مميز
EN عربي
الكاتب: محمد سليمان
التاريخ: 19/11/2012

منتقدو الشيخ البوطي .. عن تناقضاتهم وتطاولهم ومسؤوليتهم

مقالات
منتقدو الشيخ البوطي .. عن تناقضاتهم وتطاولهم ومسؤوليتهم
الكاتب: محمد سليمان
لن أتحدث عن الوهابيين من بين منتقدي الشيخ سعيد رمضان البوطي؛ فهؤلاء لم يعرفوا المنهج العلمي في ردودهم على كتبه فيما مضى. وكدأبهم من قبل لم تنجدهم مذقة علم لفهم موقفه من الأزمة في سورية ولم تسعفهم مسكة من منطق في محاولة تفنيد حججه الشرعية، وضل عنهم الأدب وهم يعلقون على موقفه في الفضائيات.
لكني سأتحدث - وفي القلب غصة - عن نفر من العلماء أو الدعاة الذين خبروا الشيخ وطالما شهدوا له، وبعضهم تتلمذ على يديه، ثم لما خالفوا موقفه من الأزمة وبدرت تناقضاتهم استحوذ عليهم رأيهم فاستبدلوا بالنقاش العلمي الهجوم الشخصي. وأحاول في هذه المقالة تتبع تطور موقف هذه الفئة لأبين أولاً: التناقضات التي وقعوا فيها؛ ثانياً: اللجوء إلى التجريح والنقد بعد الثناء والمدح ودلالات هذا التغير؛ وثالثاً: أفسر موقفهم وما آل إليه في ضوء ما يعرف في علم النفس بالتفكير الحالم الذي قد يترتب على شعورهم بالمسؤولية أو بالذنب.
أولاً: التناقضات عند منتقدي موقف الشيخ البوطي:
دون تحديد اسم عالم أو طالب علم من المنتقدين، سأستعرض أبرز ما اطلعت عليه من مواقفهم وما انطوت عليه من تناقض سواء أكان التناقض بين موقفهم أثناء الأزمة وموقفهم قبلها أو التناقض في موقفهم نفسه أثناء الأزمة:
التناقض من حيث مدى جواز الخروج على الحاكم فيما عدا حالة تلبسه بكفر بواح
لم يعرف عن أحد من منتقدي موقف الشيخ البوطي أنه قال قبل الأزمة بجواز الخروج على الحاكم فيما عدا حالة تلبسه بكفر بواح. وكانوا يقرّون بدروسهم العامة وبلسان حالهم بأن الوضع في سورية لم يكن ضمن حالات جواز الخروج على الحاكم.
ويعرف الناس ويسمعون في دروس التفسير المسجلة لأحدهم أنه أوضح وأكد قاعدة سد الذرائع عند تفسيره قوله تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) [الأنعام: الآية 108]. ولا يجدون في تفسيره ما يحيد عن ما أكده وشرحه الشيخ البوطي عندما استند إلى هذه القاعدة باعتبارها واحداً من الأدلة الشرعية لمنع أساليب التعبير عن الرأي التي تقود إلى استثارة العنف وسفك الدماء.
إذا كان ذلك موقفهم المعروف عنهم والمستند إلى نصوص الشرع وما أكده العلماء المجتهدون، فإنهم يناقضون أنفسهم إذ يتبنون موقفاً يجيز الخروج على الحاكم فيما عدا حالة تلبسه بكفر بواح. وهم في ذلك يحاكون الشيخ القرضاوي الذي كان مذهبه على نحو ما ذكرت آنفاً من حيث مدى جواز الخروج على الحاكم كما جاء في كتابه عن الجهاد طبعة سنة 2006، ثم بدل مذهبه في المسألة بإصدار خاص بمناسبة الربيع العربي!
ولتبرير موقفهم الجديد ساق بعض منتقدي الشيخ البوطي المبررات الآتية واعتبروها أدلة:
فقال أحدهم ببيان نشر على الانترنت وبثته محطة للإخوان المسلمين تعمل في دولة عربية (مع أنه لم يعرف عنه تأييده للأخوان المسلمين سابقاً) إنه لم يؤيد الخروج على الحاكم سابقاً لأن الناس لم يكونوا مجمعين على طريقة التغيير، أما اليوم فقد أجمعت فئات الناس على ذلك.
فهل إجماع عامة الناس مصدر من مصادر الأدلة الشرعية؟ وهل هناك إجماع أصلاً على أرض الواقع من هذا النوع؟
وقال آخر إنه بعد البحث والتنقير، والغوص في بطون كتب الفقه (ويفترض أنه مبطون من العلم سابقاً!) اكتشف أن الحاكم الظالم يختلف عن الحاكم الفاسق الذي لا يجوز الخروج عليه، وأن الظلم إذا بلغ درجة كبيرة وعامة جاز الخروج. وهنا أسأل كل أحد ما إذا كان يترك النصوص العامة الصريحة من الأحاديث الشريفة وما بني عليها من أقوال أهل العلم على مر العصور ويأخذ بقول فرد في عصرنا اكتشف ما لم تأت به الأوائل؟!
وعلى أية حال، بأي منطق تشريعي يمكن أن تخضع مسألة بالغة الخطر مثل التضحية بسفك الدماء لتقدير ما إذا كان الظلم بلغ درجة كافية للخروج أم لا. وأنى للناس أن يتفقوا على تقدير ذلك! إن مثل هذا المعيار في مثل هذه المسألة الخطيرة تأباه حتى القوانين الوضعية. ثم من قال إن قتل فرد واحد أو عشرات دون وجه حق ظلم يسير بينما قتل المئات ظلم كبير. ألم يقل الله تعالى (مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً) ... الآية [المائدة: من الآية 32]. ألا تدل التفرقة في درجة الظلم في القتل تبعا للعدد على سقم الطبع وتأثره بالواقع المؤلم في العالم المعاصر الذي أصبح فيه القتل بالجملة خبراً عادياً نتيجة جرائم الغرب العنصري وإعلامه الذي جعل إنكار الجريمة نسبياً وحجم الجرائم يقاس بالأرقام وليس بمقياس القيم؟ وماذا يقول صاحب هذه التفرقة في حيف الحكومات التي تفرض ضرائب غير شرعية ترهق الناس عامة، هل يوافق أن هذا ظلم عام يسوغ الخروج والتضحية بالأمن والدماء؟ وعلى أي أساس سيمنع الخروج في مثل هذه الحالة: أبناءً على تقديره الشخصي لدرجة الظلم؟
من حيث طريق الإصلاح والتغيير
وفي مواعظهم ودروسهم العامة، وكثير منها مسجل وسائر بين أيدي الناس ورائج في الأسواق وذائع في وسائل الإعلام ومتاح على الإنترنت، طالما أكد هذا النفر نفسه ما أخذه الناس عن العلماء عموماً من أن التغيير يبدأ بإصلاح ما بين الفرد وربه وأن جور الحكام من أعراض المرض الأساسي وهو كثرة الخبث أي بعد الناس عن دين الله، وأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له ضوابط شرعية منها ألا يترتب على النهي عن المنكر ظهور منكر أشد.
رغم ذلك تبنى هذا النفر اليوم جواز الخروج على الحاكم باعتباره من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن ذلك يندرج في باب (كلمة حق عند سلطان جائر). ولعلهم سمعوا رأي من قال إن المظاهرات وإن أدت إلى قتل متظاهرين فإنها كلمة حق جماعية عند سلطان جائر. وأكتفي هنا بالاقتباس من كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي ما نصه:
"وأما المنع بالقهر فليس ذلك لآحاد الرعية مع السلطان، فإن ذلك يحرك الفتنة ويهيج الشر ويكون ما يتولد منه من المحذور أكثر. وأما التخشين في القول كقوله: يا ظالم يا من لا يخاف الله وما يجري مجراه فذلك إن كان يحرك فتنة يتعدى شرها إلى غيره لم يجز، وإن كان لا يخاف إلا على نفسه فهو جائز بل مندوب إليه". انتهى الاقتباس.
ومرة أخرى يأتي هذا النفر بدعوى اكتشاف جديد متجاهلين أن فرضية "كلمة حق جماعية" وجر القتل "الشهادة المفترضة" إلى غير الصادع بكلمة الحق لم تغب عن فطاحل العلماء الذين قيضهم الله ليبينوا شرعه وينيروا الدرب للأمة في زمن الفتن فقرروا أنه لا يجوز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطريقة تجر الشر للغير فما بالك إذا جرت الشر للبلاد والعباد. أو لعل هذا النفر توهم، كما هو حال بعض العامة، أن منع الخروج على الحاكم يكافئ إقرار المنكر الذي يتلبس به الحاكم. ولا أستطيع أن أجعل نفسي معلماً لهم هنا لأبدد هذا الوهم.
تناقض المنتقدين في موقفهم من الأزمة نفسه
كما أسلفت لم يكن موقف النفر في بداية الأزمة كما هو اليوم. ولا أستطيع شخصياً قبول أن موقفهم الأول كان بسبب وجودهم داخل سورية، وأن موقفهم الحقيقي هو ما عبروا عنه بعد خروجهم من سورية. فقد صرح أحدهم أن سبب تغير تعبيره عن موقفه يرجع إلى تحقق إجماع لم يكن موجوداً في بداية الأزمة! كما باهى آخر على الفضائية بأنه جهر بموقفه داخل سورية وعلى المنابر قبل خروجه من سورية (ليظهر فجأة في ذلك النتوء الجغرافي!).
وإضافة إلى التناقض العام المتمثل بتغير المواقف والذي يدل في أفضل الافتراضات أن الأمور مختلطة عليهم من الناحية الشرعية واحتاجوا كل هذا الوقت لبلورة موقفهم، فإن هناك تناقضا لديهم في التفاصيل.
فمن جهة اعتبروا أن الإجماع كفيل بتحقيق أهداف الخروج، ومن جهة أخرى يربطون تحقيق تلك الأهداف بالدعم والتسليح الخارجي، ويلومون الغرب وأمريكا للتباطؤ في ذلك. ثم لا يسعهم إلا القول إن الاستعانة بالغرب غيـر جائزة وما يريدونه هو التسليح فقط وليس التدخل. وفي الوقت نفسه يقررون ما هو معروف من أن الغرب لا يمكن أن يكون أميناً على مصالح العرب والمسلمين ولا صادقاً في دعمهم.
فهل هناك خلط أعجب من ذلك؟ كيف توصلوا إذن إلى أن المعطيات على الأرض ترجح نجاح أهداف الخروج؟ وضد من ستسلحهم أمريكا والغرب؟ ألا يذكر أحدهم أنه قال في محاضرة بالانجليزية في مانشيستر في بريطانيا أن (أمريكا في حرب ضد الله)؟ ممن ينتظر التسليح إذن؟ ولا يقولن أنه ينتظر التسليح من دول الخليج، لأنه سيكون من المضحك المبكي أن يطالبنا بتصديق أن هذه الدول تملك قراراً مستقلاً والقوات الأمريكية تربض على أراضيها؛ فالتسليح الآتي منها هو تسليح أمريكي بشكل غير مباشر حتماً.
ونشر أحدهم بياناً على الإنترنت حاول فيه تفنيد حقيقة أن موقف الشيخ البوطي متفق مع منهج علماء الشام أمثال الشيخ حسن حبنكة والشيخ ملا رمضان رحمهما الله، فقال إن الثائرين اليوم يسمعون للعلماء (مثله هو) ويستنصحونهم بينما في الماضي لو تكلم العلماء لما استجاب لهم الناس. ولكني أسأل أليس الواقع أنه هو الذي استجاب للناس وليس العكس؟
ولعمري أية مسؤولية عن الدماء حمّل نفسه إياها بقوله إن الثائرين يسمعون له؟ّ! ليقل إذن للمسلحين ألا يدخلوا حياً لم يدعهم إليه أهله لكي لا يجروا إلى الحي معارك يهرب من خشيتها الناس ويُقتل فيها آخرون لا يعرفون لمَ قُتلوا.
ويتناقض مع هذا القول قول عضو آخر من هذا النفر من منتقدي الشيخ البوطي في حديث لصحيفة الدستور الأردنية منشور على موقعها الالكتروني أنه لا يرضى بمخرجات اجتماع الدوحة وأن الائتلاف الذي تم تشكيله لا يمثل هوية سورية ولا أهداف الخروج الذي أيدوه. فمن هم إذن الخارجون الذين يسمعون للعلماء؟ أم أن المقصود أن فئة من الخارجين دون غيرهم تسمع لهذا النفر؟ إذن هذا مما يؤكد أن المسلحين في سورية هم فصائل متفرقة كل منها يتبع جهة ما. ومهما يكن من أمرهم فإن الحقيقة أن هؤلاء النفر من منتقدي الشيخ البوطي لا يقودون ثورة بل انقادوا للمجهول وجرفتهم شهوة الانتقام للضحايا قبل أن تخطف أضواء الاستوديوهات والكاميرات أبصارهم.
ثانياً: الانتقال من محاولة الرد العلمي إلى التجريح الشخصي:
ليس أدل على ضعف حجج منتقدي موقف الشيخ البوطي من أنهم انتقلوا من محاولة الرد العلمي المضطرب على موقفه إلى التجريح والنقد لشخصه محاولين زعزعة ثقة الناس فيه؛ وهو أسلوب لم نعهده في التاريخ إلا من المستعمر وأعوانه أو من قبل الذين لا يعلمون.
فقد اجتمع اثنان من هؤلاء النفر مع ثالث لا أعرفه على الفضائية إياها وغمزوا ولمزوا محاولين التشكيك بحسن نية الشيخ وأنه لا يسمع من الناس حقيقة ما يجري.
وانفرد آخر بأسلوب عجيب, فبدأ في جواب على سؤال على الانترنت بالثناء على الشيخ البوطي وحاله مع الله إلا أنه قال خذوا عن الشيخ العلم في كذا وكذا ولاتأخذوا عنه في السياسة الشرعية! هكذا إذن أقام هذا الداعية - وأحسبه من طبقة تلاميذ تلاميذ الشيخ البوطي - من نفسه مقوماً للمستوى العلمي للشيخ البوطي. وتذكرت محاضرة لهذا الداعية في أحد مجالس الوفاء في دمشق سمعتها عن الإنترنت استنكر فيها سوء أدب بعض طلاب العلم الذين يعاملون مشايخهم معاملة الأنداد. لعل أدب المتعلم مطلوب فقط بين هذا الداعية وتلاميذه!
إلا أن هذا الداعية عاد في وقت لاحق ونشر مقالاً طفح بالجرأة على العلماء حيث نعت الشيخ البوطي بما لا ينبغي من طالب علم، فضلاً عن عالم يتصدر للفتوى في أخطر المسائل؟ وذكر الداعية نفسه أيضاً مواقف للشيخ البوطي لا علاقة لها بالأزمة وترجع لسنوات ماضية وقال الداعية إنها لا تنسجم مع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وذلك للتشكيك بشخص الشيخ. قلت: كيف نفسر هذا النقد الذي يتم بأثر رجعي؟ لماذا ظل هذا النفر ساكتين على الشيخ طوال هذا الزمن؟ ولماذا انقلب موقف هذا الداعية من الخلاف المؤدب في بداية الأزمة إلى الهجوم الشخصي لاحقاً ومن الثناء والإجلال إلى غير ذلك؟ أخشى ما أخشاه أن يدل هذا الموقف غير العلمي وغير اللائق على حسد دفين انطوت عليه صدور بعض الناس حتى من الدعاة فكشفت عنه الأزمة. قال كعب رضي الله عنه: "ما من حكيم في قوم إلا حسدوه وكثّروا عليه" [ذكره العز بن عبدالسلام في مقاصد الرعاية، فصل الحسد].
ثالثاً: التفكير الحالم للهروب من الشعور بالذنب:
لست مختصاً في علم النفس, ولكن كلام هؤلاء الدعاة الذين تحولوا من نقد موقف الشيخ البوطي إلى نقد شخصه فراحوا يحاولون الشق عن صدره وتحليل شخصيته، شجعني على محاولة تفسير انتقادهم للشيخ من منظور نفسيّ طالما فتحوا هم الحديث في هذا الباب.
هناك ما يسمى بالتفكير الحالم، والذي يكون عندما يتمنى المرء وجود واقع معين ثم ينظر إلى الأشياء تحت تأثير هذا التمني فيحاول إقناع نفسه بأن كل شيء حوله يؤيد نظرته، في حين إن التفكير السليم ينظر إلى الأشياء كما هي ليعرف الواقع كما هو وإن خالف الأمنية. فإذا كان لديك فريق رياضي ضعيف الخبرة ولم يتدرب لفترة كافية، فإن التفكير السليم يؤدي إلى عدم توقع أن يحقق نتائج ممتازة في أية بطولة. أما إذا استحوذت أمنية تحقيق البطولة على أحد الناس فإنه معرض للتفكير الحالم الذي يجعل خبرة الفريق كبيرة في عينيه ويقلل من أهمية عدم التدريب فيتوصل هذا الحالم إلى نتيجة غير واقعية وهي أن فريقه قادر على تحقيق كأس البطولة ويصبح يتصرف ويقرر بناء على هذه القناعة الزائفة.
يمكن إذاً أن يكون هؤلاء الدعاة ركبوا بحر التمني فتمنوا شيئاً من وراء تأييدهم للخروج والعنف رأوا فيه مستقبلاً أفضل، ثم هيأ لهم التفكير الحالم أن هناك إجماعاً أو أن الوضع القائم لا يندرج أصلاً ضمن فتاوى العلماء المانعة من الخروج على مر العصور، إلى غير ما هنالك.
ولعل ما زاد من تمكن هذا التفكير الحالم في أذهانهم، أنهم وجدوا أنفسهم ساهموا من خلال مواقفهم وكلامهم في زج الناس في العنف وبذل الدماء. وهروباً من الشعور بالذنب الذي قد يكونوا أوقعوا أنفسهم فيه، والمسؤولية عن نتائجه، أقنعتهم أنفسهم بتفكير حالم بأن الخروج والعنف جائز في الوضع القائم.
ولعله مع مرور شهور هذه الأزمة (عجّل الله في زوالها وأبدلها أمناً وسلاماً) تأجج الندم لديهم بعد ما تبين من صحة موقف الشيخ البوطي ليس من المنظور الشرعي فقط بل حتى على مستوى التحليل السياسي أيضاً. فيا له من عبءٍ ثقيلٍ عليهم أن نطالبهم بالإقرار الآن أنهم أساؤا التقدير! فهذا الإقرار يكافئ الاعتراف بمسؤوليتهم المعنوية عن التسبب - ولو بحسن نية - بإراقة دماء أبرياء. حيث إنه لا بد أنه تجلى لهم الآن أنه مهما تكن نتيجة الأزمة الراهنة وشكل النظام بعدها فإنهم لن يجدوا في أفضل الأحوال أكثر من منابرهم والعودة إلى دروسهم كما كانوا قبل الأزمة دون أن يكون لهم أي دور في صياغة مستقبل سورية السياسي والتشريعي.
فهل سيهزمون أنفسهم ليعترفوا بذلك؟ أرجو الله أن يعينهم على ذلك، وأملي نابع من قوله تعالى: (إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ ٱلشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) [الأعراف: الآية 201]
أما إذا استعصت عليهم أنفسهم، فأنصحهم أن يأخذوا درساً من الشيخ سعيد رمضان البوطي الذي لم يدفعه الشعور الإنساني ضد الظلم لسلوك سبل غير مشروعة لرفعه ولم يزحزحه عن الحق شهوة جلب رضا الجماهير والمحافظة على الشعبية ولا حتى لدرء هجمة ظالمة واسعة النطاق عليه.
وأختم بفقرات أقتبسها من كتاب الشيخ البوطي (وهذه مشكلاتنا) من فصل (مشكلة الجدلية المضنية بين المعلم والتلميذ):
"غير أننا نشهد في هذا العصر جدلية عجيبة في طريقة التعلم والمعرفة، لاسيما في نطاق المعارف الدينية وأصول الدعوة الإسلامية، ففي الوقت الذي يطلب من المعلم أو الداعي أن يعلم الناس وينشر الدعوة الإسلامية على أصولها السليمة، يطلب منه أيضاً أن يستلهم قواعد هذه الأصول وضوابطها من العامة الذين يعلمهم أو يثقفهم ويرشدهم!..
... وليعلم أن من غاص في بحار التوحيد حجب عن الناس وعن أطماعه فيهم فهان عليه أن لا يهتم إلا برضا الله عز وجل. أما من غاص في بحار الدنيا وأهوائها فلا ريب أن ذلك يحجبه عن رؤية الله والاصطباغ بحقائق وحدانيته، ومن ثم فإنه لا يهتم إلا برضا الناس، إذ إنه لا يرى غيرهم أمامه، على أنه لن ينال من اهتمامه هذا منالاً يسعده. فاللهم أسعدنا بشهود وحدانيتك، حتى لا نرى في الكون سواك فلا نطمع إلا بمرضاتك ولا نخشى إلا من سخطك" أ.هـ.
اللهم احفظ الشام وثبّت العلماء، آمين.

تحميل