غزوٌ خطير
غزو فاق بخطورته وآثاره زحف الجيوش العادية، بل ما أهون مجابهة جحافل الغزاة عندما يُشرِعون أسلحتهم في وجهك إذا ما قارنتها بمجابهة هذا الغزو الخطير.
أما الغزاة فتميزهم ويميزونك، تنال منهم وينالون منك؛ تعرفهم بسيماهم. وأما الغزو الجديد الذي أحدثك عنه وأنبهك إليه، فقد اختزل في هذا الجهاز الذي تدسّه في جيبك، من خلف شاشته عدو - بل أعداء - يتلون كالحرباء، ينال من دينك وأخلاق أولادك وبناتك دون أن تنال منه، يعرفك ولا تعرفه، يميّزك ولا تميزه، وتستقبل سهامه وأنت غافل عما دسّه في سهامه من سموم مشؤومة، فتستمرئ حتى تعتاد تلقي هذه السهام المسومة بقلبك وعينيك دون أن تدرك هول الخطر.
نعم .. هو جهاز قد ذلل الكثير من الصعوبات، وسهل الكثير من الأعمال، اختزل المسافات، وقرب البعيد، ووفر المعلومات. لكنه ثغرة خطيرة وبوابة سوداء دخلوا من خلالها إلى بيوتنا وقلوبنا وبثوا فيها ما انطوت عليه حياتهم من عفن التحلل عن القيم النبيلة والأخلاق الفاضلة.
وما إن يقلب العاقل هذا الجهاز بين يديه، ويستعرض ما يستقبله من شؤون وصور ومقاطع ومعلومات، حتى يدرك بنظره الثاقب كم ينطوي هذا الجهاز على مفاسد كثيرة وعواقب وبيلة تفوق منافعه الجمة؛ حمل إلينا من المنكرات ما ليس له انتهاء، فهو مضيعة للوقت، مبدد للمال، محجّر للعقل، مهلك للدين، يسهل الوصول إلى الرذيلة، ويؤجج الغرائز الكامنة، ومنه دخل إلى قلوب المسلمين، فأظلم منهم وجوهاً حِسَان، وبدد منها نور الإيمان، حتى شغلها عن القرآن.
ولو أن السواد الأعظم من المسلمين أحسنوا استخدام هذه التقنيات فذللوا من خلالها صعوبات الدعوة إلى الله ونشر شريعته مثلاً، أو مدوا من خلال هذه التقنيات يد الشفقة والغيرة على الضالين والتائهين في جنبات الأرض وذللوا لهم الوصول إلى سبل الهداية .. لو أنهم أحسنوا استخدام هذه التقنيات لكانت نعم المقتنيات.
لكن السواد الأعظم من المسلمين لم يَرُق له من هذه الأجهزة إلا المفاسد والملهيات، تلقف من فتات حضارتهم ما لا يسمو به من انحطاط ولا ينهض به من تخلف.
وآية هذا الذي أقول: تأمل في حالك والجهاز بين يديك، ستجد أنك مرهون لحسابها؛ منفعل لا فاعل، مستقبل لا مرسل، مستهلك لا منتج، ستجد أنك مبدد لمالك ولوقتك لا مستثمر.
ثم تأمل في حال شريحة واسعة من شباب المسلمين وفتياتهم، ستجد أنهم يحملون بين جوانحهم بذور التمرد على الأخلاق والقيم، يمضون زهرة أعمارهم على غير هدى، قد انعكس ما يتلقونه من هذا الجهاز على سلوكهم ومظاهرهم ولباسهم وكلامهم. حتى مسخت الاهتمامات والطموحات منهم، وصارت غاية الغايات أن يلهو بما في هذا الجهاز من ألعاب ومواقع تواصل ومقاطع وصور - الله أعلم بما تحمله في طيها من مكر وغايات.
هذه المقاطع والصور التي تسرق منا الأوقات والتي تصب إليك من شتى الجهات واللغات، سيل جارف لا نهاية له، هو فضاء مفتوح مشرّع الأبواب كما قالوا. والساذج من لا يدرك أن هناك خططاً مدروسة ومخططات مقصودة، تهدف - من خلال هذا الجهاز - إلى نشر الرذيلة وإفساد البرية، وإلغاء القيم الإنسانية النبيلة.
هذه الأجهزة ليست شراً مطلقاً، وإنما هي نعمة من جملة النعم الجليلة التي أكرمنا الله عز وجل بها ليذلل لنا صعوبات الحياة، فمن أحسن استعمالها نال سعادة العقبى، وإلا ستغدو النعمة نقمة ما بين عشية وضحاها.
وبناء عليه، من ذا الذي يملك الإرادة الكافية ليكون قيّماً على نفسه عندما يمسك هذا الجهاز بين يديه، فيستجيب لأمر ربه، ويتخير منه ما فيه صلاح أمره؟!.
ضع وصية حبيبك المصطفى عليه الصلاة والسلام نصب عينيك عندما قال: (احرص على ما ينفعك)، وتعامل مع هذا الجهاز وفق هذه الوصية، وإياك أن تستجيب لرعوناتك، وأن تسترسل وتستجيب لشهواتك.
وفي سبيل ذلك تنفيذ هذه الوصية، ينبغي عليك أن ترتق بغاياتك، وتسمو بأهدافك، وتملئ وقتك بمهمات الأعمال، واعلم أن الفراغ مفسدة توردك الموارد ما دامت نفسك الأمارة بين جنبيك، وكلنا ذاك الرجل.
فكن أنت الحاكم على نفسك الأمَّارة ولا تدع نفسك الأمارة تحكم عليك. فأنتَ - أو أنتِ - ذو عقل راشد، قادر على التمييز ما بين الحق والباطل، وما بين السراب والشراب، وما بين الغث والسمين. والله تعالى يقول: (وأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).