفاز لأنه في تلك الأيَّام كان مضيعةً للوقت وتخريباً للتَّربية (أمَّا الآن فقد اختلف الأمر حيث أصبحت القنوات الدِّينيَّة كثيرة ومفيدة والحمد لله) لكن هذا لا يمنع أن يسلِّمنا ذكوراً وإناثاً للمربين والعلماء الَّذين استفدنا منهم الكثير.

وعندما تمرُّ تلك الأيَّام بمخيِّلتي وأذكر هذه المتابعة الدَّائمة والنَّصيحة الَّتي يحدوها الحبّ والخوف علينا من عذاب الله والجهد الكبير في تربيتنا أدعو الله أن يسكنه الفردوس الأعلى من الجَّنَّة، وأن يجزيه عنَّا خير ما جزى والداً عن ولده، وأن يجمعنا به في الفردوس مع حبيبنا محمد صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه والصَّالحين، وأن يجعلنا خير خلفٍ لخير سلف، ويعيننا أن نسير على الطريق الَّذي سار عليه، وعلى نهج الله ورسوله الَّذي فيه سعادة العبد في الدُّنيا والآخرة.

هذا غيض من فيض وهذا مافتحه الله لي من الحديث عن والدي رحمه الله, اسأل الله أن أكون وفَّيته جزءاً يسيراً من حقِّ برِّه، وعرضت سيرته العطرة لتكون مناراً للجميع يَهتدى به، فلقد كان بحقٍّ وارثاً نبويَّاً وعالماً ربَّانيَّا شهد له الكثير بأنَّه يكاد يكون صحابيَّا في عصرٍ غرق أهله في شهوات الدُنيا وملذّاتها.

تحميل