محنة بلدي
محنة بلدي
محب القوم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله على كلّ حال، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، وسلّم تسليماً كثيراً .. وبعد
أكتب هذه الكلمات من وحي الألم الذي يعتصر الفؤاد، والأسى الذي يغمره لما قدّ حل بالعباد والبلاد، من تنكب عن سبيل الهدى والرشاد أورثنا ما نحن فيه من متاعب ومصائب، وشدة ومصاعب.
لقد كانت بلدنا - بفضل الله تعالى - ولا تزال غارقة في بحر من نعم الله تعالى وأفضاله، ويشهد القاصي والداني لبلدنا هذه بتميّزها عن غيرها من البلاد بما آتاها الله تعالى من نعم وخيرات تكتنفها من أطرافها، نعم.
لقد تفضل الله علينا بنعم كثيرة متعددة، فكنّا نأكل من زرعنا، ونلبس من صنعنا، ولم نحتج يوماً لمدّ يد الذل والمسألة لأعدائنا، كانت بلدنا مضرب المثل في الطمأنينة والأمن والأمان، والعلم المتلقى عن الأكابر والأعيان، كانت بلداً يزدهي بمجالس الإيمان التي كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وعلى آله وسلّم يتنادون إليها، يقول أحدهم لصاحبه: "تعال بنا نؤمن ساعة"، بلدنا لا ينضب معينها، ولا تنتهي ثمارها وخيراتها، فلقد منّ الله تعالى علينا في بلادنا بنعم لا تعدّ ولا تحصى وأعطانا من وسائل إقامة شرعه ونشر هديه وتبليغ دعوته، ما لم يعطه أسلافنا من قبلنا، فما الذي أوصلنا لما نحن فيه اليوم من محن ومصائب و شدّة و متاعب... ؟!
لقد بدأت محنتنا منذ أن تخلفنا عن ركب أسلافنا، واتبعت النفوس أهوائها حين اغترت بالحياة الدنيا وزينتها، ونسيت قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ).
نعم بدأت محنتنا منذ أن انشغلنا بما خلقه الله تعالى لنا عمّا خلقنا له، وانشغلنا بالحقّ الذي تكفلّ لنا به عن الواجب الذي أمرنا بالقيام به، حتى صرنا أسارى النفوس والأهواء، فانتشرت فيما بيننا البغضاء، وتسلل الحقد والحسد إلى القلوب وبدأت النفوس والأهواء تعمل فينا عملها...
فابتلينا بحبّ المال والجاه والرئاسة والشهرة، وأصبنا بداء العجب الغرور والسمعة والرياء ..
فقدّمنا خدمة نفوسنا وأهوائها على خدمة ديننا وعقيدتنا ومبادئنا وقيمنا وصارت دعوتنا إلى النفس والجماعة والمؤسسة، بعد أن كانت دعوة أسلافنا إلى الله تعالى وإلى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم وإلى دينه.
نعم لقد كان هذا الحال المؤلم واقع كثير من المتدينين في بلدنا فضلاً عن غيرهم من التائهين، وعاش هذا الواقعَ المر المنتسبون لسلك الدعوة قبل غيرهم من عوام المسلمين .. فما الذي حصل .. ؟!
لقد حصل بنا ما حصل بالقرية التي ضرب الله تعالى مثلها لنا في كتابه الكريم فقال عزّ وجلّ: (وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ)
حصل بنا ما حصل بهذه القرية بعد أن تسببنا بنفس السبب الذي تسببوا به وهو كفران النعم، فالحقيقة المؤلمة أنّنا لم نرعى حقّ تلك النعم التي أولانا إياها ربُّنا تبارك وتعالى، ولم نشكره عليها كما ينبغي أن نشكره باستخدامها فيما يرضيه والقيام بما أمر به، بل تخلفنا وتغافلنا حتى رأينا نتائج غفلتنا في أنفسنا وفي واقعنا ومجتمعنا ...
لكنّ المصيبة الكبرى لا تكمن في مجرد ظهور هذه النتائج، لأنّ هذه النتائج السيئة لو استيقظنا وتنبهنا بها من غفلتنا لكانت سبب خير و رحمة لنا, و لكنّ المصيبة الكبرى هي أنّ في الناس من إذا تجلت لهم نتائج غفلتهم وتخلفهم عن ركب أسلافهم، فرأوا من هذه النتائج تضييقاً أو ظلماً أو فساداً أو انحلالاً للأخلاق في مجتمعهم، أو رأوا تسلطاً للقوي على الضعيف وتعديّاً على الحقوق، إلى غير ذلك من المفاسد التي كانت موجودة في مجتمعهم نتيجة لتخلفهم ولغفلتهم، لم يستيقظوا من غفلتهم تلك برؤية نتائجها، بل راحوا ينتقدون النتائج بعيداً عمن أنتجها ، ينتقدون واقعهم الذي لم يوقعهم في لهيبه إلا أنفسهم، ولم يزجّهم في جحيمه الحارقة غير أعمالهم، متجاهلين قول الله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ) راحوا ينتقدون واقع مجتمعهم من غير أن يلتفتوا إلى أنفسهم أو أعمالهم التي أبرزت ذلك الواقع، وحاولوا أن يبرروا لأنفسهم ويدفعوا عنها اللوم والعتاب بتوجيهه يمنةً ويسرى، ظنّاً منهم أنّهم يرفعون بذلك المسؤولية عن أنفسهم، فكانوا كالنعامة التي تدفن رأسها بالتراب لتخفي جسمها عن صيّادها ..!!
والأخطر من ذلك، أنّهم لم يكتفوا بإلقاء اللوم والعتب على غيرهم حتى زجّهم رفضهم الاعتراف بسوء فعلهم وفساد نفوسهم في مهلكة كبرى لم يستشعروا خطرها، ألا وهي إنكار نعم الله تعالى وجحدها حتى صاروا إذا ذُكروا بنعم الله تعالى على بلدهم - والتي كانوا يستطيعون من خلالها بناء الواقع الأفضل والمجتمع الأكمل - صمّوا آذانهم عنها ولم يطيقوا سماعها، فسرعان ما كذّبوها، أو صغّروا من شأنها ثم وضعوا مكبراتهم على بعض المنغصات والمحن - التي واجه أسلافهم أضعافها - ليصغروا من شأن تلك النعم التي يُذّكرون بها، وليدفعوا عن أنفسهم المسؤولية كما يتوهمون ..
و لم تنتهي رحلتهم في الدفاع عن أنفسهم عند هذا الحدّ، فماذا فعلوا ؟! نادوا بالإصلاح والتغيير إلى الأفضل، ولكنّه – ومع الأسف - ليس إصلاح نفوسهم ولا أعمالهم، بل أرادوا أن يصلُح لهم كلّ شيء في مجتمعهم وواقعهم من غير أن يصلحوا أنفسهم، لأنّهم لا يرون المشكلة فيها أصلاً، بل يرون المشكلة في الواقع والمجتمع والسلطة والنظام والناس من حولهم، فهم يرون النتيجة ولا يرون السبب، بل لعلهم خلطوا بين النتيجة والسبب فرأوا أنّ فساد نفوسهم وأعمالهم إنّما هو نتيجة لفساد واقعهم لا العكس، فعجباً لزمان عُكّست أحواله، وصار فيه الوجه في حدّ القفا ..!
ولذا فقد طلبوا تغيير الواقع من غير أن يسلكوا سبيل التغيير الصحيح حيث أنّهم لم ينظروا إلى أنفسهم بدايةً، وصدق الله القائل: (إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ) فكانت النتيجة الحتمية لنظرتهم الخاطئة، أنهم سلكوا الطريق الخاطئ لتغيير الواقع، فوقعوا في مخالفة أوامر الله تعالى ومخالفة شرعه، ثم برّروا تلك المخالفات بأنّها وسائل لغايات حسنة، وتجاهلوا أنّ الغاية مهما كانت حسنة لا تبرر الوسيلة السيئة، ثم بدأوا بتحميل النصوص ما لا تحتمل من معاني لتبرير ما يقومون به من مخالفات لشرع الله تعالى، وتجاهلوا القواعد الشرعية والأحكام الواضحة الجليّة، فتجاهلوا أحكام إنكار المنكر وضوابطه، وتجاهلوا الذريعة وسدّها، والمفسدة ودرئها، والضرر وإزالته، وغير ذلك من قواعد ثابتة، وأحكام مثبتة،
ولما أيقنوا فشلهم بسبب سلوكهم الطريق الخاطئ، لم يستطيعوا مواجهة نفوسهم المخطئة، فراحوا يطلبون النجدة من أعداء الله تعالى وأعداء رسوله صلّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلّم وأعداء أمّته، راحوا يبتغون عندهم العزة والكرامة يبتغون عندهم القدرة والمنعة ونسوا أنّ هذه من صفات المنافقين فقد قال فيهم ربّنا تبارك وتعالى: (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً) فماذا كانت نتائج أعمالهم هذه ؟! كانت نتائج أعمالهم ما نراه وما نسمعه في كلَّ يوم من سفك للدماء وتشريد للأسر وتيتيم للأطفال وترميل وتثكيل للنساء وغير ذلك من مفاسد وجرائم مؤلمة نراها ونسمعها في كلّ يوم بل في كلّ ساعة.
فأفسدوا في الأرض بعد إصلاحها والله لا يحب المفسدين ..
وبعد هذا كلّه يحقّ لنا أن نتساءل باستنكار وغضب وانزعاج:
ألم تنتهي هذه الرحلة المشئومة في الدفاع عن النفوس وأهوائها بعد ..؟؟
ويؤسفني أن يكون الجواب: لا، فما زال الكثير منهم يحاول جاهداً أن يدافع عنها ببسالة مهما حصل، وأقول لهؤلاء ناصحاً ومذّكراً: إنّ ذلك لن يجديكم نفعاً لا في الدنيا ولا في الآخرة، فلنعد إلى أنفسنا ولنصدق مع الله تعالى، ولنسلك السبيل الصحيح لتغيير واقعنا، ولنبدأ من أنفسنا ونقوم ما اعوّج من نفوسنا ، فتغيير الواقع للأفضل لن يكون إلا عندما نبدأ من أنفسنا و نقوم ما اعوّج من نفوسنا ، و نستخدم نعم الله تعالى - التي أنعم بها علينا - بما يحبّ ويرضى، لخدمة دعوته وإعلاء كلمته بدل استخدامها لمرادات النفوس والأهواء، فما أحوجنا للصدق مع أنفسنا وما أحوجنا للصدق مع مولانا وبارئنا، ، و لنعلم أنّ سلوكنا الطريق الخاطئ لإصلاح الواقع لن يصلح منه شيئاً ، و أنّ محاولات تبرئة النفس و الدفاع عنها و تجاهل تسببها بالواقع الذي نشتكي منه لن يفيدنا أبداً ، فالناقد بصير والحساب عسير وحسبنا الله ونعم الوكيل ..