مميز
EN عربي
الكاتب: عبد الكريم المدني
التاريخ: 31/03/2012

النصرة .. حقيقتها وكيفية تطبيقها في هذه الأيام

مقالات

النصرة .. حقيقتها وكيفية تطبيقها

الحمد لله الذي جعل كمال موالاته ونصرته، في كمال إتباعنا لسيّد أهل النصرة لله حبيبه ومصطفاه، سيّدنا ومولانا محمّد صلّى الله عليه وآله وصحبه وسلّم، والذي جعل جزاء من سعى لتحقيق نصرته وموالاته، انتصاراً له في هذه الدار وفي دار الموافاه، فقال جلّ جلاله وتعالى في علاه:

[إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ{51} يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ{52}]

أجارنا الله من كلّ سوء، وجعلنا من المرحومين المؤمنين، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. برحمتك يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين. أما بعد:

أيها الأخ الحبيب في الله:

إنّ النصرة لمعنىً عظيم، ومقام كريم، تتعشقه النفوس المؤمنة بربّها، وتطلبه في جميع أوقاتها، ولقد رأينا في هذه الأوقات، زيادةً في الحبّ للنصرة وإرادة الإقبال إلى النصرة، ولكننا وللأسف رأينا مع هذا الحبّ وهذا التعلق بالنصرة، رأينا معها ابتعاداً كبيراً عن معاني هذه النصرة، وحقيقتها الصحيحة.

فالرغبة موجودة وصادقةٌ في كثير من الأحيان والحمد لله، لكنّ التحقق بالمعنى العظيم للنصرة، يكاد يكون مفقوداً إلا ما ندر، وإنما كان ذلك بسبب الغفلة والجهل اللذين خيما على كثير من الشباب اليوم، إنّه الجهل بمعرفة منهج النصرة ومعناها الحقيقي العظيم.

ولذا رأيت أن نتكلم هنا عن معنى النصرة، وإذا أردنا أن نتكلم على النصرة، فإن النصرة لها قسمان متلازمان لا ينفكان، يبنى أحدهما على الأخر.

أمّا القسم الأول فهو: نصرتنا لله تبارك وتعالى.

و أمّا القسم الثاني فهو: نصرة الله تبارك وتعالى لنا.

و إنّما تتوقف نصرة الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، على مدى التحقق منهم بمعنى نصرته تبارك وتعالى فهو القائل جل جلاله وتعالى في علاه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}محمد7

فلنتكلم إذاً عن معنى هذين القسمين بإذن الله تعالى.

· أولاً: معنى نصرة العبد لله ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم:

إنه ليغيب عن أذهان كثير من الناس معنى نصرة دين الله تعالى على وجهها الصحيح وحقيقتها الصائبة، فيتصور الكثيرُ أنّ نصرة دين الله تعالى والقيام بأمره والدعوة إليه إنما هو مجرد شيء مخصوص من أعمال ظاهرة عضوية تقوم بها اليد أو اللسان ونحوها من أعضاء، قد تكون متعلقة بشيء من العنف أو المقاومة الحسيّة أحياناً...!

ولكن الحقيقة أن نصرة الله تبارك وتعالى ليست مجرّد أشكال أو صور معينة ظاهرية كما ظنّ هؤلاء، فحقيقة هذه النصرة وجوهرها إنما هو: الاتصالُ بمعين النصرة صلّى الله عليه وآله وسلّم، والإتباع له في كلّ حركةٍ وسكون، والأخذ بالمنهج المتكامل للنصرة الذي كان عليه في حياته حتى نتحقق بمعنى النصرة لله ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم كما أراد الله ورسولُهُ صلّى الله عليه وآله وسلّم، فهو الذي كان أعظم الخلق نصرة لدين الله تبارك وتعالى وأفضلهم قياماً بواجب الدعوة إلى الله تعالى ومع هذا نرى في حياته مثالاً من نصرته، يعلمنا فيه أن النصرة ليست مجرد أعمال ظاهرية متمثلة بعنف أو مقاومة حسيّة مجردة.

فلقد بقي صلّى الله عليه وآله وسلّم يدعوا إلى الله تبارك وتعالى في مكّة ثلاثة عشر سنة، لم يكسِر في خلالها صنماً واحداً من الأصنام التي حول الكعبة المشرّفة وهو يدعوا إلى الله تعالى في أرقى معاني الدعوة وأرقى معاني نصرة دين الله جل جلاله وتعالى في علاه، ومع ذلك لم يكسر صنماً واحداً من تلك الأصنام إلا قبل وفاته بسنتين، فهل كان في السنوات الإحدى والعشرين التي قبلها مقصراً أو متراخياً عن النصرة ؟! حاشا وكلّا ...

فهو الأطهرُ، وهو الأكملُ، وهو الأخشى لله تبارك وتعالى ...

وإنما فعل ذلك ليبينَ لنا منهجاً ومسلكاً متكاملاً، يعملُ به صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليأخذ هذا المنهج المتكامل، من أراد اتباعه -صلّى الله عليه وآله وسلّم- في النصرة من بعده، فيُصحِّحَ باتباعه معنى بيع الروح والنفس والمال خضوعاً وذُلاً وقياماً بالأمر، على ضوابط العلم والأدب المأخوذ من سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم ليكون ناصراً لله وداعياً إليه على بيّنة مستقاةٍ من صاحب البيّنة، وليس على جهالةٍ وتخبّط ....

إذاً علمنا أن النصرة إنّما هي تحقيق المنهج النبوي المتكامل في نصرة دين الله وشريعته من خلال اتباعنا لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ومن خلال هذا نعلم مثلاً ما يلي:

أنه عندما نسمع ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، من أن حذيفة بن اليمان قال: كان الناس يسألون رسول الله صلّى الله عليه وآله سلّم عن الخير وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني فقلت: يا رسول الله إنا كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير فهل بعد هذا الخير من شر؟ قال: نعم وفيه دخن قلت: وما دخنه؟ قال: قوم يهدون بغير هديي يعرف منهم وينكر قلت: وهل بعد ذلك الخير شر؟ قال: نعم دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليه قذفوه فيها قلت: يا رسول الله صفهم لنا قال: هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا قلت: فما تأمرني إن أدركت ذلك؟ قال: تلزم جماعة المسلمين وإمامهم قلت: فإن لم يكن إمام ولا جماعة؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حتى يدركك الموت وأنت كذلك.

من خلال معرفتنا لمفهوم النصرة نعلم أنّ الذي يعمل بما في هذا الحديث الشريف في الوقت المذكور في الحديث إنما هو بعمله هذا، ناصرٌ لدين الله تعالى، فهل تعلم أخي الحبيب أنّ هذا العامل بالحديث في وقته، بلزومه جماعة المسلمين وإمامهم هو ناصرٌ لله في ذلك الوقت، وأنّه لو لم يكن لهم جماعة ولا إمام، فبعضّه على الشجرة واعتزاله تلك الفرق هو ناصرٌ للّه في ذلك الوقت وهو عامل بأمر الله وهو المنفذ لوصيّة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

نعم أيّها الأخ الحبيب، إنّ النصرة ليست مجرد أشكال معينة وصور، وليست حماسٌ دموي، بل هي منهج متكامل يؤخذ به من خلال كمال الإتباع والإقتداء.

ولقد صرّح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بما ينبغي على من أراد نصرة دين الله تعالى أن يتمثل به حتى في حالة الحرب مع الأعداء مثلاً.

فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم لبعض الصحابة الذين كانوا سيذهبون في سريّة للجهاد، قال لهم: ((والذي نفسي بيده ما من بيت شجر ولا مدر على ظهر الأرض إلّا وأن تأتوني بإسلامهم أحبّ إليّ من أن تقتلوا رجالهم وتسبوا نسائهم وتغنموا أموالهم)) ...!

أخي الحبيب ألا ترى إلى هذا المعنى العظيم الذي يبين فيه رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم المعنى الحقيقي لنصرة لدين الله، وأنّه ليس مجرد شكل وصورة، إنّما هو معنى قلبي عظيم، ومقصد دعوي كريم، يتسامى عن الأحقاد ويتسامى عن الضغائن والشحناء، ويتسامى عن المصالح، إنّها حقيقة النصرة للّه تبارك وتعالى لا نصرة النفوس، ولا نصرة الأهواء والمصالح ... !

يقول لهم: أحبّ إليّ من أن تقتلوا رجالهم وتجيئوا بالأموال والسبايا، أحبّ إلي من هذا أن تأتوني بإسلامهم!.

أنا لهذا أرسلت، أنا لهذا بعثت، أنا بهذا قمت، أنا صاحب اذهبوا فأنتم الطلقاء ...!

نعم هو بنفس الوقت صاحب الغيرة على حرمات الله تبارك وتعالى، وهو بنفس الوقت إذا ما ضيع حقّ الله لم يقم أحد لغضبه، لكن في تلك الموازين المتكاملة كلّها بعضها مع بعض، منهج ومسلك كاملٌ، فلا تؤخذ الشريعة من طرفٍ، ويلعب ببقية الأطراف المعظمّة ... !

لكن أيها الأخوة الكرام كيف يمكننا أن نصل لهذا التكامل في عصرنا هذا، إنّ هذا التكامل لا يتم تحقيقه، إلا بالتربية على يد المربين من العلماء العاملين، الورثة المخلصين، الذين فهموا معنى النصرة، وذاقوا حلاوة المنهج الصحيح.

ألا تروا إخواني أنّ المسلمين لمّا فقدوا هذه التربية العظيمة، صار من السهل واليسير في مثل واقعنا أن تأتي أيّ جهة في العالم لتأخذ باسم الدين أفراداً يظنون أن نصرة الدين في شيء من المعاني المغلوطة، فيحرفونهم ويصرفونهم لفعل القلاقل والمشاكل، أو لفتح الثغرات، إنّهم -وللأسف- يُستغلون من أي هيئة في العالم لأنّهم لم يُربوا على منهج النصرة التربية الصحيحة المتكاملة، فلذلك تجدهم بأقل جهد يُساقون ويُتصرف بهم هكذا، لضعف التربية، ولأخذ الدين على غير أسسه وعلى غير وجهته.

ما أسهل أن يُسخّر المسلم اليوم لسبّ المسلمين، ولتكفير المسلمين، ولقتال المسلمين، ولأذى المسلمين، وللتجسس على المسلمين كلّ هذا يكون باسم النصرة ..!! كيف هذا ؟!! هل هكذا دين الله تبارك وتعالى أيها الأخوة ؟!!

للأسف إنّ الذين انتسبوا إلى دين الله تبارك وتعالى، لم يعرفوا حقيقة الدين ولم يدخلوا على أعمالهم من باب الشيوخ الراسخين في العلم، فكيف يعرفون الشرع في عظمته، والمنهج في كماله، والدين في نورانيته وروحانيته

أم كيف يعرفون معنى النصرة برونقها البديع ... ؟!!

فإنّا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم ...

· ثانياً: الكلام عن معاني نصرة الله تعالى لعباده المؤمنين.

كثيرٌ من الناس يظنون أنّ نصرة الله تبارك وتعالى للمؤمنين تعني بالضرورة أن يذلل لهم كلّ شيء، وأن يسهل عليهم كل شيء، وأن يخمد أمامهم كلّ صوت مخالف ولا يترك كافراً يتحرك ولا يؤذي ... !

وإنّما يأتي هذا الظنّ نتيجة الغفلة والجهل لحقيقة معنى النصرة من الله تعالى.

إن هذه المعاني لم تكن هي معاني النصرة من عند الله تبارك وتعالى في عهد الأنبياء كلّهم على نبينا وعليهم الصلاة والسلام ألم تقرأ قول الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ }الأنعام112

والغريب أنّه يأتي الآن من يريد أن يكون فوق الأنبياء، فيريد أن لا يكون له عدواً وأن يسكت له الكفار، وأن يجعلهم تحت قدمه، ويعتقد أن هذا هو معنى النصرة.

فمن قال لهؤلاء أن هذا هو معنى النصرة من الله تبارك وتعالى .. ؟!

ألم ينصر الله تبارك وتعالى سيّدنا محمّداً صلّى الله عليه وآله وسلّم، ألم يقل له: {وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً}

نعم لقد نصر الله تبارك وتعالى رسولَه نصراً عزيزاً، ومع هذا فقد توفي الحبيب الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما زال في المدينة منافقون وما زال المحاربون لدعوته موجودون في العالم، والأذى الكثير يصل من هنا وهناك ... إذاً ما الذي نعلمه من هذا أيّها الأخوة الكرام ؟ ...

نعلم من هذا أن معنى النصرة من الحقّ تبارك وتعالى لعباده، ليس كما يظنّ هؤلاء أن لا يكون إيذاء أو أن ينتهي الكفّار، وإنّما نصرة الله تعالى لعباده هي:

تمكين وتأييد لبواطنهم في الثبات على الحقّ والهدى، والثبات على منهج النور والرشاد، يصحب هذا التمكيين تسخيرات متنوعة في العالم الظاهري على وفق حكمةٍ من حكم الله تعالى.

ثم غاية النصرة، أن كلّ من خرج من الدنيا، ثابتاً على الصدق مع الله تبارك وتعالى، فقد نصره الله تعالى، لكن من خرج وفي باطنه غشٌ أو خيانة لمولاه فقد خذله الله تبارك وتعالى حتى ولو سخرت له الأرض بأكملها فملكها ثم كان في صدره غشٌ فقد خذله الله تعالى وسيجد خزي ما في باطنه يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ... فلنعلم إذاً إخواني ما هو معنى نصرة الله تبارك وتعالى لنا فمن تنقى قلبه وصدق مع مولاه فهو المنصور.

نعم سيكون هناك مظهر من مظاهر النصرة أنّه لا يبقى بيت شجر ولا مدر ولا حجر إلا دخله هذا الدين، دين سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم لكن هذا له وقته وليست النصرة من الله تعالى لنبيّه مقصورة على هذا المعنى فرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان وهو في مكّة منصوراً، وبلال الحبشي رضي الله عنه كان في مكّة منصوراً من الله تبارك وتعالى، وهو مشوه الجلد يظهر ودقُهُ من حرارة بطحاء مكة التي كان يعذبُ عليها.

لقد كان منصوراً نصراً عظيماً حينها، أما تسمع صوت النصرة يرن إلى اليوم، استمع معي إليه، وهو على تلك البطحاء يقول: أَحدٌ أحد – أَحدٌ أحد.

لقد كان منصوراً بثباته على منهج الحقّ والهدى، فلم تستطع قوى البغي والطغيان والكفر أن تزعزع ذرّةً من إيمان بلال، ولا من محبّة بلال، ولا من عشق بلال للمنهج، ولا من صلته برسول الله صلّى الله عليه وسلّم

وتوالى الأمر وجاء يوم بدر، وأتى معه نصرٌ جديد بمعنىً آخر، ومكن الله تعالى بلالاً من قتل أميّةَ بن خلف الذي كان يؤذيه ويعذبّه في مكّة.

وتوالت الأيام وتوالت معها معاني النصرة، ودخل بلال مكّة يوم الفتح، وصعد على الكعبة المشرفة وصدح بأعلى صوته مكبراً...

الله أكبر ... الله أكبر، الله أكبر ... الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله ... أشد أنّ محمّداً رسول الله .

نعم هذا الذي كنتم تعذبوني عليه، أقوله اليوم من على سطح الكعبة المشرّفة.

نعم إنّه الثبات على المنهج والطريق الذي أثمر هذه الإنتصارات المتتالية من الله تبارك وتعالى، فلنعلم إذاً أن بلال رضي الله عنه لم ينصره الله تعالى هذه الإنتصارات إلاً لمّا أحسن النصرة لله ولرسوله على منهج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، خطوة بخطوة، يتبع القدم بالقدم، كما أسلفنا سابقاً، ويقدم أمر الله تعالى وأمر رسوله على هواه ورغبته...

ومن مظاهر النصرة العظيمة من الله تبارك وتعالى -التي ظهرت للحبيب الأعظم صلّى الله عليه وسلّم ولأصحابه الكرام وكان فيها دروساً عظيمةً- صلح الحديبية ذاك الصلح الذي كان في مظهره الخارجي، وأعماله الظاهرة إنّما هو صورة لهزيمة، ولكنه كان في حقيقته الباطنة نصراً وفتحاً مبيناً كما سماه الله تبارك وتعالى، حتى أنّ بعض الصحابة رضي الله عنهم أصابتهم الدهشة، عندما نظروا إلى هذا الصلح من زاوية الأسباب الظاهرة، المجرّدة عن الارتباط بنور الوحي وتوجيهات النبّوة، فرأوا في ظاهره هزيمة مُنكرة، إذ كيف نُصدُّ ونمنع عن البيت ونحن أهل الحرم والأولى به؟! كيف يقبل الكفّار من يأتي إليهم مرتداً، ولا يجوز لنا أن نقبل من يأتينا منهم مسلماً؟!

لكن عندما نظروا إلى الأمر على حقيقته، علموا أنه منهج النبوّة التي ليس في منهجها إلا الكمَال، وعلموا أنه مسلكٌ للتربية عظيم يدّلنا فيه الله تبارك وتعالى على تصحيح معنى النصرة، وكيفية العمل بها، أنِ اعلموا أنّ النصرة لا تكون بمجرد نظر عقولكم وتنفيذ اجتهاداتكم، وإنّما حقيقة هذه النصرة، كمال التزامكم بما يأتيكم عن الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم ولو خالف أسبابكم الظاهرة واجتهاداتكم القاصرة.

لنسمع إلى سيّدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يسأل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حينها قائلاً: يا رسول الله ألسنا على الحقّ، قال: بلى...!

فقال سيّدنا عمر: أليسوا على باطل، قال سيّدنا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : بلى! فقال عمر: فلما نعطي الدنيّة في ديننا ؟!

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: ((إنّي رسول الله، ولن أعصيه، ولن يخذلني))!!

تأمل أخي إلى هذا الجواب الذي يوضح لنا معاني التحقق بكيفية النصرة.

ثم سأل سيّدنا الفاروق –رضي الله عنه- سيّدنا أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- نفس السؤال، فأجابه بقوله: يا عمر إنّه رسول الله فالزم غرسه، وإنّ الله لن يخذله، وإن الله ناصرٌ نبيّه ...!.

فتأمل إلى هذا الجواب الذي يوضح لكَ عظمة الإتصال بين الصدّيق رضي الله عنه وبين صاحب النصرة صلّى الله عليه وآله وسلّم، ثم سمع أبو عبيدة رضي الله عنه كلامه فقال: يا عمر رسولُ الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- يقول ما يقول، وأنت تقول هذا، استغفر الله تعالى واتهم رأيك، قال فاستغفرت الله تعالى حياءً، وما زلت أستغفر الله تعالى وأتصدق وأعتق الرقاب رجاءَ أن يغفر الله لي ما فعلته في ذلك اليوم ...!

فانظر إلى اهتمامه رضي الله عنه بذالك وشدّة ندمه وخشيته من مجرد مناقشته تلك، مع أنّه سرعان ما تركها والتزم الأمر، لكنّهم صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أولئك الذين لا يوجد من عرف معنى التعظيم والنصرة مثلهم ...!

وعندما نزل قول الله تبارك وتعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} علم الصحابة جميعهم أنّه نصرٌ وفتحٌ مبين، وليس هزيمة كما ظنّ البعض أولاً، ولقد كان باستجابتهم لأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بحلقهم وعودتهم للمدينة المنورة وقبولهم الصلح، كان باستجابتهم تلك، نصراً كبيراً وفتحاً مبيناً.

فكان درساً عظيماً لمن أراد أن ينصر الله تعالى ورسوله، بأن النصرة لله ولرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليست مجرد مظاهر معيّنة ظاهرية، إنّما هي منهجاً متكاملاً أساسه الإتباع لصاحب النصرة صلّى الله عليه وآله وسلّم في كلّ حالٍ وفي كلّ ظرف والإقتداء به!.

وكان الصلح درساً عظيماً أيضاً لمن أرد أن ينصره الله تعالى، بأن النصرّة من الله تعالى لعباده المؤمنين ليس معناها أن يعطيهم كلّ ما يريدون وما يشتهون، بل نصرة الله تعالى لعباده المؤمنين تمكينٌ باطني بأن يثبتهم على المنهج القويم في الإتباع لرسوله الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم في كلّ ظرف مهما عظم، حتى فيما لم يناسب في نظرهم الأسباب الظاهرة التي يتعاملون بها...! فإنّك لترى هذا النصر الذي نصرهم به تبارك وتعالى، قد حصلوا عليه بطاعتهم لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم واتباعهم له في هذا الصلح وترك رغباتهم، فجعله الله تبارك وتعالى لهم فتحاً مبيناً، ونصراً عزيزاً، بعد أن كان البعض منهم يراه في ظاهره هزيمةٌ مُنكرة...!

نسأل الله تعالى أن يرزقنا صدق النصرة له ولرسوله صلّى الله عليه وسلّم في كمال الإتباع لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، والإخلاص فيها لوجهه الكريم حتى ينصرنا نصراً عزيزاً، ويفتح علينا فتحاً مبيناً إنّه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين، وصلّى الله وسلّم وبارك على سيّد الأولين والآخرين سيّدنا محمّد الصادق الوعد الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.

مقتبس من محاضرة للحبيب عمر بن حفيظ حفظه الله تعالى

تحميل