إشارات وبشارات في كتاب الله عز وجل
ها قد قضى الآلاف من إخواننا نحبهم أمام سمع العالم وبصره، دون أن يحرك أرباب الحضارة الغربية ساكناً، بل كانوا شريكاً مساهماً، قد كشروا عن أنيابهم، واستعلنوا بحقدهم، فهم الذين يمدون اليهود بالذخيرة والعتاد. والتاريخ يعيد نفسه، فإن الغربيين الذين يُخدع السذج بإنسانيتهم الزائفة عادة، هم ذاتهم أحفاد الصليبيين الذين غزو بلادنا وعاثوا فيها قبل سبعة قرون خراباً وفساداً، ونحن أحفاد الذين ردوهم على أعقابهم خاسرين، والتاريخ لا يورث أمجاداً بل يفيد عبراً.
ثم ماذا عن المتخاذلين، الذين لم يرعوا للرحم الإنساني ولا لأخوة الدين حرمة؟
أحسنهم حالاً (منددٌ ومستنكرٌ)، عبارات جوفاء لا ترفع عن إخواننا بلاء، ولا تنكأ بالأعداء، حتى ذاك الذي من عادته أن ن يدغدغ عواطف البسطاء ليكتسب أصواتهم بالانتخابات، قد اقتصر على الجعجعات الفارغة، يرى الفظائع يمارسها حلفاؤه على إخوانه، فلا يهتز منه الكيان، وليته أغلق لهم قنصلية أو سفارة، أو أوقف معهم تجارة - والتي تقدر بالمليارات.
ألا وإن أحط مظاهر النفاق، المتاجرة بالدين.
أين هم اليوم الحكّام الذين أغلقوا السفارات، وأوقفوا التجارات، ثم فتحوا الحدود وأرسلوا المرتزقة من شتى البلدان ليجاهدوا إخوانهم المسلمين في الشام؟! كل هذا حصل بالأمس القريب.
أين هم أبواق الفتن وشيوخها الذين أججوا أوار الفتنة، وأشعلوا فتيلها بحجة الانتصار للمظلوم، ثم دفعوا بالأغرار زرافات ووحدانا للجهـاد في سورية؟ قد ماتت غيرتهم على إخوانهم المظلومين في فلسـطين، لم يعد صوتهم يهدر فوق المنابر وعلى الشاشات؟
بئست هي الفضيحة فضيحة علماء السوء، ازدروا أنفسهم يوم باعوها للسياسة، وسرعان ما سقطوا بالخساسة، فهم لا يقودون الشارع بل يُقادون، وإن لم يُؤذن لهم لا يتكلمون.
فلك الله يا شام على ما نالك من غدر وعدوان، ولك الله يا غـزة على ما تلاقينه من خذلان.
آلامنا ممزوجة بآمال، تجاه إخوة سطروا ملاحم البطولة، وجعلوا للرجولة عنوان، لا بكثرة عدد ولا بقوة عدة ولا عتاد، ولا بما صُب إليهم من إمداد – فإن هذا معدوم كله كما هو معلوم، بل بمدد استمدوه من قوة إيمانهم بالله عز وجل. ولعلهم هم المعنيون بقول المصطفى عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد والطبراني: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك)، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: (ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس).
فليكف اللائم عنهم الملام، وليريحهم من لغو الكلام، ولنرفع الرأس بهم عالياً، وكل ما سوى ذلك مما تلوكه الألسن من مقترحات وآراء مشرّقة ومغرّبة لغو باطل، لا يغير من قضاء الله وحكمه المبرم شروى نقير، فما من بيت هدّم إلا بقضاء الله، وما من نفس قضت إلا بأجلها.
واعلم أن كتاب الله عز وجل مليء بإشارات عظيمة وبشارات فخيمة تضفي على القلب السكينة والطمأنينة. من ذلك قوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِين). وأبرزها:
الإشارة الأولى: (وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ).
فالمؤمن يبتلى ويصيبه القرح لكنه لا يذل ولا يهون. وكيف يذل ويهون وهو مؤمن. هذا غير متصور شرعاً ولا عقلاً. ومصدر هذه العزة، شعور يعتلج في طوايا النفس عند استشعار نسب الولاية مع الله عز وجل القائل: (الله ولي الذين آمنوا). هذا الشعور ترجمه سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه بجوابه لأبي سفيان في أحد. إذ قال سيدنا عمر: (الله مولانا، ولا مولى لكم).
في وقت أُثخنت فيه جراحات المسلمين، وكسرت رباعية المصطفى عليه الصلاة والسلام، وشج رأسه الشريف، وقتل سبعون من أصحابه - ومنهم عمه حمزة رضي الله عنه - ما زالوا مخضبين بدمائهم على سفح أحد لم يدفنوا بعد، ومع ذلك لم تخب مشاعر العزة والرفعة ممن بقي حياً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل كانت مشاعر (وأنتم الأعلون) تأخذ بمجامع نفوسهم.
الإشارة الثانية: (وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا).
ذلك لأن الإيمان ليس بالتمني ولا بالتحلي، وإنما يبدأ الإيمان بإقرار اللسان ثم تهيمن حقائقه على الجنان، فإما أن يصدقه العمل وإما أن يكذبه، ففي مثل هذه المحن يمحص الله المؤمنين، فيتميز الخبيث عن الطيب، ويمتاز الأصيل عن العميل، وما الخذلان الذي واجهه إخواننا في غـ..زة إلا صورة من صور هذا التمحيص.
وكتاب الله عز وجل يعجّ بدلائل هذه الحقيقة. تأملوا قوله تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْب (وقوله تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا) أي ليستبين علم الله الخفي السابق حقيقة ساطعة واضحة للعيان.
أرأيتم لو أن الأمة كانت تعيش في ظل من الأمن والأمان ورغد العيش والاطمئنان. أفكنت ستميز المؤمنَ الصادق عن السياسي المخادع؟ الكل عند الرخاء سواء. لكن الهِزَّة هي التي تميز بين هذا وذاك. ألا ترون كيف ميَّزَتْ هذه المحنة وفرقت بين الشجاع والجبان، وبين العزيز والمهان.
ثم إن كلام المصطفى صلى الله عليه وسلم جاء تبياناً لهذه الحقيقة عندما قال: (لا تكرهوا الفتن فإن فيها حصادَ المنافقين). لا تكرهوا الفتن، أي بعد وقوعها، أما عندما يكون المسلم في أمن وأمان وتكون الفتنُ بعيدةً عنه ينبغي أن يستعيذ بالله منها، لكن إذا وقعت الفتنة فلنعلم أن لله عز وجل في ذلك حكمة، فهي في ظاهرها ابتلاء وفتنة، وفي حقيقتها منحة ونعمة.
والشعوب الإسلامية أيضاً على محك هذا التمحيص، منهم من واجه دعوات مقاطعة كل بضاعة ترد من الغرب باللامبالاة فسقط في الامتحان، ومنهم من دفعه صدق إيمانه إلى مقاطعة كل بضاعة، فإن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ). والمبادلات نوع من المودة. ويقول: )لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ). فالمسلم تعاف نفسه كل سلعة تفد إليه من قتلة إخوانه، فالمقاطعة أول درجات سلم الجهـاد، جـهادٌ لا يستطيع أحدٌ أن يمنعك عنه، فإن الحياة ممكنة من دون هذه البضائع النتنة.
الإشارة الثالثة: (وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ).
الموت حق، لكن شتان بين معتدي يموت في أجله إلى حتفه جيفة منتنة مآله إلى النار والبوار، وبين مجاهد يمضي في أجله إلى حتفه شهيداً، فلا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه، وإنما يدفن بثيابه، وهيئته في المحشر خيرُ شاهد على مآله، اللون لون الدم والريح ريح المسك.
شتان بين من يموت مجاهداً مغبرّة قدماه وبين من يموت على سريره. وهذا ما عناه سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه، يوم تأسف لحاله أن يموت على فراشه ولم يمت على يد أعدائه. فقال: (لقد حضرتُ كذا وكذا معركة، وما في جسمي موطن شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو طعنة برمح، أو رمية بسهم، وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء).
ذلك لأن الموت في سبيل الله كرامة لا ينالها إلا من اختصه الله عز وجل من بين خليقته، وقد ترجم هذه الحقيقة الكثيرون من أسلافنا، ومنهم سيدنا البراء بن مالك رضي الله عنه، الذي لم يتخلف عن مشهد ولا غزوة طلباً للشهادة، وعندما دخل عيه إخوانه يعودونه من جرح أصابه، قرأ في وجوههم الأسف عليه أن يموت على فراشه، فقال لهم: (لعلكم ترهبون أن أموت على فراشي.. لا والله، لن يحرمني ربي الشهادة). ولقد صدّق الله ظنه، فكانت الكرامة أن قتل يوم تُسْتُر بعد رحلة طويلة من الجـهاد أمضاها سعياً إلى الموت في سبيل الله، ذلك لأن الحرص على الشهادة هو الحياة الحقيقية الأبدية.
فليس لأحدنا أن يتحسر على موت إخوانه في ساح الوغى، وهم الذين بشرنا الله عز وجل بهم فقال: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ، فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُون). ولو لم يكن من التنويه بعلو شأن الشهادة والشهداء إلا هذا البيان الرباني لكفى.
فلنتحسر على أنفسنا لا عليهم، وظننا بالله أن يتقبل من قضى نحبه منهم في ركب الشهادة المشرفة، التي لا ينالها إلا أهل الكرامة والخصوصية، فليست هي فتنة تشرئب أعناق شيوخ الفتنة فيها، ولا هي ميتة مخزية يقتتل فيها المسلمون بعضهم مع بعض، بل هي جـهاد حقيقي يذود إخواننا فيه عن دمائهم وأموالهم وأعراضهم، لا تسمع فيه لشيوخ الفتنة صوتاً يحثون فيه على نصرة إخوانهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من قتل دون دمه فهو شهيد، من قتل دون ماله فهو شهيد، من قتل دون عرضه فهو شهيد).
وما أحلاها من شهادة يستعذب المجاهد ألمها. ولولا ذلك لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِه لَودِدْتُ أنِّي أغزو في سبيلِ اللهِ فأُقتَلُ ثمَّ أحيا فأُقتَلُ). ومن استعذب الألم في سبيل الله تعاف نفسه الدنيا، ولن يعد يلوي على شيء من متعها، ذلك لأن الدنيا عرض زائل، وكلنا عما قريب راحل.