العلماء والدهماء في الفتنة الشعواء
العلماء والدهماء في الفتنة الشعواء
عبد الله لعريط من الجزائر
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ونشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى اللهم عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أحبتي في الله: ما جرني لكتابة هذه الأسطر وهذه الكلمات هو ما أصبح يتحدث عنه الناس اليوم في قرية نائية في مدينة بعيدة من مدن الجزائر من فقراء تقطعت بهم السبل وضاقت عليهم الدنيا بعدما هاجت في بلادهم نار الفتنة وخرجوا منها مرغمين من هول الصراع الدامي الذي لم يخلف سوى الدمار والشنار، تاركين أموالهم وديارهم إنهم متسولون من سوريا الحبيبة على أبواب مساجدنا ..!
وطبعاً من عادتنا نحن في الجزائر أننا نجل في الشام أهلها فلو ترى حينما انكب عليهم الناس يقبلون وحتى يبكون من هول هذا الموقف الرهيب وهم يتضرعون لله بصوت عال أن يفرج الله محنتهم ويرفع غبنهم ويزيل غشاوة من على قلوبهم.
إن هذا المنظر لمحزن للغاية حينما ترى ناس أبرياء وأطفال لا ذنب لهم مما يحدث في هذه البلاد التي تكاد أن تمزقها نار الفتنة المحبوكة من قبل أعداء الله ورسوله.
منظر يستوجب على كل غيور داخل سوريا وخارجها أن يسعى سعياً حثيثاً مشروعاً في إيجاد الحلول التي من شأنها أن تنقذ هذه البلاد المباركة من مكيدة دبرت بليل تحيكها أيدي خفية لا يعلمها كثير من خلق الله.
منظر قادني كعضو في أمتي أحس بآلام ومعاناة باقي الأعضاء، وفي الحقيقة أن سوريا جرح عميق مس سائر الجسد وببقائه فالأمة على شفا حفرة من نار الحملات الصليبية التي لا تبقي ولا تذر والتي حينها نفيق ولكن بعد فوات الأوان.
أيها الإخوة الأحبة: والله لن يستقر الوضع في سوريا ولو امتد امتداد حرب الداحس والغبراء حتى يصطلح شعب سوريا حاكماً ومحكوماً فيما بينهم.
فعودوا لرشدكم وأنقذوا أنفسكم من هذه الفتنة الشعواء والتي أهلكت حرثكم ونسلكم وعاد ضررها على البرآء منكم الذين لا ذنب لهم من تنازعكم وتصارعكم، فاتقوا الله في هذه الأرواح البريئة واصطلحوا فيما بينكم واتركوا الحمية وغضب الجاهلية ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا وأضلوا واسمعوا لنداء ربكم خير حاكم بينكم: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا) جميعاً: لا فرق بين أبيضكم وأسودكم وعالمكم وجاهلكم وحاكمكم ومحكومكم.
وإياكم ودعاة التمزق الذين علموا الحق وآتاهم الله آياته فانسلخوا منها فأتبعهم الشيطان فهو اليوم وليهم وقائدهم ومرشدهم، والحذر إخواني من الغرور بهم فهل من ناصح بعد الله سواك يا رسول الله قال الحبيب صلى الله عليه وسلم فيهم: (دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها قلت: يا رسول الله صفهم لنا قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت: فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم يكن لهم جماعة ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت على ذلك) صحيح البخاري.
أخي لا يغرنّك فقه فقيه ولا علم عالم ولا فصاحة أديب إذا كان هؤلاء ممن ابتلاهم الله بالغرور فظنوا بأنفسهم خيراً ونصبوا أنفسهم حكماً على خلق الله يدخلون من وافق هواهم الجنة ومن خالفهم فالنار وبئس القرار .
من العجب العجاب: كيف تفسر اعتقاد بعض من ابتلوا بأفكار يتعوذ منها الجاهل الأمي ناهيك عن العارف التقي، أن في وحل هذه الفتنة وهذا العذاب المسلط بفعل الذنوب والمعاصي ولا يظلم ربك أحداً أن ناساً ظنوا أنه جهاد من مات في صفهم فهو شهيد (المغرور مات وقد نصب كمين لإخوانه الموحدين فمات في الكمين مسلم بات قائما وأصبح صائما، ثم قفز على قفا هذا التقي الخفي إلى جنة الفردوس الأعلى ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ..!
ولا غرابة أشد من ذلكم الداعية النحرير الذي انقلب رأساً عن عقب وانسلخ من آيات الله وراح يدعو للصدام والتناحر وإراقة دماء أصفى من اللبن وأطهر من ماء عدن، وقد سول له الشيطان بأن يكون حكماً بين خلق الله يجرم دم هذا ويحرم دم آخر: (فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ).
أيها الأخ الحبيب في سوريا: إن لك أن تقتدي وتهتدي بجماعة أولوا بقية حباهم الله واجتباهم ليكونوا خير خلف لخير سلف وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله إن قولهم لنور تطمئن له النفوس ودعوتهم نور على نور لا يزالون مستمسكين برسالة نبيهم السمحة وهم يعضّون عليها بالنواجذ لكثرة المخالفين وهو شأن الأنبياء من قبل.
أيها الإخوة الأحبة: إن الفتنة اليوم أعظم من ذي قبل لكثرة الذنوب والمعاصي واسمعوا ما يقول الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فيها: (بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنْ الدُّنْيَا) رواه مسلم.
فكلمة الرجل تبين شدة الفتنة فوصف الرجولة دال على الجد والحزم من هؤلاء، ثم أضيف لها وصف أعظم وأخطر وهو الإيمان المتمثل في اليقين الخالص بالله وبما عند الله، ثم ينتكس هذا على أم قفاه انتكاسة زاوية ميلها عظيماً فبين الغدوة الروحة والعشية والصبحة ينقلب على عقبيه، وقت قصير ولكن الانقلاب خطير فمن اليقين والإيمان إلى الكفر والطغيان.
إن مصيبتنا اليوم ليست في أن يسلط الله علينا بغاة أو طغاة إن أعوص وأخطر المصائب أن نبتلى بدعاة، دعاة ألسنتهم أحلى من العسل يتكلمون بلسان عربي مبين إذا رأيتهم تعجب أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم، وهذا لدلالة شدة الغضب الرباني.
إن ما زاد في النار اشتعالاً هو التسرع وعدم التبصر بعواقب الأمور والغرور الذي امتلأت به الصدور.
إن الرعاع ودهماء الناس فلا ركن لهم يركنون إليه ولا ظل لهم يحتمون به فهم يخبطون خبط عشواء لا قرار ولا استقرار.
فتجد دعاة الحطمة من يستغل ضعف المستضعفين وجهلهم بكثير من أمور الدين ويجعلونهم أداة في أيديهم يستعملونها من أجل تطبيق أفكارهم وإنجاح مشاريعهم التي ينسبونها للإسلام والإسلام منها براء.
ألا فاتقوا الله تعالى وخافوا من هول الموقف، واقبلوا النصيحة فالدين النصيحة ولا تركبوا أهواءكم ولا تظنوا أنكم بلغتم مراتب الصديقين والشهداء والصالحين، أو أن الله قد غفر لكم ما تقدم من ذنبكم وما تأخر فأنتم بشر كبقية الناس تصيبون وتخطئون وخير الخطّائين التوّابون فعودوا لنهج نبيكم وحبيبكم وغيّروا من لهجتكم في خطاب الناس وادعوا إلى الحوار والمصالحة بينكم ونبذ العنف والتصادم ورفع السلاح، واعلموا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم: (فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ).
أخي أو أبي: حتى ولو كنت عالماً جليلاً أو من أكبر دعاة بني زمانك فأنت لا شيء لأن الذي أمدك بذلك هو الله.
أرشدك إلى لطيفة يا عبد الله: يقول الباري سبحانه وتعالى لنبيه وصفوته من خلقه صلى الله عليه وسلم: (وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً).
فلو شاء الله تعالى أن يرفع القرآن الكريم من صدر نبيه صلى الله عليه وسلم ويذهب بعلمه وفقهه أي: يسلبه أعظم نعمة انعم بها عليه وعلى أمته.
فمن تكون أنت حتى تغتر بعلمك وببعض ما آتاك الله من البيان وما أنعم عليك من فصاحة اللسان فربما يجعلها الله هباء منثورا لمّا طلبت بها الدنيا وكبرياء النفس واتبعت هواك ولم تجعلها فيما أراد الله من تأليف القلوب وتضميد الجراحات.
أيها الدعاة في الشام المباركة: إن من أسباب زيادة الجراحات وتفاقم الوضع هو الاختلاف الظاهر بين علمائكم ودعاتكم.
اعلموا أن أكبر تنازع نهى عنه الباري سبحانه وتعالى هو التنازع بين العلماء والدعاة وهو سبب الفشل في أي مسعى يسعى إليه طرف الحوار والمصالحة.
فكونوا على قلب رجل واحد وغيروا ما بأنفسكم يغير الله ما بواقعكم.
أعظم الجهاد:
إن أعظم جهاد في هذه الفتنة أن يضحي كل طرف بكل ما في وسعه ويجاهد نفسه على قبول الحوار والمصالحة
أولاً: لابتغاء مرضاة الله تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً).
وثانياً: من أجل هؤلاء البرآء الذين تركوا ديارهم وأموالهم وهاجروا شذر مذر، وهم اليوم يتسولون في شتى الأقطار.
وأقول يتسولون: فوالله إنهم في بلادنا وفي حينا وعلى أبواب مساجدنا يمدون بأيديهم طلباً للعون والقوت والغوث فماذا حدث لكم يا أهل الشام يا من كنتم قدوتنا يا كرام..!!
فكنا نعبر القارات ونقطع المسافات طلباً لأياديكم وأبداً لا ننسى فضلكم علينا وعلى الناس يا من لم تبخلوا علينا بكرمكم وجودكم، فهل انتهى هذا الجود والكرم بينكم..؟!
أيها الإخوة الأحبة: اتركوا الشحناء والبغضاء واعلموا أن الله تعالى لما بارك في الشام بارك في من فيها ومن حولها فأنتم القوم لا يشقى جليسكم.
فلا سني ولا صفوي ولا شيعي ولا علوي ولا بدعي ولا زنجي ولا طرقي المهم أنك مسلم سوري، رضوان الله عليك ومصلحة البلاد وأمن العباد عندك فوق كل شيء.
العدو المتربص:
إن الذي زرع بينكم هذه الأفكار وعمل دهراً من الزمن في نشرها لزعزعة أمنكم هو عدوكم الحقيقي المتربص بكم الدوائر الذي يرقب عن كثب متى تسقط سوريا فيقيم بعدها عرس زفافه وأنتم المهر والصداق، لأنها البلد الوحيد والشعب الفريد الذي لا يزال يقلقه ويهيبه ويربكه ولا يهدأ له بالاً حتى يرى سوريا وبالا، ولا يقر له قراراً حتى يراها تشتعل نارا "إنهم اليهود" ..!
أفيقوا واستفيقوا: ألا فاستفيقوا ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، واصبروا على ما حل بكم من شدة وفتنة فهي من الله وأطيعوا الله ورسوله فيها ولا تجزعوا بمخالفتكم هدي نبيكم في رفعها عنكم، واعلموا أن الله معكم إن اتبعتم هدي نبيكم وطاعة البقية التي لا تزال تسعى في لمّ شملكم وإيقاف نهر الدم الذي يجري بينكم.
والسعيد من اعتبر بغيره:
فنحن في الجزائر عشنا دهراً من الزمن في فتنة شاب لهولها الولدان فلم يرفعها الله عنا حتى رضينا بحكم الله بيننا وجلسنا معاً على طاولة الحوار وتصالحنا في ما بيننا فتآلفت القلوب وضمدت الجراحات وطويت هذه الصفحة السوداء فلا أحد اليوم يذكرها رغم ما حملت من جراحات وآهات، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
فاعتبروا يا أولي الأبصار يا علماء ويا دعاة ولتكن دعوتكم واحدة في التآخي والتصالح ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير، إلى الصلح وجمع الشمل وحقن الدماء، ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد علمهم ومعرفتهم بدينهم فبفرقتهم تفرقت بالناس الأهواء واختلطت عليهم الأشياء فحلت بالجميع الفتنة الشعواء .
فاللهم أصلح ذات بيننا واجمع يا ربنا شملنا ولم شعتنا واعصمنا من الأهواء وعرفنا في الأعداء.
اللهم أنزل على أهل سوريا الكرام رحمة واسعة تهدي بها للإصلاح صدورهم وتشرح بها للألفة قلوبهم وتؤلف بها بين قلوبهم وتجمع بها شملهم وتوحد صفهم وتفرج بها كربهم وتصدع رأبهم وترفع غبنهم وتنشر أمنهم، يا رحمان يا رحيم.
اللهم أحفظ مشايخ أهل الشام وتقبل دعاءهم واجعلهم هداة مهديين واجعل أفئدة أهاليهم تهوي إليهم وعافهم واعف عنهم وبارك يا رب في علمهم واشكر سعيهم واحشرنا معهم يوم أن نلقاك وأنت راض عنا وعنهم يا رب العالمين وأكرم الأكرمين.
وصل اللهم على سيدنا وحبيبنا محمد وعلى التابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.