ضمير الشأن بين العربية والعبرية دراسة مقارنة
ضمير الشأن بين العربية والعبرية
دراسة مقارنة
الدكتور عبد الكافي توفيق المرعب
نُشر هذا البحث في مجلة التراث العربي الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب
العدد المزدوج ( 120-121/ لعام 2011م )
ضميرُ الشأنِ جانبٌ من الدرس النحويِّ, فرّقَهُ النحويّون في غيرِ ما موضعٍ, لكنّه رَكَز في بابي"كانَ وإنَّ" وأخواتِهما, لأنَّ النواسخَ تحتاجُ إلى معمولها الأوّلِ, فإذا فُقِدَ من الجملةِ قدَّرَهُ النَّحْوِيُّون مضْمَراً يُعبِّرُ عن الشأن أو القصة.([1])
وحبَّذا لو أبرزنا جانباً من الآلة النحويّة في العبرية كـ "ضمير الشأن", وقارنّاه بالعربيّة, مع العلم أنَّ العبرية ذكرتِ الضمائرَ بأنواعها من دون أنْ تذكرَ ضميرَ الشأنِ صراحةً, لكنّه موجودٌ في أسفار التوراة ,وفي كتب العبادات, وبعض المعجمات , وهذا ما سنراه لاحقاً([2]).
وقبلَ أنْ أعرضَ أراءَ النحويين والمفسِّرين المتقدِّمين ومواقفَهم من ضمير الشأنِ أو القصّةِ في العربيَّة لابدَّ من الوقوف على معنى الشأنِ عند علماء اللغة, لنرى المعنى اللغوي لهذه التسمية.
· الشأنُ عند أصحاب اللغة:
قال الخليل(ت175هـ) والأزهريُّ (ت370هـ): ((الشأن:الخطب))([3]), وقال الجوهريُّ (ت393هـ): ((الشأن: الأمر والحال. يُقالُ: لَأشْأَنَنَّ شأْنَهُم أي: لأُفْسِدَنَّ أمْرَهُم)),([4])وقال ابن فارس(ت395هـ): ((الشينُ والهمزةُ والنون أصلٌ واحدٌ يدلُّ على ابتغاء وطلبٍ, من ذلك قول العرب, شأنتُ شأنَهُ أي: قصدتُ قصدَهُ))([5]), وقال في المجمل: ((الشأنُ: الحالُ والأمرُ, والشأن فيما يقال: الطلبُ, وأنشدوا:
يا طالبَ الجودِ إنَّ الجودَ مَكْرُمَةٌ لا البخلُ منكَ ولا من شأنِكَ الجودُ
أي: من طَلَبِكَ))([6]), وقال ابن منظور(ت711هـ): ((الشأن:الخطبُ والأمرُ والحالُ))([7]), وقال الفيروزآبادي (ت816هـ): ((الشأنُ: الخطبُ والأمر))([8]), وقال الزَّبيدي (ت1205هـ): ((الشأن: الخطبُ والأمرُ والحال الذي يشين, ويُصلِحُ, ولا يُقالُ إلاّ فيما يَعْظُمُ من الأحوال والأمور,وقوله تعالى: ﴿كلَّ يومٍ هو في شأنٍ﴾ [الرحمن/29], قال المفسرون: من شأنه أنْ يُعِزَّ ذليلاً ويُذِلُّ عزيزاً, ويُغْني فقيراً, ويُفْقِرُ غنيّاً ولا يَشْغَلُهُ شأنٌ عن شأنٍ))([9]), وقال الكفويُّ (ت 1094هـ): ((إذا وقع قبل الجملةِ ضميرٌ غائبٌ إنْ كان مذكّراً يُسَمَّى ضميرَ الشأنِ, نحو:"هو زيدٌ منطلقٌ", وإنْ كانَ مؤنّثاً يُسمّى ضميرَ القصّةِ, ويعودُ إلى ما في الذهن من شأنٍ أو قِصَّةٍ أي: الشأن والقصّةُ مضمون الجملةِ بعده,ولا يخفى أنَّ الشأنَ أو القصّةَ أمرٌ مبهمٌ لا يتعيّنُ إلا لخصوصيّةٍ يُعَدُّ هو فيها, ويتّحدُ هو مع مضمونها في التحقيق, فيكونُ ضميرُ الشأنِ أو القِصّةِ متّحداً مع مضمون الجملة التي بعده, ولهذا لا يحتاج في تلك الجملةِ إلى العائدِ إلى المبتدأ. ويُخْتارُ تأنيثهُ إذا كان فيها مؤنّثٌ غيرُ فضلةٍ, نحو: "هي هندٌ مليحةٌ". وقوله تعالى: ﴿فإنّها لا تعمى الأبصارُ﴾ [الحج/46], القصد المطابقة لا لرجوعه إليه, وضميرُ الشأنِ لا يحتاج إلى ظاهرٍ يعود إليه بخلاف ضمير الغائبِ))([10]).
ومن خلال ما تقدّمَ نرى أنَّ الشأنَ من حيثُ اللغةُ هو الحالُ والأمرُ والخطبُ الذي لا يُقال إلا فيما يَعْظُمُ من الأحوال والأمور, أمّا من حيثُ الاصطلاحُ فهو إذا وقع قبل الجملةِ ضميرٌ غائبٌ إنْ كان مذكّراً يُسمَّى ضميرَ الشأنِ,وإذا كان مؤنّثاً يُسَمَّى ضميرَ القصّةِ, وسيكونُ أكثرَ وضوحاً عندما نقفُ على تسميته, وصفاته, وطبيعته في العربيّة.
أولاً: تَسْمِيَتُهُ:لم يصرِّحِ النحويّون الأوائلُ بتسمية ضمير الشأن, لكنّهم أشاروا إليه إشارةً, فمنهم مَن سمّاهُ إضماراً أوأمراً تارةً, وحديثاً أوخبراً أو شأناً تارةً أخرى, ومجهولاً ثالثةً, وعماداً رابعةً.فسمّاه سيبويه(ت180هـ) إضماراً وأمراً, إذ قال: ((إذا قلتَ:" إنَّه من يأتِنا نأتهِ, وإنَّهُ أمةُ اللهِ ذاهبةٌ", فمن ذلك قولُ بعضِ العرب: "ليسَ خلقَ اللهُ مثْلَهُ". فلولا أنَّ فيه إضماراً لم يجزْ أنْ تذكرَ الفعلَ ولم تعملْهُ في اسمٍ, ولكن فيه من الإضمار مثلُ ما في"إنَّه". قال الشاعر:
فأصبحوا والنوى عالي معرَّسِهِم وليسَ كلَّ النوى تُلْقي المساكينُ
فلو كان "كلَّ" على ليس ولا إضمار فيه لم يكنْ إلا الرفعُ في"كلَّ", لكنَّهُ انتصب على تلقي.ولا يجوز أن تُحملَ "المساكينُ" على "ليس", وقد قدَّمْتَ فجعلتَ الذي يعملُ فيه الفعل الآخرُ يلي الأوَّلَ, وهذا لا يحسن. ومثل ذلك في الإضمار قولُ بعضِ الشعراء:
إذا مُتُّ كانَ الناسُ صِنْفانِ شامِتٌ وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أصْنَعُ
أضمرَ فيها([11]), وقال بعضُهُم: " كان أنتَ خيرٌ منهُ", كأنّه قال: "إنَّه أنتَ خيرٌ منه". ومثله: ﴿كادَ يزيغُ قلوبُ فريقٍ منهم ﴾ [التوبة/117], كما قلتَ: "ما كان الطِّيْبُ إلا المسْكُ" على إعمال"ما كان الأمرُ الطيْبُ إلا المسْكُ", فجاز هذا إذا كان معناه:" ما الطيْبُ إلاّ المسكُ
وقال هشام أخو ذي الرمّة:
هي الشفاءُ لدائي لو ظَفِرْتُ بها وليسَ منها شِفاءُ الداءِ مَبْذولُ
هذا كلُّهُ سُمعَ من العرب والوجه والحدُّ أنْ تحملَه على أنّ في "ليس" إضماراً, وهذا مبتدأٌ كقوله: "إنَّهُ أمةُ اللهِ ذاهبةٌ". إلاّ أنّهم زعموا أنَّ بعضَهُم قال:" ليسَ الطيْبُ إلاّ المسكُ, وما كان الطيْبُ إلاّ المسكُ)) ([12]).أي:" ليس الأمرُ, وما كان الأمرُ الطِّيبُ إلاَّ المسكُ", إذ جعلَ في "ليس وكان" ضميرَ شأنٍ وقصّةٍ, وجعل من الجملةِ الاسميَّةِ خبراً لهما.
لكنَّ أبا سعيد السيرافي (ت368هـ) سمّى المضمرَ الذي تحدّث عنه سيبويه ضميرَ الشأن صراحةً, إذ قال: ((اعلم أن كلَّ جملةٍ فهي حديثُ أمرٍ وشأنٍ, والعربُ قد تقدّمُ قبلَ الجُمَلِ ضميرَ الأمرِ والشأنِ, ثمّ تأتي الجملةُ, فتكون الجملةُ هي خبرَ الأمرِ والشأنِ, لأنّ الجملةَ هي الأمرُ والشأنُ, وهذا يسمّيه الكوفيّون المجهولَ.
فمن ذلك قولهم:"إنَّه أمةُ الله ذاهبةٌ, وإنّه زيدٌ ذاهبٌ" فـ"الهاء" ضميرُ الأمرِ, و"زيدٌ ذاهبٌ" مبتدأ, وخبرُهُ في موضع خبرِ الأمرِ والشأنِ, و"إنّه مَنْ يأتنا نأته,وإنّهُ قامَ عبدُ الله". فالهاء في هذه المواضعِ هي الاسم, وما بعدها من الجملة خبرٌ ولا يجوزُ حذفُها إلاّ في الشعر. وربّما جعلوا مكان ضميرِ الأمرِ والشأنِ ضميرَ القصّة. فيقولون:"إنّها جاريَتُكَ منطلقةٌ", قال تعالى: ﴿فإنّها لا تعمى الأبصارُ﴾ [الحج/46] تقديرها: فإنّ القصّةَ. وأكثرُ ما يجيء إضمار القِصَّة مع المؤنّث, وإضمارها مع المذكر جائز في القياس, ومن ذلك: "كان زيدٌ ذاهبٌ, وكان قام زيدٌ" تريد: "كان الأمر والشأن زيدٌ ذاهبٌ" ففي "كان"ضمير الأمر, والجملة التي بعدها في موضع خبر كان)) ([13]). وقد سمّاه الفراءُ (ت207هـ) عماداً, إذ قال في قوله تعالى: ﴿ولا يحْسَبَنَّ الذين يبخلون بما آتاهُمُ اللهُ من فضله هو خيراً لهم﴾[آل عمران/180]. يقال: إنّما "هو" ههنا عمادٌ, فأين اسم هذا العماد؟ قيل: هو مضمرٌ معناه: فلا يحسبنَّ الباخلون البخلَ هو خيراً لهم, فاكتفى بذكر يبخلون من البخل, كما تقول في الكلام: "قدم فلان فسررتُ به, وأنت تريدُ: سررتُ بقدومه)) ([14]), وقال في قوله تعالى: ((﴿فإنَّها لا تعمى الأبصار﴾ [الحج/46] ((الهاء: هاء عماد تُوَفَّى([15]) بها إنَّ)) ([16]),وقال في قوله تعالى: ((﴿ إنَّه أنا اللهُ﴾ [النمل/9] هذه الهاء هاء عماد, وهو اسم لا يظهر, وقد فُسِّرَ))([17]).وسماه ثعلبٌ(ت 291هـ) مجهولاً إذ قال في قوله تعالى:((﴿فإنَّها لا تعمى الأبصار﴾ [الحج/46] إذا جاء بعد المجهول مؤنثٌ ذُكِّرَ وأنّثَ))([18]), وقال أيضاً: ((مَنْ هو قائمٌ جاريتُكَ, ومن هو يقوم جاريتُكَ, جيّدٌ ولا يُقْطَعُ منه ولا يُنْسَقُ عليه, ويسمَّى مجهولاً, وهو يشبهُ"مَن هو قائمةٌ جاريتك"))([19]). وسماهُ المبرّدُ(ت285هـ) حديثاً أو خبراً, إذ قال: ((والوجه الذي يصحّ فيه أن تُضْمِر في كان الخبر أو الحديث, أو ما أشبههُ على شريطة التفسير, ويكون ما بعدَهُ تفسيراً له, فيكون مثل الهاء التي تظهر في "إنَّ" إلاّ أنَّه ضميرٌ مرفوع, فلا يظهر, فيصير الذي بعدَهُ مرفوعاً بالابتداء والخبر. فتقول على صحّة المسألة: "كان غلامَهُ زيدٌ ضاربٌ". فما جاء من الضمير في هذا الباب قوله:
فأصبحوا والنَّوى عالي مُعَرَّسِهِم وليسَ كلَّ النّوى يُلْقي المساكينُ
أضمر في ليس))([20]), وقال ابن الشجري (ت542هـ) في البيت الذي استشهد به أبو العباس المبرّد: ((ذكره شاهداً على إضمار الشأن والحديث في "ليس" فنصبَ"كلَّ النوى" بـ"يُلقي", فخَلَتْ لذلك الجملةُ من ضميرٍ ظاهرٍ أو مقدَّرٍ, يعود على مرفوعِ "ليس" لأنّ ضميرَ الشأنِ لا يعود عليه من الجملةِ المُخْبَرِ بها عنه ضميرٌ, لأنَّ هذا المخبَرَ عنه هو الخبرُ في المعنى, وإنّما يلزمُ أن يعودَ على المخبَرِ عنه ضميرٌ من الجملةِ المخبَر بها عنه إذا كان الخبرُ غيرَ المخبَرِ عنه, كقولك: "ليس زيدٌ يُكرمُهُ أخوكَ", فقولك:"يُكرمُهُ أخوك" حديثٌ عن زيدٍ, والحديثُ غيرُ المحدَّث عنهُ. ولو رفعتَ "كلَّ النوى" بـ"ليس" لزمك أن تُقَدِّرَ ضميراً يعود إليه من الجملة, تريد: "وليس كلُّ النوى يُلقيهِ المساكينُ, وحَذْفُ الضميرِ العائدِ من الخبرِ إلى المخبَرِ عنه ضعيفٌ, مباينٌ لحذف العائد من الصفة إلى الموصوف)) ([21]). وسمَّاهُ الزجّاجُ (ت311هـ) أمراً, إذ قال في سورة الإخلاص: ﴿ قل هو الله أحد﴾ [الإخلاص/1] هو: مبتدأ, ويجوز أن يكون"هو" للأمر, كما تقول:"هو زيدٌ قائمٌ, أي:الأمر زيدٌ قائمٌ", والمعنى:"الأمرُ اللهُ أحدٌ"))([22]). وسمّاه ابن السرّاج (ت316هـ) مجهولاً, إذ قال في قوله: ((كان أخواكَ يضربانِ زيداً, وتجوز في هذه المسألة إذا أضمرتَ في"كان" مجهولاً)) ([23]). لكنَّ الزجّاجيَّ(ت340هـ) سمَّى الضميرَ ضميرَ الشأنِ الذي استتر في "كان", إذ قال: (( ويكون اسم كان مستتراً فيها بمعنى الأمرِ والشأنِ, وتقعُ بعدَه جملةٌ تفسِّرُ ذلك المضمرَ, لأنّه مضمرٌ لا يظهرُ, فلابدَّ مما يفسِّرُهُ, كقولك: "كان زيدٌ قائمٌ", والتقديرُ:" كان الأمرُ زيدٌ قائمٌ". قال الشاعر:
إذا مُتُّ كان الناسُ نِصْفانِ شامتٌ وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أصْنَعُ
التقدير:" كان الأمرُ الناسُ صنفانِ" فـ"الأمر" اسمُ كان وهو مضمرٌ فيها,و" الناس صنفانِ" ابتداءٌ وخبرٌ في موضع خبرِ "كان",ومثله قول هشام أخو ذي الرمّة:
هي الشفاءُ لدائي لو ظفرتُ بها وليسَ منها شفاءُ الداءِ مبذولُ )) ([24]).
وصرَّح أبوعليٍّ الفارسيُّ (ت377هـ) بتسمية هذا الضميرِ ضمير القصّةِ إذا جاء مؤنّثاً, وضمير الحديثِ والأمرِ إذا جاء مذكَّراً, إذ قال في ما أُضْمِرَ قبل الذكرِ وفُسِّرَ بجملةٍ, وتدخل عليه" كان وإنَّ, وعلمتُ وظننتُ" وأخواتهنَّ : ((هذا الضربُ أصلهُ أنْ يقعَ في الابتداء, وإذا كان مَوْضِعُهُ الابتداءَ دخل عليه ما يدخلُ على المبتدأ من"كان وإنَّ" وبابيهما, و"علمتُ وظننْتُ" وأخواتهما. قالوا في قوله تعالى: ﴿قل هو اللهُ أحدٌ﴾ [الإخلاص/1]: إنَّ الضمير للأمر والحديثِ, وإنَّ الجملة التي هي المبتدأ وخبره في موضع خبره. وتدخل"إنَّ" على المبتدأ, فتقول:" إنَّهُ زيدٌ منطلقٌ", وفي التنْزيل: ﴿إنَّهُ مَنْ يأتِ رَبَّهُ مُجْرماً فإنَّ لهُ﴾ [طه/74], وفيه: ﴿ فإنَّها لا تعمى الأبصار﴾[الحج/46], فجاء التأنيث على ضمير القصّة, كما جاء التذكير على ضمير الحديث والأمر)) ([25]). وسمّاه ابن جنّي(ت392هـ) شأناً وحديثاً,ويضمر في كان, ويأتي اسماً لها, إذ قال: (( وقد يُضْمَرُ في كان اسمها, وهو ضمير الشأنِ والحديثِ, فتقعُ الجملُ بعدها أخباراً عنها, تقول: "كان زيدٌ قائمٌ", أي:"كان الشانُ والحديثُ زيدٌ قائمٌ", قال الشاعر:
إذا مُتُّ كان الناسُ نِصْفانِ شامتٌ وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كنتُ أصْنَعُ
أي: كان الشأنُ والحديثُ الناسُ نصفانِ)) ([26]). وسمّاهُ الصيمريُّ (من نحاة القرن الرابع الهجري) ضميرَ الأمرِ والشأن والقصّةِ والحديثِ, وجوَّز إضمارَه في "إنَّ", إذ قال: ((إنّهُ يجوز أن تُضْمِرَ في"إنَّ" الأمرَ والشأنَ فتقول: "إنَّهُ زيدٌ خارجٌ" فيكون الهاءُ اسمَ "إنَّ", و"زيدٌ خارجٌ" في موضع الخبرِ, والهاء ضميرُ الأمرِ والحديثِ.
وقد تُضْمَرُ القِصَّةُ, لأنَّ كلَّ كلامٍ فهو أمرٌ وقصَّةٌ وحديثٌ, وأكثرُ ما تضمر القصّة مع المؤنّثِ, تقول: "إنَّها أمةُ اللهِ ذاهبةٌ", قال الله عزَّ وجلَّ: ﴿إنَّها إنْ تكُ مِثقالَ حبّةٍ من خَرْدلٍ﴾ [لقمان/16], وقال في التذكير: ﴿إنَّهُ من يأتِ رَبَّهُ مُجْرماً﴾ [طه/74].
وقد أجازوا الإضمار في"لكنَّ" في الشعر, وأنشد سيبويه([27]) للفرزدق:
فلو كُنْتَ ضَبِّيَّاً عَرَفْتَ قرابتي ولكنَّ زِنْجيٌّ عظيمُ المشافرِ
على تقدير: "ولكنَّكَ زِنْجيٌّ". وحكى الخليلُ أنَّ بعضَ العربِ يقولُ:"إنَّ بك زيدٌ مأخوذٌ" على تقدير: "إنَّه بك زيدٌ مأخوذٌ", قال سيبويه: والنصبُ في كلام العرب أكثر)) ([28]). وهذا الضمير إذا أُضمِرَ ثمَّ فُسِّرَ, كان ذلك أفضلَ له من أنْ يُذْكَرَ من غيرِ إضمارٍ, قال عبد القاهرُ (ت 471هـ): (( إنَّ الشيءَ إذا أُضمِرَ ثمَّ فُسِّرَ, كان ذلك أفخمَ له من أن يُذْكَرَ من غير تقْدمةِ إضمارٍ.ويدلُّ على صحَّة ما قالوه أنَّا نعْلَمُ ضرورةً في قوله تعالى: ﴿ فإنَّها لا تعمى الأبصار﴾ [الحج/46] فخامةً وشرفاً وروعةً, لا نجد منها شيئاً في قولنا: "فإنَّ الأبصار لا تعمى", وكذلك السبيل أبداً في كلِّ كلامٍ كان فيه ضميرُ قصَّةٍ. فقوله تعالى: ﴿إنَّه لا يُفْلحُ الكافرون ﴾[المؤمنون/117], يُفيد من القوَّةِ في نفي الفلاح عن الكافرين, مالو قيل:" إنَّ الكافرين لا يفلحون", لم يُسْتَفَدْ ذلك. ولم يكن ذلك كذلك إلاَّ لأنَّك تُعْلِمُهُ إيَّاه من بعد تقدِمةٍ وتنْبيهٍ, أنت به في حكم من بدأَ وأعادَ ووطَّدَ,ثمَّ بنى ولوَّحَ ثمَّ صرَّح. ولا يخفى مكانُ المزيَّةِ فيما طريقه هذا الطريق)). ([29])
وصرَّحَ الزمخشريُّ (ت537هـ) بتسمية هذا الضميرِ, إذ قال: ((ويقدّمون قبل الجملة ضميراً يُسمَّى ضميرَ الشأن والقصّةِ, وهو المجهول عند الكوفيين, وذلك نحو قولك:" هو زيدٌ منطلقٌ", أي:" الشأنُ والحديثُ زيدٌ منطلقٌ", ومنه قوله تعالى:﴿قل هو اللهُ أحدٌ﴾[الإخلاص/1]([30]).وقاله الباقولي (ت543هـ) أيضاً في سورة الإخلاص: ((أي الشأنُ والأمر اللهُ أحدٌ, والجملةُ ابتداءٌ وخبرٌ تفسير له)).([31]) وكذلك الحيدرة اليمنيّ (ت599هـ) صرّحَ بتسميته,مستتراً في "كان" وأخواتها, إذ قال: (( وقد تضمَّنَ كان وأخواتها ضمير الشأن والقصّة, ويسمِّيه الكوفيُّون ضميرَ المجهول, لأنّه لا يرجعُ على مذكورٍ ولابدَّ من جملةٍ تُفَسِّرُهُ إمّا فعلاً وفاعلاً, وإمّا مبتدأً وخبراً, ولا يجوز أن يكون في الجملة ضميرٌ, ومثال ذلك كلِّهِ: "كان زيدٌ قائمٌ", فـ"زيدٌ قائمٌ" مبتدأٌ وقائمٌ خبرُهُ,وهما في موضع نصبٍ خبراً لكان,واسمها مستترٌ فيها بمعنى الشأن))([32]). وسمّاه الخوارزمي(ت617هـ) شأناً وقصّةً في قوله تعالى: ﴿قل هو اللهُ أحدٌ﴾ [الإخلاص/1], إذ قال: ((معنى الآية: الشأن والقصّة اللهُ أحدٌ, وكذلك "ظننتُ الشأن والقصّة زيدٌ قائمٌ". فإن سألتَ لِمَ لا تكون الهاء هاهنا ضميرَ الظنِّ كما في قولك:" عبدُ الله أظنُّهُ منطلقٌ" أجبتُ: لأنَّ فعلَ القلب هاهنا مُقَدَّمٌ على المفعولين فلا يجوزُ إلغاؤُهُ, ولو جعلتَهُ ضميرَ الظّنِّ لكان الفعل ملغًى بخلاف ما إذا جعلتهُ ضميرَ الشأن, فإنَّهُ يكون أحد المفعولين هذا الضميرَ, والمفعولُ الثاني هو الجملة الابتدائيَّةُ, وكذلك" كان أنتَ خيرٌ منه", اسم كان مستكنٌ فيها وهو ضمير الشأن والقصّة,والجملة الابتدائيّةُ,وهي:"أنتَ خيرٌ منه" خبرُ كان))([33]). وصرّح ابن مالكٍ (ت672هـ) بتسمية هذا الضمير الذي يَسْتَعْظِمُهُ السامع بضمير الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين كما سمّاه غيرُهُ من النحويين, إذ قال: ((إذا قصد المتكلّم أن يستعظم السامعُ حديثه فقبل الأخذ فيه افتتحه بالضمير المسمَّى ضمير الشأن عند البصريين وضمير المجهول عند الكوفيين, وهو بمنزلة ضمير غائب تقدّم ذكره, فلذلك استتر مرفوعاً بـ"كان أو كاد أو أحد أخواتهما", ولا يجوز عند البصريين حذف بعض الجملة التي تفسّره,لأنّها مؤكدةٌ به, ومدلول به على فخامة مدلولها, واختصارها منافٍ لذلك فلا يجوز,كما لا يجوز ترخيم المندوب, ولا حذف حرف النداء قبله))([34]). ويبدو أنَّ ضميرَ الشأنِ والقصّةِ يرجع إلى المسؤول عنه بسؤال ٍ مقدَّرٍ,كقولك:"هو الملكُ مسافرٌ", أو"هي الملكةُ مسافرةٌ", إذ أحدثَ سفرُهُما ضجيجاً وجَلَبَةً, فيسأل سائلٌ ما الشأنُ والقصّةُ؟ فيجيب السامع:"هو الملكُ مسافرٌ",أي: "الشأن والقصّة الملكُ مسافرٌ". قال الرضي (ت688هـ): ((قولهُ: "ضمير غائب" إنما لزمَ كونُهُ غائباً دون الفصل, فإنَّه يكون غائباً وحاضراً, كما تقدّمَ, لأنَّ المرادَ بالفصل هو المبتدأ, فيتبعُهُ في الغيبة والحضور, والمراد بهذا الضميرِ الشّأنُ والقصّةُ, فيلزمه الإفرادُ, والغيبة, كالمعودِ إليه, إمّا مذكّراً, وهو الأغلبُ, أو مؤنَّثاً, كما يجيء, وهذا الضميرُ كأنَّه راجعٌ في الحقيقة إلى المسؤول عنه بسؤالٍ مقدَّرٍ, تقول مثلاً:" هو الأميرُ مقبلٌ", كأنّه سَمعَ ضوضاءَ وجلبةً, فاستبهمَ الأمر فيسأل: ما الشأنُ والقصّةُ؟ فقلتَ: "هو الأميرُ مقبلٌ", أي: الشأنُ هذا, فلمّا كان المعود إليه الذي تضمّنه السؤالُ غيرَ ظاهرٍ قبلُ اكتفى في التفسيرِ بخبرِ هذا الضمير الذي يتعقَّبُهُ, بلا فصلٍ, لأنه معيّنٌ للمسؤول عنه, ومبيّنٌ له, فبان لك بهذا أنَّ الجملةَ بعد الضمير لم يؤتَ بها لمجرّدِ التفسير, بل هي كسائر أخبار المبتدآت, لكن سُمِّيتْ تفسيراً, لما بيَّنَتْهُ, والقصد بهذا الإبهام, ثمَّ التفسير, تعظيمُ الأمر, وتفخيمُ الشأنِ, فعلى هذا لابدَّ أن يكونَ مضمونُ الجملةِ المفسِّرةِ شيئاً عظيماً يُعتنى به, فلا يقالُ مثلاً: " هو الذباب يطيرُ".
وقد يُخبرُ عن ضمير الأمر المستفهم عنه تقديراً بالمفرد, تقول:" هو الدهرُ حتى لا يبقى على صروفه باقية", قال أبو الطيِّب:
هو البَيْنُ حتى ما تأنَّى الحزائقُ([35]) ويا قلبُ حتى أنت ممَّنْ أُفارقُ
لتحميل البحث كاملاً اضغط الملف أدناه..