مميز
EN عربي
الكاتب: الأستاذ بشار بكور
التاريخ: 14/04/2012

هل حقاً أن "الدين أفيون الشعوب"؟

مقالات
هل حقاً أن "الدين أفيون الشعوب"؟
بشار بكور
هل كان كارل ماركس محقاً في هذه العبارة؟ هل حقاً أن الدين من شأنه أن يخدر ويدمر ويهدم ويفرق، كالأفيون؟ قبل الجواب، نسأل: هل الدين مهم في حياتنا؟ الجواب: نعم؛
لأن الدين من الحقائق الكبرى في حياة البشر أجمعين. فمنذ بدء الخليقة وحقيقة الدين أو الرغبة في التدين مركوزة في النفوس، ومتأصلة في العقول. وليست مجرد دواء نأخذه اليوم ثم نرميه غداً. ونحن قبل أن نخلق-عندما كنا في عالم الذّرّ- أُخِذ علينا العهدُ بالدين والإيمان، والاعتراف بالله عز وجل رباً وخالقاً {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172]. يقول الإمام ابن كثير: « يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم، وأنه لا إله إلا هو. كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه، قال تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30] »[1]. « إن الفطرة التي فطر الله الناسَ عليها من الاعتراف للربّ الخالق الواحد الأحد بربوبيته لهم، والإذعانِ له بهذا الحق، قد أشهد اللهُ به الناسَ على أنفسهم وهم في مرحلة عالم الذرّ، وهم خالُون من شهوات الحياة، ونزَعاتها ونزَغاتها، قبل أن يوصلهم بعمليات الخلق إلى مرحلة حياة الابتلاء، مزودين بالأهواء والشهوات، والنزعات والنزغات، والإرادة الحرّة، والقدرة على كسب الخير، واكتساب الشر»[2]. هذه الفطرة التي وهبنا الله إياها صافيةً، نقية، اختلطت كَرْهاً، وعن غير اختيار، بكثير من الشوائب والمكدِّرات من شرك، وكفر، وجحود، ونكران، وإلحاد، وغيرها من الظلمات التي بعضها فوق بعض. جاء في الصحيحين[3] عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ".
ولأن هذه الفطرة حتى بعد أن انحرفت أو حرِّفت عن مسارها الصحيح، وطريقها المستقيم، كانت وما زالت تدفع بأصحابها دفعاً إلى دينٍ ما تؤوب إليه، ولو كان أَرْضيّاً، وإلهٍ تسجد له وإن كان وهمياً. وقد كان مشركو العرب يصنعون الأصنام يعبدونها، ويتقربون إليها بشتى أنواع القرب. يذكر هشام بن محمد بن السائب الكلبي (204هـ) في كتابه "الأصنام" أن أحدهم إذا أراد السفرَ كان آخر ما يصنع في منزله أن يتمسّحَ به وإذا قدم من سفره كان آخر ما يصنع إذا دخل منزله أن يتمسّحَ به أيضاً[4]. أشبعت هذه العبادةُ المنحرفة ولعقود طويلة رغبةَ الفطرةِ التوّاقةَ فيهم. يقول المؤرخ الإغريقي بلوتارك: "قد وجدت في التاريخ مدنٌ بلا حصون، ومدن بلا قصور، ومدن بلا مدارس، ولكن لم توجد أبداً مدن بلا معابد"[5]. ويقول المؤرخ البريطاني آرنولد توينبي: "الدين إحدى الملكات الضرورية الطبيعية البشرية، وحسبنا القول بأن افتقار المرء للدين يدفعه إلى حالة من اليأس الروحي، تضطره إلى التماس العزاء الديني على موائد لا تملك منه شيئاً".
ولأن الدين، كما الماء والهواء، لا غنى عنه، ولا مفرّ منه، لم يستطع الإنسان أن يبتعد عن شاطئه طويلاً. فعندما وجد نفسَه قد تاه في الظلمات، وازدادت مشكلاته النفسية والاجتماعية، أيقن ألا ملجأ له إلا العودة إلى ثوابت الدين وأخلاقه. فقد أيقن كل من نواليس وكانط، وهما من أنصار العقلانية، أن القوى الدنيوية لا تستطيع أن تحافظ على توازنها ما لم يتماسك المجتمع بفعل الدين. ولذا تسعى اللجنة الأوروبية في مشروعها "إعطاء أوروبا روحاً" Giving a Soul to Europe لكي تسري بعض الروحانيات في هذه القارة من جديد[6]. وتوصل جانيال بيل منذ ربع قرن، في عمله "التناقضات الثقافية للرأسمالية" أن الرأسمالية القائمة على مبادئ وقيم كالفينية، تؤدي إلى التدمير الذاتي إذا تحولت إلى هوس في التقدم الاقتصادي والعلمي. ففي هذه الحالة ستتحول بعض الفضائل مثل الوفاء وعدم الإسراف والالتزام، إلى نقيضها. وستتحول المنظومة إلى نزعة استهلاكية، وتسيّب جنسي، ولا مبالاة، وتقليد أعمى. إن عالم ما بعد الصناعة يجيب عن كل شيء خلا الإجابات عن الأسئلة الكبرى في حياتنا ووجودنا: من أنا؟ إلى أين؟ لماذا[7]. إن المجتمعات عموماً، والغربية خصوصاً، عندما أعلنت قطيعتها مع الدين والله، أو على الأقل، عزلت الدينَ عن الحياة، رافعةً شعار العلمانية، عانت من الويلات والأمراض، التي هزّتها هزّاً قوياً. وأصبح التشرد والإيدز وإدمان المخدرات واللقطاء والتحلل الجنسي من سمات هذه المجتمعات. وما كتاب "موت الغرب" The Death of the West (2002) لباترك بوتشانن Patrick Buchanan إلا واحد من عشرات الكتب التي تحذر من الموت الحضاري والأخلاقي للغرب. فهو يشير إلى عدد من العوامل التي إن لم يتم احتواؤها وضبطها، فسوف تؤذن بانهيار الحضارة الغربية انهياراً فظيعاً؛ من هذه العوامل: انخفاض معدلات المواليد، وذوبان العائلة، واندثارها وحدةً اجتماعية، وعزوف النساء عن الحياة الطبيعية التقليدية مثل الزواج وإنجاب الأطفال ورعايتهم، وعزوف الشباب عن مؤسسة الزواج، وشيوع الجنس، واللواط، والحماية القانونية لهذه النزعات غير السوية[8]. ومن عجب أن أناساً في عالمنا العربي يسيرون على نهج هذه الحضارة ويترسّمون خطاها، حيث يسلكون طريقاً هي الآن منه عائدة. إنما الأمم الأخلاق ما بقيت. قال الفيلسوف فيخته: "إن الأخلاق من غير الدين عبث". والفيلسوف كانط لم يرَ ضماناً للأخلاق يوثق به غير الدين، وقد بنى الإيمانَ بالله على دليل الأخلاق، فأوشك ألا يعترف بوجود الله لولا ضرورة الحاجة إليه لصيانة الأخلاق، ورأى أن أجدرَ وصفٍ لمن ينكر وجودَ الله أن يقول: إنه كافرٌ بالأخلاق[9].
ولأنه فلا عجب -بعد الذي ذكرناه- أن يجد الإنسان في الدين سنداً يركن إليه، وحضناً يرتمي عليه، وحناناً يأوي إليه. فأنت في سائر أحوالك وشؤونك من فقر وغنى، وترح وفرح، ويأس وأمل، وكرب وفرج، وطمع وقناعة، وخوف ورجاء.. إلخ تجد الدين معك، مؤازراً ومواسياً، وناصحاً ومحذراً، ومبشراً ونذيراً. فالدين عامل عظيم الفاعلية، شديد التأثير في الأمن، والأمان، والصحة النفسية، والسعادة القلبية. يشير الدكتور محمد عودة محمد والدكتور كمال إبراهيم مرسي في كتابهما "الصحة النفسية في ضوء علم النفس والإسلام"[10] على مؤشرات الصحة النفسية:
1- الجانب الروحي: الإيمان بالله، أداء العبادات، القبول بقضاء الله وقدره، الإحساس الدائم بالقرب من الله، إشباع الحاجات بالحلال، المداومة على ذكر الله.
-2 الجانب النفسي: الصدق مع النفس، سلامة الصدر من الحقد والحسد والكره، قبول الذات، القدرة على تحمل الإحباط، القدرة على تحمل القلق، الابتعاد عما يؤذي النفس ( الكبرياء، الغرور، الإسراف، التقتير، الكسل، التشاؤم )، التمسك بالمبادئ المشروعة، الاتزان الانفعالي، سعة الصدر، التلقائية، الإقبال على الحياة، السيطرة وضبط النفس، البساطة، الطموح، الاعتماد على النفس.
-3 الجانب الاجتماعي: حب الوالدين، حب شريكة الحياة، حب الأولاد، مساعدة المحتاجين، الأمانة، الجرأة في قول الحق، الابتعاد عما يؤذي الناس (الكذب، الغش، السرقة، الزنا، القتل، شهادة الزور، أكل مال اليتيم، الفتن، الحقد، الحسد، الغيبة، النميمة، الخيانة، الظلم)، الصدق مع الآخرين، حب العمل، تحمل المسؤولية الاجتماعية.
4- الجانب البيولوجي: سلامة الجسم من الأمراض، سلامته من العيوب، سلامته من العيوب الخلقية، عدم تكليفه إلا في حدود طاقته[11].
تأمل جميع هذه الجوانب، هل كان من الممكن أن يهتدي إليها الإنسان وينعم بالعيش بها لولا أن الدين هو الذي أرشده إليها ودلّه عليها، وسلك له مسالك إليها. ولو شئت أن أستشهد على كل جزئية من جزئيات هذه الجوانب الأربعة، بآية من كتاب الله تعالى أو حديث من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كان في هذا كثير عناء، لكن فيه تطويلاً وإملالاً. يذكر الدكتور ألفونس ويليمز، باحث أمريكي في مقالة له باسم "الإيمان والشفاء" أن عدداً من المتخصصين، في معاهد كبرى أجروا أبحاثاً علمية حول أثر الإيمان في الشفاء. من هؤلاء، الطبيب النفسي، ديفيد لارسون، رئيس المعهد القومي لبحوث العناية بالصحة، ومؤلف الكتاب التعليمي "العنصر المنسي" الذي قام بتأليفه بالاشتراك مع زوجته سوزان. يناقش في كتابه هذا العلاقة بين الصحة والدين. وتقول الأرقام التي وردت في كتابه عن طريق استطلاع "جالوب" أن 95 بالمئة من الأميركيين يؤمنون بالله، وعلى الرغم من أن النصف يؤمنون بوجود النار فهناك 80 بالمائة يثقون بأن الله غفور رحيم ولا يعذب بها، وهناك 40 بالمائة يحضرون القداس الأسبوعي[12]. وفي استطلاع تم توزيعه على 269 طبيبا عام 1996 في أحد اجتماعات الأكاديمية الأمريكية لأطباء العائلات قال 99 بالمئة: إنهم يعتقدون أن المعتقدات الدينية يمكن أن تساهم في الشفاء. وحينما سئلوا عن تجاربهم الشخصية أجاب 66 بالمئة من الأطباء أن الله تدخّل وحسن أحوال مرضاهم، بل وبدا الحماس على المرضى بشدة وهم يبينون أن الصلاة أداة فعالة في الشفاء[13]. الدين هو سفينة النجاة التي على كل بشر أن يركبها لتسعده في الدنيا، وتنقذه في الآخرة، ومن الدين، يستقي الإنسان منهاجاً واضحاً، متكاملاً لجميع جوانب حياته، دينية كانت أم دنيوية، خاصة أم عامة.
بعد ما سبق ذكره نتساءل مرة ثانية: هل الدين "حقاً أفيون الشعوب"؟ نقول: إذا كان الدين المقصود بهذه العبارة الماركسية، كلمة عامة، تشمل جميع الأديان، فهي-دون ريب- محض باطل، أما إذا قصد بها الدين الذي يُقصِي العلمَ، ويغيِّب العقل، ويجمِّد الفهم، ويحجب الحرية- وهو ما حصل في الغرب في زمان خلا-، فهو فعلاً أفيون، بل أسوأ من الأفيون.
[1] "تفسير ابن كثير" 2/290. نشر دار الخير: دمشق 1990.
[2] "تفسير معارج التفكر ودقائق التدبر" 5/ 6 للعلامة الشيخ عبد الرحمن حسن حبنكة الميداني. نشر دار القلم: دمشق 2000.
[3] البخاري: كتاب الجنائز- باب إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِىُّ فَمَاتَ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ.. رقم: 1358. ومسلم: كتاب القدر- باب مَعْنَى كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ... رقم: 2658. و"جمعاء" مجتمعة الأعضاء سليمة من النقص، وليس فيها "جدعاء" أي مقطوعة الأذن أو غيرها من الأعضاء. والمعنى: أن البهيمة تلد البهيمة كاملة الأعضاء، لا نقص فيها. وإنما يحدث فيها الجدعُ والنقص بعد ولادتها. من شرح النووي على مسلم 16/ 209. نشر مكتبة الغزالي.
[4] ص 48. تحقيق محمد عبد القادر أحمد وأحمد عبيد. مكتبة النهضة المصرية. دون تاريخ.
[5] هذه المقولة وتاليتها موجودتان في العديد من المواقع الإلكترونية.
[6] "الإسلام في الألفية الثالثة ديانة في صعود"،مراد هوفمان ص 110. دار الشروق: القاهرة 2001
[7] المرجع السابق. بتصرف يسير.
[8] للدكتور عبد الله النفيسي قراءة مفصلة لهذا الكتاب، تجدها في موقعه.
[9] المرجع السابق 2/ 8.
[10] نشر دار القلم: الكويت، 1984.
[11] http://www.startimes.com/f.aspx?t=23069466
[12] المقالة في موقع
http://www.hiramagazine.com/archives_show.php?ID=7&ISSUE=1
[13] المرجع السابق.

تحميل