اجتهاد النبي ﷺ في الشؤون الطبية
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدّمة: الحمد لله ربّ العالمين، وأفضل الصلاة وأتمّ التسليم على خير خلقه سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فالحديث عن أقوال رسول الله في شؤون الدّنيا – بما فيها الطب – ليس جديدًا، فقد تكلّم الناس في ذلك قديمًا وحديثًا.
وقد حملني على الكتابة في هذا الموضوع؛ ما نقرؤه في بعض الكتابات، ونسمعه بين الحين والآخر من خلال شاشات الفضائيات؛ من التّهوين من شأن هذه الأحاديث؛ حتى من بعض من ينتسبون إلى العلم.
وقد كتب في هذا الموضوع الدكتور محمد سليمان الأشقر رحمه الله بحثًا بعنوان ( مدى الاحتجاج بالأحاديث النبوية الواردة في الشؤون الطبيّة والعلاجية) بالغ فيه في التهوين من شأن أحاديثه الواردة في مسائل الطب، حتى إنّه صرّح بأنّ ما ثبت مطابقته للواقع من هذه الأحاديث، من خلال التجربة وبشهادة أهل الاختصاص؛ فإنّ التّعويل إنّما يكون على كلام أهل الاختصاص، وليس على أقوال رسول الله !!، بل لقد قال إنّ الطبيب إذا وصف للمريض علاجًا ممّا ورد في الأحاديث النبوية، و تضرّر به المريض؛ فإنّ الطبيب لا يكون معذورًا، ومن ثمّ فهو ضامن!!! .
ولعلّ د. الأشقر رحمه الله أبرز من حاول تأصيل هذه المسألة، وكتب فيها كتابة علمية منهجيّة.. ولكنّه اقتصر على عرض وجهة نظره هو، ومن وافقه من العلماء.
وقد كتب أناس ردودًا على بحث د الأشقر هذا، ولكنّ ردودهم كانت في معظمها تنصب على مناقشته في استدلاله بحديث: )أنتم أعلم بأمر دنياكم[، أو الاستدلال بما جاء به العلم الحديث، والتجارب والتحاليل المخبرية؛ من مطابقة أحاديثه للواقع .
ولقد رغبت في كتابة هذا البحث ليكون بحثًا مؤصَّلاً؛ ينطوي على بيان – أرجو أن يكون شافيًا - لرأي الجمهرة العظمى من علماء الأمّة، من مفسّرين ومحدّثين وفقهاء وغيرهم عبر القرون المتطاولة.. ولأناقش فيه رأي الدكتور الأشقر، ومن تَأيَّد بكلامهم، وأنقده وَفق قواعد المنهج العلمي وأصول الاستنباط؛ لنتبيّن قيمة رأيهم، وما هو الحقُّ في هذه المسألة.
منج البحث: وقد اتّبعت في كتابة البحث المنهج التحليلي الاستنتاجي النقدي، والتزمت فيه بقواعد المنهج العلمي.
خطّة البحث: وجاء هذا البحث في مقدِّمة، فيها تحرير محل البحث، فتمهيد، ثمّ ثلاثة مطالب، وخاتمة فيها أبرز نتائج البحث.. والله تعالى المسؤول أن يرزقنا القصد في القول والعمل، وأن يكرمنا بمنّه وجوده بالإخلاص لوجهه الكريم، وبالخاتمة الحسنى؛ إنّه أرحم مَن سئل وأكرم من أعطى.
تحرير محل البحث: سندرس في هذا البحث أقواله التي قالها باجتهاد محضٍ منه، وكذلك الأحاديث التي لم يَلُح فيها ما يدلّ على أنّها وحيٌ من عند الله تعالى .. وعلى هذا فلا يدخل في نطاق بحثنا ما اتّضح فيه أنّه تشريع ووحي، وهو أنواع:
الأحاديث الواردة في حكم أصل العمل بالطب والمعالجات وتناول الأدوية، فهذا النوع لا شكّ أنّه شرع يتبع، والأحاديث التي من هذا القبيل كثيرة، منها قوله : )تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فإن اللَّهَ سُبْحَانَهُ لم يَضَعْ دَاءً إلا وَضَعَ معه شِفَاءً إلا الْهَرَمَ[ .
أحاديث فيها توجيهات شرعية متعلقة بعملية التداوي وشؤون المرضى، من ذلك حديث البخاري عن الصحابية رُبيِّع بنت معوذ، قالت: كنا نغزو مع رسول الله حتى نسقي القوم ونخدمهم، ونرد القتلى والجرحى إلى المدينة، ففيه جواز مداواة المرأة للجرحى من الرجال" .
أحاديث أبطلت أنواعًا من المعالجات كانت سائدة في الجاهلية، تنافي صحة الاعتقاد الإيماني. ومنها قوله: )إن الرقى والتمائم والتولة شرك[.
4- أحاديث أمرت بأدوية ومعالجات ربطتها بأحكام تعبدية وشعائر دينية، من ذلك حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعًا: )السواك مطهرة للفم مرضاة للرب[ ، و قوله r: )لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة[ .
أحاديث موافقة لما ورد في القرآن الكريم، كالأحاديث التي فيها التداوي بالعسل، وأنّه شفاء.
6- أحاديث فيها ذكر أدوية أو معالجات يخبر النبي أنه علمها بطريق الوحي، أو إخبار الملائكة، أو أن الله يحبها، أو يكرهها، ونحو ذلك. .
أمّا الأحاديث التي ليس ثمّة ما يدلّ على كونها وحيًا – وهي ما سنقتصر على دراسته في بحثنا هذا - فهي كثيرةٌ، منها:
حديث سعد بن أبي وقاص مرفوعًا: )من تصبّح كل يوم بسبع تمرات عجوة؛ لم يضرّه في ذلك اليوم سم ولا سحر[ .
وقوله r حديث أبي هريرة مرفوعًا عند أحمد والترمذي: عن أبي هُرَيْرَةَ قال قال رسول اللَّهِ )الْعَجْوَةُ من الْجَنَّةِ، وَفِيهَا شِفَاءٌ من السُّمِّ، وَالْكَمْأَةُ من الْمَنِّ وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ[ .
3- وحديث السيّدة عَائِشَةَ رضي الله عنها أنها سَمِعَتْ النبي يقول: )إِنَّ هذه الْحَبَّةَ السَّوْدَاءَ شِفَاءٌ من كل دَاءٍ؛ إلا من السَّامِ. قلت: وما السَّامُ؟ قال: الْمَوْتُ[ .
4- ومنها حديث أبي هُرَيْرَةَ قال النبي )إذا وَقَعَ الذُّبَابُ في شَرَابِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ ثُمَّ لِيَنْزِعْهُ؛ فإن في إِحْدَى جَنَاحَيْهِ دَاءً وَالْأُخْرَى شِفَاءً[. وفي رواية عند أحمد وأبي داود: )وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِجَنَاحِهِ الذي فيه الدَّاءُ، فَلْيَغْمِسْهُ كُلَّهُ[ .
5- حديث الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال النبي )لَا عَدْوَى... - وفيه أيضًا قوله - لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ على مُصِحٍّ[ . المُمْرِض هي الإبل المريضة، والمُصِحُّ هي الإبل الصحيحة.
6- ومنها حديث البخاري عن أُسَامَةَ بن زَيْدٍ رضي الله عنهما عن النبي قال: )إذا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فلا تَدْخُلُوهَا، وإذا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بها فلا تَخْرُجُوا منها[ .
وإنّنا نهدف في بحثنا هذا إلى الإجابة عن التساؤلات الآتية:
هل الأحاديث الواردة في مجال الطب كلّها مطابقة للواقع، أم أنّها قد لا تتطابق مع الواقع.. و هل احتمال الخطأ يرد عليها كلِّها؛ أم أنّ منها ما لا يحتمل الخطأ؟.
2. وإذا كانت الأحاديث تنقسم إلى ما يحتمل أن يكون فيه خطأ، وإلى ما لا يتطرَّق إليه احتمال الخطأ؛ فما ضابط التفريق بينهما، وكيف السبيل إلى معرفة كون هذا الحديث أو ذاك يندرج تحت هذا القسم أو ذاك؟.
3. وإذا كان منها ما قد يكون خطأً؛ فهل يأتي الوحي ليستدرك الخطأ، ويصوّب له r اجتهاده، أم أنّ الخطأ يترك ولا يصوَّب؟.
4. وهل يقف الأخذ بأحاديثه r عند حدود المباح، أم أنّه يتجاوز ذلك إلى النّدب، وربّما الوجوب؟.
5. ثمّ هل يشترط للأخذ بالأحاديث أن تكون قطعيّة الثبوت، أم يكفي أن يكون ثبوتها ظنيًّا؟.
هذه هي جملة التّساؤلات التي نحاول الإجابة عليها في هذا البحث