مميز
EN عربي
الكاتب: الشيخ خاشع حقي
التاريخ: 24/07/2010

أقرأ آية فأنام

مقالات

أقرأُ آية فأنام


الشيخ خاشع حقي


أستفتح هذا المقال بهذه الجُمْلة التي قالَها أحد الصَّالحين وأُعنْوِنه بها: "أقرأ آية فأنام".


ففي مدينتنا (القامشلي)، وبِجوارنا رجل صالح - ولا نزكِّي على الله أحداً - والصَّالحون في أُمَّة مُحمَّد صلى الله عليه وسلَّم - والحمد لِلَّه - كثيرون في كلِّ عَصْرٍ ومِصْر، مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تَزالُ طائفة ٌمن أُمَتي ظاهرين حتَّى يأتيَهُم أمر الله وهم ظاهرون)(1).


فلقدِ اشْتَكى هذا الرَّجُل يوماً من مرضٍ بسيط، فعَرَضَ نَفْسَه على أحَدِ أطبَّاء المدينة، فسأله الطبيب مستفْسِراً بعد أن عاينه: هل تنام؟ فقال - وأكتب ما قاله بالحرف الواحد - (وي! شلون ما أنام، أقرأ أية فأنام).


سَمِعْت هذا واستغرقت في دوَّامة فكريَّة نقلَتْنِي من مكاني إلى بِلاد الله الواسعة، وساحَتْ بي إلى شرق الأرض وغَرْبِها، إلى تلك البلاد التي لا يَعْرِف شبابها فضلاً عن شيوخها للنَّوم طعماً، ولا يجدون إلى الكرى سبيلاً، يبحثون عن قليله ناهيك عن كثيره، فلا يجدون قليلاً ولا كثيراً، يُيمِّمُون وُجُوهَهُم نَحْوَ كل مكان، ينشدون هذه الضَّالة الغالية المفقودة من حياتهم، فلا يعثرون عليها!


تذكرت وأنا أسمع هذا الكلام منَ الرجل ما عليه الغربيون على الرَّغم من رفاهيتهم، وما قرأناه جميعاً عنهم مما تعلنه وسائل الإعلام المختلفة، وما يعانيه القوم - ولا سيما شبابهم - عُمُد الأمَّة وركائِزُها، فيهرعون إلى العيادات النفسية وإلى الأطباء النفسانيين بعد أن سَئِمُوا وملوا من تناوُلِ الحبوب المُهَدئة، أمثال: (فاليوم، وفوسكان)، فلا ينتفعون، فيلجؤون إلى الأشد والأقوى مفعولاً؛ بل فتكاً، مثل: (المورفين) الإبر التي تحطم الجسم وتهد كيانه، فلا يرجعون بطائل، ولا تُجْديهم شيئاً.


وهذه المشكلة – أعنِي الأرَقَ والقَلَقَ والتوتُّر العصبي - تتفاقم يوماً بعد يوم؛ بل ساعةً بعد أُخْرَى، وضحاياها كثيرون، والمَرْضَى المصابون نِسْبَتُهم في ارْتِفاع، فما الحل؟ وما البديل؟ بعد أن عجزت كلُّ تقنيات الغرب، وأدْمِغة المُفَكرين لديهم عن إيجاد حل لها، وهي تُهدّد كِيانَهم وتنذرهم بالمحق والعناء؟!


وهنا أوجه هذا النِّداء إلى شبابِنا المُولَعين بكل جديد، المفتونين بالغرب وتقنياته، المعجبين باختراعاته و(موضاته)؛ حتى بَهَرتْ أبصارَهم، وخَلَبَتْ عُقولَهم، وأسكرت الكثيرين منهم للإعجاب الشديد والرَّغبة المُلِحة في السير على مِنْوالِهم، ومُحاكاتِهم في عاداتهم وتقاليدهم.


أوجه إليهم هذا النداء؛ لأقول لهم ما قاله أحد المفكِّرين المُعاصرين، والكُتَّاب الألمعيين، وهو يُبَين ما جرت هذه المُنجزات العلميَّة من خراب في كثير من الأحيان، حتى ليتمنى الإنسان الأوروبي لو لم تتقدم هذه العلوم هذا التقدم الشديد، يقول هذا المفكر(2):


تلك المنجزات الصناعيَّة التي ظهر للإنسان الغربي بعد استخدامها أضرار لم تكن تخطر له على بال؛ إذ إنَّ التقنية البالغة في التقدم التي كلفت الإنسان في البلاد الصناعية حياة استهلاكية مترفة قد ظهرت لها (أعراض جانبية)، بعضها شديد الفتك، كتلوث البيئة، والغلاف الجوي والأنهار والمحيطات والمحاصيل الزراعية، وازدياد الضجيج، والتوتر العصبي، وارتفاع نسبة الإشعاعات، وانعدام الجمال من البيئة... إلى آخِر هذه الأعراض، كلّ ذلك وهو يَسْعَى لِلحياة الفُضْلى لِعَقْلِه المجرد، دون هدايَةِ السَّماء، فانقلبتْ عليْهِ فيما بعد؛ حتى أصبَحَتْ من أعقد المشكلات، وتمثل مكان الصدارة في كثير من الدول المتقَدِّمة.


فيا شبابَنَا، ويا شباب الإسلام: إيَّاكم وسبيلَهم، وحذار من الإعجاب بتقاليدهم، فشبابهم ضائع، وترَفُهُم المادّي لا يُغْنِي عن شقائِهم النَّفسي، وتقنياتهم واختراعاتهم لا تنتشلهم من التَّمزق الدَّاخلي.


وتتجلَّى هذه المآسي لكل زائر حصيف لِبِلادِهِم، متفحص أحوالهم النَّفسية والأسرية والاجتماعية، ذي نظرة نافذة إلى نفوسهم وقلوبِهم، فلا يكاد يفتتح مع أحدهم الحديث ويستنطقه؛ حتى يسمع ما يمزق القلب أسى وحسرة، ويفتت الكبد حزناً وكمداً؛ مما يعانيه أصحاب تلك المنجزات من التعاسة والكآبة، ويكفي دليلاً على هذا الشقاء أن تجد أمامك لوحات معلَّقة في مؤخرة سيارات عابرة، وقد كتب عليها العبارة التالية: "لا تتبعني فأنا ضائع".


فهل تريدون أن تضيعوا كما ضاعوا، وتَمْرَضُوا كما مرِضُوا، وتشْقَوا كما شقُوا؟ وتفقدوا النوم كما فقدوا لتبحثوا عن الحبوب المنومة، والإبر المخدرة؛ كي تحصلوا على قليل من النوم، وقسط من الراحة، ولا أخالكم تجدونها فضلاً عن الأموال التي تهدر في هذا السبيل؟!


الحل لدينا، والبديل عندنا ميسور - والحمد لله - والنوم العميق الهنيء، والسعادة النفسية في هذه العبارة الموجزة التي قالها هذا الرجل الصالح: (أقرأ آية فأنام)، وهي تنِم - بلا شك - عن إيمان عميق، ويقين راسخ بأنَّ الأمور كلها بيد الله، فهو المتصرف، وهو الفعال لكل دقيقةٍ وجليلة في هذا الكون، فيستمدّ المؤمن منه القوة والعَوْن على مُجابَهة مصاعبِ الحياة ِوتعقيداتِها ومُشكلاتِها وأزماتِها، ويرحم الله مَن قال:                    إذا لم يَكُنْ عوْن مِنَ الله لِلفَتَى         فأول ما يَجنِي عليْه اجتهادِه


 فالحياة الكريمة والعيش الهنيء في ظِل عبادة الله، وطُمأنينة القلب وانشِراح الصدر في قراءة ذلك، وسَماع كلام الله عز وجل: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(3).


ذلك الاطْمِئنان الذي يُحاول الإنسان الغربي أن يَجِده في ظلّ التقنيات الحديثة، والرفاهية المادية، والحرية الجنسية، فإذا به بعد أنْ قَطَعَ أشْواطاً في هذه المَجالات، يَرْجِعُ القَهْقَرى لِيَتَلمس الراحة في العيادات النفسية ولدى الأطباء النفسانيّين، فإذا لم يَجِدْها هنا وهُناك تلمسها بالانْتِحار البطيءِ عَنْ طريقِ تناوُل المُسْكِرات والمخدرات، أوِ السريع بِرَصاصةٍ قاتلة أو سقوط من علٍ، أو تناوُل سُم قاتل بعد أن يئِسَ منَ الحياةِ، ولا يدري أنه بذلك يَنتَقِلُ من شقاءٍ مُؤَقَّت إلى شقاءٍ أَبَدي، (وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ)(4).


أخي المسلم: القُرآن يُناديكَ أن هَلُم إلى دَوْحَةِ الأمانِ فِي ظِلها بردٌ وسلام، ودَعْكَ من دعايات المفتونين، وأقوال الكاذبين والمُغْرِضين، الذين يُزَيِّنُون لك الملذَّات المُحرمة العاجلة باسم الحرية المطلقة، لينطلق الإنسان في هذه الدنيا كالوحش الكاسر، والثور الهائم، دون وازع من دين أو رقابة من ضمير، فيحطّم كيانه، ولا يعود عنها إلا بالمزيد من السعار المتواصل خلف تلك الشهوات، التي لا نِهايةَ لَها؛ بل كلَّما نال منها استزادَتْه وقالت: هل من مزيد...! وهو مزيد من الشقاء، مزيد من البلاء، مزيد من الأمراض المستعصية والعلل الفتاكة.


وأنت - يا أخي المسلم- بِما حباك الله عزَّ وجلَّ من هذا الدّين، ومن رصيد ضخم من الإيمان، وكنز لا ينفد من القيم والأخلاق الحسنة التي لا غنى عنها لأيَّة أمَّة قويَّة رائدة.


فما عليك إلا أن تقبل على هذا الرصيد فتنميه، (فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً)(5).


وتنهل من ذلك النبع الثر من كلام الله عز وجل؛ لتنعش فؤادك، وتريح نفسك، وتسعد حياتك (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)(6).


فإذا وجدتَ بُغْيَتك في هذا القرآن، وأرحْتَ نفسك بذلك الإيمان - ولا شكَّ أنَّك واجدُهُما - فادْعُ غيرك إليه، وابذل كلَّ ما في وُسْعِك وما وَهَبَكَ الله عزَّ وجلَّ من طاقات في الدعوة إلى هذه السبيل، (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّه ِعَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي)(7).


ثُمَّ قُلْ لأولئك التَّائهين ومن تَراهُمْ من الغافلين: يا مَنْ تُعانون الداء، ولم تَجِدُوا الدواء، ويا مَن ْتَبحَثُونَ عن العلاج وتُريدون الشفاء، أذكركم بكتاب الله عز وجل، وأدعوكم إليه، ففيه الدواء وفيه الشفاء، (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ)(8).


فإذا أسدل الظلام سدوله، وأويْتَ إلى مضجعك بعد قضاء يوم مشحون بالأعمال، حافل بالمزعجات، وهاجَتِ الهُمُومُ في رَأْسِك وماجَتْ، فتذكَّرْ قَوْلَ الرجلِ الصالِح: "أقرأ آيةً فأنام"، واقرأ أنت أيضاً آية؛ بل آياتٍ لتنام، على أن تصعَد بإيمانك، وترفع من يقينك إلى مستوى إيمان الرجل ويقينِه أو الدنو منه، وكُنْ حاضِرَ القلب صافيَ الذهن من كل شائبة، فإنا الله تعالى لا يقبل الدعاء من قلب غافلٍ لاهٍ.


ثُمَّ تعال معي – أخي القارئ الكريم - نقرأ سويّاً هذا الكلام الجميل لتلميذ من تلاميذ المدرسة النبويَّة، وهو سيدنا عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، ونُمْعن فيه الفِكْرَ والنظَر، فقدْ سُئِلَ رضي الله عنه: أي مَخلوقات الله أعْظَم؟ فقال: (مَخلوقات الله العُظْمَى عشرة: الجبال ويقطعها الحديد، والحديد تذيبه النار، والنار يطفئها الماء، والماء يحمله السحاب، والسحاب تسوقه الرياح، والرياح يتغلب عليها الإنسان، والإنسان يغلبه السكر، والسكر يغلبه النوم، والنوم يغلبه الهم، والهم يغلبه الإيمان).


فما أعظم الإيمان، وما أجله!!


أسأل الله عز وجل أن يتولانا جميعاً بهدايته، ولأمر ما أمر الله تعالى المسلم أن يردد هذه الآية في صلواته الخمس سبع عشرة مرة، وهي (اهدنا الصراط المستقيم) أي: ثبتنا عليه، لما لهذه الآية من دلالة على خير الدنيا وفلاح الآخرة، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد المذكور للمؤمنين والهادي للتائهين والغافلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.


 


 (1) البخاري عن المغيرة بن شعبة ومسلم أيضًا، فيض القدير: ج 6.


(2) هو الدكتور أحمد زكي في كتاب ”العربي الصغير"، وموضوع (الحرية) بتصرف في بعض عباراته.


(3) الرعد: 28.


(4) القارعة: 9 - 10.


(5) التوبة: 124. (6) الكهف: 104.


(7) يوسف: 108.


(8) الإسراء: 82.

تحميل