مميز
EN عربي
الكاتب: الباحثة نبيلة القوصي
التاريخ: 15/04/2012

الخانات في دمشق القديمة (1)

معالم الشام

الخانات في دمشق القديمة

بعد أن تجولنا في أسواق دمشق القديمة، وتمتعنا بقدم أرضها وقباب سمائها وبألوان بضائعها الزاهية...

كان لا بدَّ للزائر والتاجر من التوقف للراحة والاستجمام، أو لعقد صفقة تجارية ما.. ومن هنا برزت أهمية الخانات في العمارة الإسلامية، فهي أبنية مخصصة لإقامة المسافرين وقوافل التجار، والخانات لفظةٌ فارسيّة الأصل، أُطلِقت على مكان مبيت المُسافرين.

والخانات نوعان: الأوّل أقيم على طُرُق السّفر خارج المُدن المتباعدة، والثاني داخل المدن والتّجمعات السكنية.

كان النّوع الأوّل يُبنى في بادئ الأمر على منابع المياه ومجاري الأنهار؛ ويبتعد الواحد من الآخر مسيرة نهارٍ، أيّ ما يقارب الثلاثين كيلومتراً. وكان الخان يقدّم الخدمات للتّجار والرّحالة والمُسافرين كافةً، ويوفّر لهم الراحة ويجنّبهم مشقّة ومخاطر السّفر ليلاً.

يضمّ الخان مستودعات لحفظ البضائع وإسطبلاتٍ مختلفةً لإيواء العربات وأنواع الحيوانات التي لا تتجانس في الزّرائب. فالخيول تأنف من روائح الإبل. والبغال لا تسكن مع الحمير. وكانت الإسطبلات مجهّزة بلوازم إصلاح المركبات ومعدات للعناية بالدّواب ورعايتها. وإلى جانب تلك المرافق والخدمات، هناك الحوض في وسط الصّحن ومشرب البهائم، الفرن والمُصلى، وكذلك الحمّام.

استُعمِلَت في بناء الخانات مواد تغيّرت مع الموقع. فقد تكون من طينٍ أو من قرميدٍ مشويّ أو نيء، في العراق وإيران ومصر، أو من حجارةٍ كلسيةٍ أو بازلتيّة في الشّام وتركيا. أمّا من حيث التّصميم، فكان الخان مربع المسقط، إجمالا وغالباً بطبقتين اثنتين، تحتلّ أركانه أبراج للمراقبة والدّفاع. وقد يحيط به سور خارجي مدعّم وبوابة مصفّحة ضخمة محكمة الإغلاق ليلاً، وكأنّه حصن صغير. وكانت غرف المسافرين موزّعة بين الطّبقتين أو في العليا فقط. وفي بعض الخانات المتواضعة، كانت قاعة النّوم مشتركةً يرقدُ فيها المسافرون، على منصّاتٍ مرتفعةٍ عن الأرض. وكانوا يجلسون عليها نهاراً.

ومن الملاحظ أنّ خانات السّهول كانت أوسع من خانات الجبال. كما كانت خانات البلاد الباردة تخلو من الصّحن المكشوف. ولقد أخذت الخانات إجمالاً، بعد انتشار الإسلام، تصميمين رئيسين: الأوّل إيراني بِقَاعاتٍ متطاولةٍ موازية للصحن المركزي. ولكنّ هذا التّصميم ما لبث أن أخذ شكل الأواوين. وقد احتلت البوابة في عمارته مركزاً على جانبٍ كبيرٍ من الأهمّية. أمّا التّصميم الثاني فهو بأربعة أضلاعٍ وصحنٍ مركزيٍّ تحيط به الأروقة، قديم العهد، يعُرَف بالطّراز البحر الأوسطي.

أمّا النّوع الثاني فكان خانات المُدن التي كانت تشترك مع خانات الطّرق في ما تقدّم من خدماتٍ؛ وتضمّ مرافق، وتختلف عنها في أخرى، إضافةً إلى ما كان يمكن أن تقدّمه المدينة بشكلٍ أفضل لزوّارها، كالحمام والمسجد والمطعم وشغل البيطار وغير ذلك من الضّروريات والكماليات. وكما كانت خانات الطّرق تمثّل المحطّات الحسّاسة على مفارق الطّرق ومجاري المياه ومراكز الحدود، لذلك احتلّت خانات المُدُن مداخل المدن، خارج السّور أو داخله أيام السّلم وفي قلب الأسواق وجوار الحمام والمسجد.

كانت وظيفة الخان في المدينة استقبال التجار بشكلٍ عامٍ، من باعة الجُملة ومُروّجي البضائع ومراسلي المستوردين والوسطاء. وفي هذا المكان كان يتمّ البيع والشّراء، وكأنّ المكان لم يعد لإيواء المُسافرين بل استقبالهم ريثما يتمّون تجارتهم. وكما كان لكلّ بضاعةٍ دار، صار لها خان يرتبط اسمه بها، إن لم يرتبط باسم مؤسّسه أو مالكه؛ فهنالك خان الحرير وخان الحبالين في دمشق، وخان الجوخ في استنبول، وخان الخيّاطين والصّابون في طرابلس، وخان الزّيت وخان الحرير في حلب. وكان بعضها عظيم الاتّساع كخان الجُمرك في حلب الذي يعود تاريخه إلى عام 1574م. فقد ضمّ اثنين وخمسين مخزنًا، وسبعًا وسبعين غرفة وسوقين مبنيين بالحجر المُهندَم، يصل إليهما الضّوء من قببٍ عشر تعلوها. وكان مجموع دكاكينه ثلاثمائة وأربعة وأربعين، وإلى جانبها سبيلان ومسجد.

تصميم خان المدينة، بشكلٍ عامٍ، لم يتغيّر على مرّ العصور. فأخذ تخطيط صحنٍ مركزيٍ مكشوفٍ يتوسّطه حوض. وتحيط بالصّحن بوائك أُقيمت الدكاكين تحتها، لتبقى أبوابها محميّةً من الحرّ صيفاً ومن المطر شتاءً. ومن النّاحية الإدارية، قد يكون الخان مؤسّسةً دينيّةً مرتبطةً بوقفٍ يُحوّل ربعه لصيانة مدرسةٍ أو مسجدٍ أو إطعام مسكينٍ أو فقيرٍ.

لم يبق من كلّ تلك الخانات إلاّ عدد قليل؛ واقتصرت خدماته على استعمال مستودعاته ودكاكينه من قبل مستأجرين، لا تجمعهم إلاّ نادرًا تجارةٌ مشتركةٌ أو مِهَنٌ واحدةٌ، وربّما سكنت غرفةً عائلاتٌ فقيرةٌ.

فالخانات إذاً هي الأبنية المخصّصة لإقامة المسافرين وقوافل التّجار، وهي لها أهمّيتها الخاصة في العمارة الإسلامية، حيث عُرِفَت منذ العصور الإسلاميّة الأولى.

وأقدم خان أنشئ في العصر الإسلامي، الخان الذي بناه الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك عام 109هجري - 728 ميلادي، على مقربة من قصر الحير الغربي في البادية السورية، وقد نقش على ساكف بوابته كتابة تذكر اسم المعماري (ثابت بن أبي ثابت) والتاريخ 109 هجري. وقد حفظت في المتحف الوطني بدمشق.

وقد اشتهرت الخانات بواجهاتها المُزيّنة بزخارف جميلةٍ ومداخلها القوسيّة الضّخمة التي كانت تُغلَق بواسطة مصرعيّ بابٍ خشبيٍّ مصفّح بالحديد والنّحاس. وأصبحت أكثر باحاتها مسقوفة بالقباب والعقود.

وإن عدد الخانات التي كانت في دمشق ومازال القليل منها باقياً، يدل على مدى ازدهار الحياة الاقتصادية والتبادل التجاري بين دمشق وغيرها من المدن السورية أو العواصم الإسلامية، وبخاصة المدينتين المقدستين مكة المكرمة والمدينة المنورة، فلقد كانت مواسم الحج ذهاباً وعودة هي من أخصب المواسم وأطولها، ولقد أثرت الظروف السياسية والاقتصادية في الدول المجاورة وفي سورية، على المواسم الاقتصادية، مما نراه واضحاً في تزايد أو إهمال الخانات عبر التاريخ .

و أقدم خان في دمشق هو دار الضيافة يعود إلى عام 123ه/720م، ثم خان أما جور ويعود إلى عام 265ه/878م. وهذا يعني إن الخانات في دمشق أنشئت منذ العصر الأموي واستمرت إلى العصر العباسي، ثم الفاطمي وقد ورد اسم القيسارية الفخرية التي تعود إلى عام 434ه/1042م.

ولقد ورد ذكر أسماء الخانات في كل عصر ففي العصر الزنكي زادت عن العشرين خاناً، وأسماء الخانات التي تعود إلى العصر الأيوبي تزيد عن هذا العدد. ولم يبق من هذه الخانات اليوم أي أثر. أما الخانات التي أنشئت في العصر المملوكي، فلقد بلغت مئة وخمسين خاناً بقي منها، خان الدكّة فقط.

وتفتقر أكثر الخانات إلى مصادر تاريخية، سواء منها الخانات المتبقية والماثلة حتى اليوم أو الدارسة المهدومة. ولا بد من القول إن جميع الخانات المتبقية، مسجلة في القوائم الأثرية، وهذا يعني أنها تحت حماية السلطة الأثرية ورعايتها - على الورق -، ولا يجوز هدمها وتغيير أوصافها حتى ولو أرادت ذلك السلطات البلدية أو الوقفية، (مع ملاحظة التعدي وسرقة أقسام من الخانات بسبب وجود التقصير والإهمال الذي ظهر من الجهة الموكل إليها مراعاة الآثار، حتى يمر المار ولا يتنبه لوجود هذه الآثار ولهذه الخانات ولا حول ولا قوة إلا بالله).

وبشكل عام الجامع المشترك في عناصر التخطيط العمراني يتألف من: صحن واسع في الوسط، ويتوسطه بركة ماء كبيرة، مستودعات ومخازن وحوانيت مفتوحة لإيداع البضائع، وفي الطوابق العليا غرف للسكن والنوم وتقوم فوق المستودعات.

وقد ازدهرت أكثر في العصر المملوكي، ولكن العناية الخاصة كانت في العهد العثماني، فتوسع الأراضي أدى إلى الاهتمام أكثر ببناء الخانات الموزعة على الطرقات وداخل المدن، وأهميتها تنبع من الازدهار الاقتصادي والتجاري الذي بدأ العالم الاسلامي يتمتع به في فترة الاستقرار السياسي.

كما واشتهرت الخانات بواجهتها المزينة بزخارف جميلة، ومداخلها القوسية الضخمة، التي تغلق بمصراعَي باب خشبي مصفح بالحديد والنحاس، والباحات المسقوفة بالقباب أو العقود.

وبلغ عدد الخانات التي أنشئت في العصر العثماني ثلاثة وثمانين خاناً، بقي منها خان المرادية وخان الجمرك وخان الزيت وخان سليمان باشا وخان أسعد باشا وخان السفرجلانية وخان الزعفرانية وخان العامود وخان الرز وخان العصرونية وخان القيشاني وخان التوتون وخان الصوّاف وخان الصنوبر وخان السلق وخان القطن وخان الجلود وخان مردم بيك وخان الجيجاوي وخان الكزبري وخان شموط وخان القوتلي، وخان قطنا وخان الحرمين وخان الزعفرنجي وخان النتن ، ثم وكالة العشا ووكالة كحالة.