مميز
EN عربي
الكاتب: الباحثة نبيلة القوصي
التاريخ: 07/11/2012

السيدة رقية بنت أحمد بن قدامة الشيخ الكبير

أعيان الشام

السيدة رقية بنت أحمد بن قدامة الشيخ الكبير

مهما عاش الإنسان وبلغ من العمر ما بلغ، سيدركه الموت ولو بعد حين، فتنتهي حياته فوق الأرض ... ولكن..

هناك بعض الناس من تمتد حياتهم إلى ما بعد الموت فيبقوا أحياء بما سطره التاريخ لهم من أعمال تنفع الأجيال اللاحقة، هذا على الرغم أنهم أموات في قبورهم مع الأجداث، محققين قول النبي r: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).

ومن هنا تبرز أهمية ذكر الصالحين، للوقوف على مآثرهم وصفاتهم بهدف العبرة والعظة.

وهؤلاء الصالحين بقيت أسماؤهم وأعمالهم، شعلة مضاءة في صفحات التاريخ، تدعو لمن أراد العلم للنفع والفائدة، وللعمل ثم العمل، لقوله تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)

ومن هذا المنبر الكريم ندعوكم لوقفة تأملية تربوية نعرض فيها نماذج يُحتذى بها، ومنهم النساء:

قال r: (النساء شقائق الرجال) عندما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم هذا الدور الهام للمرأة المسلمة كي تساهم في بناء أسرة ومجتمع متماسك البنيان. ولئلا تنخدع هذه المرأة بآراء المضللين، وتمضي في متاهة الاستعارة التربوية، بيّن الإسلام مالها وما عليها، من حقوق وواجبات، دون إفراط أو تفريط.

فمن مارس هذا الدور بوعي إيماني صادق، نال درجات القرب من الله عز وجل ومن النبي صلى الله عليه وسلم. لقوله تعالى: (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ).

ولنا فيمن سبقنا من النساء العالمات العاملات، أسوة حسنة، فمن صدقهن أصبحت صورة حقيقية لصحابيات رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نسأل الله التوفيق لكل خير، فهو خير مأمول. فهيا معاً ندخل في رحابهن الإيمان الفسيح..

ونبدأ بسيدة صالحة مُعرف بـ"أم أحمد" وهي ابنة الشيخ أحمد بن قدامة. فمن هي؟ ولماذا ذكرها التاريخ؟

بداية لا بد من الدعاء للشيخ أحمد بن قدامة الذي عُرف بمؤسس الصالحية، والذي ترك من خلفه أبناء وأحفاد علماء، على رأسهم أبو عمر صاحب المدرسة العمرية، والموفق صاحب كتاب المغني، وشمس الدين الذي لقب بالبخاري، ورقية، الشيخة العالمة التي وصفت بالهيبة والمكانة بين قومها.

مولدها ونشأتها:

اتفق المؤرخون على أن رقية ولدت في قرية جماعيل من أعمال نابلس في سنة 536ه، ولم ينقلوا لنا شيئاً عن تحديد الشهر واليوم الذي ولدت فيه.

أما عن نشأتها العائلية العلمية:

عاشت رقية رحمها الله مع إخوة لها علماء أفذاذ، في أسرة علمية ومتدينة، فوالدها الشيخ الكبير أحمد بن قدامة، كان خطيباً مشهوراً في قريته، وحريصاً كل الحرص على تربية أبنائه تربيةً دينية صحيحة، فوجههم نحو دراسة العلوم الشرعية المحفوفة بحب الله ورسوله، فكان معظمهم علماء - رحمه الله -

وهكذا اتجهت رقية إلى التحصيل العلمي الشرعي لتقر عين والدها، فتابعت المسير بتوجيهٍ منه وطلباً للفهم والعمل عن علم، لقول النبي r: (من يردِ الله به خيراً يفقهه في الدين).

أي: جعل الفهم على الله قائداً له في المسير، وكلما زاد ورعه وخوفه من الله ازداد فهماً وقرباً منه.

بدأت هذه المرأة الصالحة بنهل العلم منذ الصغر مستفيدة من مَلَكاتِها الفطرية، وما ورثته من والدها مترجمة هذا الإرث بالعمل المحب لله ورسوله لقوله تعالى: )وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(.

ملامحها العلمية:

بدأت بحفظ للقرآن الكريم، ولأحاديث رسول الله r، فحدثت بالإجازة: عن أبي الفتح محمد بن عبد الباقي، وأبي بكر أحمد بن مغرب الكوفي، وشهدة الكاتبة وغيرهم.

وروى عنها:

الحافظ المندري، وابنها الضياء، وابن أخيها شمس الدين عبد الرحمن بن أبي عمر، وحفيدها الفخر علي بن البخاري.

هذا مما يدل على أثر المرأة المسلمة العلمي والديني منذ العصور الماضية، يوقظ في نفوسنا سؤال دهشة واستفسار، ما سر هذا العلم والعمل ؟ وأنا أقول سره في الحب والعشق لله ورسوله وطلباً للقرب منهما يفسر هذه المعاني، الأبناء والأحفاد يحدثون بحديث النبي r ؟!!

الوضع العائلي:

تزوجت السيدة رقية بنت أحمد بن قدامة من الإمام عبد الواحد بن أحمد، الذي لزم خاله الشيخ أحمد أبا العباس وأخذ عنه العلم الشرعي، فزوجه من ابنته رقية.

وأنجبت له: الضياء، أكبر محدثي الشام في ذلك العصر، وصاحب المدرسة الضيائية، وآسية، التي عرفت بالعالمة، حفظت القرآن الكريم في الصغر ثم أخذت تلقنه للكثير من النساء، وزينب، زوجة المحدث البهاء عبد الرحمن بن إبراهيم المقدسي، سمعت المحدث الكبير الحافظ أبا طاهر السلفي الأصبهاني وغيره، وصنفت مسموعاتها "أحاديث منتقاة عوالٍ" رضي الله عنهن.

أما عن صفات السيدة رقية بنت أحمد رحمها الله:

ولا نقصد هنا الصفات الجسدية الجسمية فهي ليست للتأسي بها، وإن كان لها أهمية للعناية بها من أجل العون لنا في طلب رضا الله عز وجل.

ونقصد هنا الصفات ذات التأثير المباشر في حياتها الخاصة، وعلى علمها، وأثرها الإيجابي في نفوس من حولها، سواء كانت خَلقية أو خُلُقية.

كان لها ذاكرة قوية وممتازة، وحافظة مميزة، وموهبة عظيمة في حفظ مواليد ووفيات المقادسة فكانت مرجعاً لهم.

هذا ما قاله ابنها الضياء، وهذا إن دل على شيء فهو يدل على قدرة الحفظ، ومَلَكة الاستحضار لديها، وهي أعظم المواهب الإلهية لمن حفظ جوارحه في الصغر فحفظها الله له في الكبر.

ومن صفاتها: قوة الشخصية أو بمعنى آخر أنها كانت ذات هيبة ومكانة بين قومها، وكانوا يخافونها ويوقرونها.

تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر، فهذه وظيفة كل مسلم ومسلمة.

وعندما تُمارَس هذه الوظيفة بلهفة وحرارة الحب والشفقة لعيال الله، ينتقل هذا الشعور نحو الآخرين، ليولد سلوكاً وتغييراً نحو الأفضل. ولذلك كان لها هيبة ومكانة، وجعلها مميزة بين أفراد قومها مما أضاف على شخصها ملامح الصحابيات..-رضي الله عنها-

وكفاها فخراً بولدها العالِم المحدّث ضياء الدين محدّث ذلك العصر، الذي يقول أن مروياته كانت من والدته. - رضي الله عنهم -

وفاتها:

نصل هنا إلى آخر صفحة من السيرة الذاتية ألا وهي الوفاة، وهي نهاية كل إنسان، عندها وبعدها، تنطلق الألسن إما بالثناء أو بالذم، - نسأل الله العفو والعافية -

توفيت هذه العالمة الجليلة في دمشق عام 621ه / 1224م، ودفنت في سفح قاسيون، بعد أن شيعت بجنازة حافلة، اعترافاً بفضلها ومكانتها... - الفاتحة -

وفي الختام .. نسأل الله عز وجل التوفيق والسداد في فهمنا على الله عز وجل، بعملٍ دؤوب، ودعاءٍ مستمر، وبصبرٍ ومثابرة، وتوكل على الله عز وجل.

تحميل