صلة الأرحام في رمضان توطيد للأواصر ودعم للأخوة
صلة الأرحام في شهر رمضان تعتبر من الضروريات التي ينبغي على المسلمين القيام بها، تأكيداً لقول الرسول الكريم r بالاستمرار في صلة الاقارب نظراً لكونها خطوة حقيقية في إزالة الخلافات وتوطيد الأواصر ودعم الاخوة بين المسلمين. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (النساء: 1)
ينكسر قلب الصائم وتذل نفسه وتزداد رحمته وشفقته، وأحق الناس برحمته الصائم وبره وصلته هم أقاربه وأرحامه، ورمضان يذكر المسلم بأن له أقارب وأصهاراً وأرحاماً فيزورهم ويصلهم ويبرهم ويتودد إليهم وصلة الرحم عند المسلم الحق الواعي هدي دينه لا تكون ببذل المال فحسب بل هي أعم من ذلك وأوسع، إنها تكون ببذل المال الفقراء من ذوي القربى وتكون بالزيارة التي توطد أواصر القرابة، وتوثق وشائج المحبة، وتمد في التواد والتراحم، وتكون بالتناصح والعون والإيثار والإنصاف، وتكون بالكلمة الطيبة، والوجه الطلق، واللقاء الحسن، والابتسامة الودود، وتكون في غير ذلك من أعمال الخير التي تفجر ينابيع الحب في القلوب، وتبسط رواق الألفة والتراحم والتكافل على ذوي الرحم والقرابة، ولهذا جاء التوجيه النبوي العالي حاضّاً على هذه الصلة في أبسط أشكالها وأقلها كلفة ومؤونة بقوله: "بلوا أرحامكم ولو بالسلام " رواه البزار عن ابن عباس، وطرقه يقوي بعضها بعضاً.
إن أدنى الصلة أن تصل أرحامك ولو بالسلام فهل تكلف أحدنا واستخدم جهاز الهاتف ليتصل بأحد أرحامه على الأقل ويسلم عليه؟ إن صلة الرحم من محاسن الأخلاق التي حث عليها الإسلام ودعا إليها وحذر من قطيعتها، فقد دعا الله عز وجل عباده بصلة أرحامهم في تسع عشرة آية من كتابه الكريم وأنذر من قطع رحمه باللعن والعذاب في ثلاث آيات، ولهذا دأب الصالحون من سلف الأمة على صلة أرحامهم رغم صعوبة وسائل الاتصال في عصرهم وأما في وقتنا المعاصر فرغم توافر مختلف وسائل النقل والاتصال كالهاتف والسيارة والبريد التي ينعم بها كثير من الناس ولله الحمد، إلا أنه لا يزال هناك تقصير في صلة الرحم، إن الواحد منا قد يشد الرحال إلى بلد بعيد للسياحة، ولكنه يتثاقل زيارة لأحد أرحامه وهو في نفس مدينته إن لم أقل في نفس منطقته إن السبب الرئيس في انشغالنا عن صلة أرحامنا سوء إدارة أوقاتنا وعدم تنظيمها، أو لعدم إحاطتنا بعظم إثم قاطع الرحم.
صلة الرحم ... تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم لقد أمر الله بصلة الأرحام، والبر والإحسان إليهم، ونهى وحذر عن قطيعتهم والإساءة إليهم، وعدَّ صلى الله عليه وسلم قطيعة الأرحام مانعاً من دخول الجنة مع أول الداخلين، ومُصْلٍ للمسيئين لأرحامهم بنار الجحيم.
وعلى الرغم من وصية الله ورسوله بالأقارب، وعدِّ الإسلام صلة الرحم من الحقوق العشرة التي أمر الله بها أن توصل إلا أن جلّ المسلمين أضاعوا هذا الحق مثل إضاعتهم لغيره من الحقوق، أو أشد، مما جعل الحقد، والبغضاء، والشحناء، تحل محل الألفة، والمحبة، والرحمة، بين أقرب الأقربين وبين الأخوة في الدين على حد سواء.
وفي شهر الخير والرحمة يعكف الناس على صلة أرحامهم المقطوعة لأي من الأسباب فتجدهم عن الهفوات والزلات عافين يسود الود والإخاء قلوبهم ليجزيهم الله أجر صيامهم، وتأكيداً لقول الرسول الكريم بالاستمرار في صلة الأقارب نظراً لكونها خطوة حقيقية في إزالة الخلافات وتوطيد الأواصر ودعم الأخوة بين المسلمين.
* تعريف صلة الرحم:
الصلة: الوصل، وهو ضد القطع، ويكون الوصل بالمعاملة نحو السلام، وطلاقة الوجه، والبشاشة، والزيارة، وبالمال، ونحوها.
الرحم: اسم شامل لكافة الأقارب من غير تفريق بين المحارم وغيرهم، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى قصر الرحم على المحارم، بل ومنهم من قصرها على الوارثين منهم، وهذا هو مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد رحمهما الله، والراجح الأول.
*حكم صلة الرحم وقطعها: صلة الرحم واجبة وقطيعتها محرمة، ومن الكبائر.
قال القرطبي المالكي رحمه الله: (اتفقت الملة على أن صلة الرحم واجبة وأن قطيعتها محرمة).
وقال ابن عابدين الحنفي: (صلة الرحم واجبة ولو كانت بسلام، وتحية، وهدية، ومعاونة، ومجالسة، ومكالمة، وتلطف، وإحسان، وإن كان غائباً يصلهم بالمكتوب إليهم، فإن قدر على السير كان أفضل).
إن بعض الناس لا يصل أقاربه إلا إذا وصلوه وهذا في الحقيقة مكافأ وليس بواصل، إذ أن المروءة والفطرة السليمة تقتضي مكافأة من أحسن إليك قريبا كان أم بعيدا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الواصل بالمكافئ ولكن الواصل إذا قطعت رحمه وصلها " متفق عليه.
* فضل وثواب واصل الرحم في الدنيا والآخرة:
لقد وعد الله ورسوله واصل الرحم بالفضل العظيم، والأجر الكبير، والثواب الجزيل، من ذلك:
أولاً: في الدنيا:
فهو موصول بالله تعالى في الدنيا والآخرة. عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: قال رسول اللَّه r: "الرحم معلقة بالعرش تقول: من وصلني وصله اللَّه، ومن قطعني قطعه الله" متفق عَلَيْهِ.
إن صلة الرحم تزيد في العمر وتبارك فيه وتزكيه ويكثر به الأجر وتضاعف به المثوبة، وتبسط له في رزقه، فعن أنس بن مالك t أن رسول الله r قال: "من أحب أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه".
تعمر داره، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله r: "إن الله ليعمر بالقوم الديار ويثمر لهم الأموال وما نظر إليهم منذ خلقهم بغضا لهم، قيل: وكيف ذاك يا رسول الله؟ قال" بصلتهم أرحامهم". رواه الطبراني بإسناد حسن والحاكم
صلة الرحم تدفع عن صاحبها ميتة السوء، عن علي بن أبي طالب t عن النبي r قال: "من سره أن يمد له في عمره ويوسع له في رزقه ويدفع عنه ميتة السوء فليتق الله وليصل رحمه". رواه البزار بإسناد جيد والحاكم.
يحبه الله، جاء رجل الى النبي r فقال: أي الأعمال أحب الى الله؟ قال: الإيمان بالله، قال: ثم ماذا؟ قال: صلة الرحم، قال: أي الأعمال أبغض إلى الله؟ قال: الإشراك بالله ثم قطيعة الرحم".
يحبه أهله، وعن أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله r يقول: "تعلموا من أنسابكم، ما تصلون به أرحامكم، فإن صلة الرحم محبة في الأهل، مثراة في المال، ونسأة في الأثر". رواه الطبراني
ثانياً: في الآخرة:
صلة الرحم سبب من أسباب دخول الجنة مع أول الداخلين، عن أبي أيوب الأنصاري t أن رجلاً قال: يا رسول الله، أخبرني بعمل يدخلني الجنة؛ فقال النبي r: "تعبد الله لا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصل الرحم". وقال الرسول r: "يأيها الناس أفشوا السلام أطعموا الطعام وصلوا الأرحام وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".
يحاسب الحساب اليسير: عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r: "ثلاث من كن فيه حاسبه الله حساباً يسيراً وأدخله الجنة برحمته، قالوا: وما هي يا رسول الله بأبي أنت وأمي، قال: تعطي من حرمك وتصل من قطعك وتعفو عمن ظلمك فإذا فعلت ذلك يدخلك الله الجنة" . رواه البزار والطبراني والحاكم وقال صحيح الإسناد.
* عقوبة ووزر قاطع الرحم في الدنيا والآخرة : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ *أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } (محمد: 22-23)
أولاً: في الدنيا:
1- لا يرفع له عمل ولا يقبله الله، قال علي بن الحسين لولده: يا بني لا تصحبن قاطع رحم فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع .
2- لا تنزل الرحمة على قوم فيهم قاطع. روي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: كنا جلوساً عند النبي r فقال: "لا يجالسنا اليوم قاطع رحم، فقام فتى من الحلقة فأتى خالة له قد كان بينهما بعض الشيء فاستغفر لها واستغفرت له ثم عاد إلى المجلس فقال النبي r: إن الرحمة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم". رواه الأصبهاني
ورواه الطبراني مختصراً أن النبي r قال: "إن الملائكة لا تنزل على قوم فيهم قاطع رحم".
3- تعجيل العقوبة للعاق في الدنيا قبل الآخرة، روي عن ابن عمر رضي الله عنهما رفعه قال: "الطابع معلق بقائمة العرش فإذا اشتكت الرحم وعمل بالمعاصي واجترئ على الله بعث الله الطابع فيطبع على قلبه فلا يعقل بعد ذلك شيئاً" . رواه البزار واللفظ له والبيهقي
4- أبواب السماء مغلقة دون قاطع الرحم، عن أبي هريرة t قال سمعت رسول الله r يقول: "إن أعمال بني آدم تعرض كل خميس ليلة الجمعة فلا يقبل عمل قاطع رحم". رواه أحمد ورواته ثقات.
وعن الأعمش قال كان ابن مسعود t جالساً بعد الصبح في حلقة فقال: أنشد الله قاطع رحم لما قام عنا فإنا نريد أن ندعو ربنا وإن أبواب السماء مرتجة دون قاطع رحم. رواه الطبراني
ثانياً: في الآخرة:
1- لا يدخل الجنة مع أول الداخلين، عن جبير بن مطعم t أنه سمع النبي r يقول: "لا يدخل الجنة قاطع" متفق عليه. قال سفيان يعني قاطع رحم.
2- لا تفتح له أبواب الجنة أولاً.
3- يدخر له من العذاب يوم القيامة مع تعجيل العقوبة في الدنيا إن لم يتب أو يتغمده الله برحمته.
4- يُسف المَلّ، وهو الرماد الحار، عن أبي هريرة t أن رجلاً قال: يا رَسُول اللَّهِ إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي. فقال: "لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من اللَّه ظهير عليهم ما دمت على ذلك" رواه مُسْلِمٌ.
وأخيراً اعلم أيها الأخ الكريم أن العبرة بسلامة الصدر، وتقارب القلوب، ونقاء الطوية والسريرة، ولله در ابن عباس حين قال: "قد تقطع الرحم، وقد تكفر النعمة، ولا شيء كتقارب القلوب"؛ وفي رواية عنه: "تكفر النعمة، والرحم تقطع، والله يؤلف بين القلوب لم يُزحزحها شيء أبداً"؛ ثم تلا: "لو أنفقتَ ما في الأرض جميعاً ما ألفتَ بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم".
أفكار لصلة الرحم:
1. الاستعانة بالله: وذلك بسؤال التوفيق والإعانة على صلة الأقارب.
2. احتساب أجر إدخال السرور على مسلم. قال r: ((من لقي أخاه المسلم بما يحب ليسره بذلك ستره الله عز وجل يرم القيامة)) ( رواه الطبراني بإسناد حسن ).
3. زيارة ما استطعنا من الأقارب، والاطمئنان بالهاتف على من لم نستطع زيارته منهم.
4. دعوة الأقارب إلى الإفطار في بيتك لنيل أجرين ... أجر صلة الرحم وأجر إفطار الصائم.
5. التذكير بأهمية صلة الرحم، وفضلها، في جميع اللقاءات، مع ضرب الأمثلة وسياق القصص من السلف وأهل الصلاح في حرصهم واهتمامهم بأرحامهم.
6. توقير كبار العائلة، واحترامهم، وفتح المجال لهم للحديث والمشاركة للاستفادة من قصصهم وتجاربهم وخبراتهم في الحياة.
7. مقابلة إساءة الأقارب بالإحسان: فهذا مما يبقي على الود ويهون على الإنسان ما يلقاه من إساءة أقاربه. عن حذيفة t قال: قال رسول الله r: "لا تكونوا إمعة ( هو الذي لا رأي معه ) تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا أن لا تظلموا" . رواه الترمذي حديث حسن.
8. المبادرة بالهدية. فالهدية تجلب المودة، وتكذب سوء الظن، وتستل سخائم القلوب.
9. بث روح التعارف فيما بينهم وإشعارهم بأهميته في تحقيق التواصل والتكافؤ بين الأرحام، والسؤال والتقصي عن أحوالهم العامة دون الدخول في خصوصياتهم أو ما يحرجهم.
10. إنشاء صندوق القرابة الذي تجمع فيه تبرعات الأقارب واشتراكاتهم، ويشرف عليه بعض الأفراد، فإذا ما احتاج أحد من الأسرة مالاً لزواج أو نازلة أو غير ذلك بادروا إلى دراسة حاله وساعدوه ورفدوه، فهذا مما يولد المحبة وينمي المودة. عن ميمونة رضي الله عنها أنها أعتقت وليدة لها ولم تستأذن النبي r فلما كان يومها الذي يدور عليها فيه قالت: أشعرت يا رسول الله أني أعتقت وليدتي؟ قال: "أو فعلت؟ قالت: نعم، قال: أما أنك لو أعطيتها أخوالك كان أعظم لأجرك". رواه البخاري ومسلم، وعن ابن عمر t قال: أتى النبي r رجل فقال: إني أذنبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة ؟ فقال: "هل لك من أم ؟ قال لا، قال فهل لك من خالة ؟ قال نعم، قال فبرها" رواه ابن حبان والحاكم.
11. التغاضي والتغافل: فهو من أخلاق الأكابر وهو مما يعين على استبقاء المودة وعلى وأد العداوة.
لعل الصيام أعظم مدرسة للبر والصلة، فهو معين الأخلاق ورافد الرحمة وحبل المودة، من صام رقت روحه وحقت نفسه وجاشت مشاعره ولانت عريكته، لعلنا أن نعود في هذا الشهر إلى أقاربنا فنتحفهم بالزيارة والبذل والأنس والدعاء والصلة، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ولا ننسى زيارة الأرحام يوم العيد.
جعلنا الله وإياكم من الواصلين لأرحامهم المنفذين لشرع ربهم، المتبعين لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، إنه جواد كريم.