موقف الدكتور البوطي ممّا يجري في سورية في ميزان العقل
(منقول): موقف الدكتور البوطي ممّا يجري في سورية في ميزان العقل
د. محمد العجمي
منتدى الأزهريين
http://www.azahera.net/showthread.php?p=42213#post42213
ومنتدى الأصلين
http://www.aslein.net/showthread.php?t=14272
مقدّمة: الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على أشرف الأنبياء والمرسلين، سيّدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد:
فإني أعالج هذه المسألة في محورين اثنين:
أوّلهما تشويه موقف الدكتور البوطي، بين الإعلام المغرض وسطحية الفهم.
وثانيهما دافعه الحقيقي لما يقوله عمّا يجري في سورية.
المحور الأول: تشويه موقف الدكتور البوطي بين فتنة الإعلام وسطحية الفهم:
يتعرَّض الأستاذ البوطي في هذه الفترة لانتقادات كثيرة، من قبل كثير من الناس، وقد سمعت منها الكثير، فوجدت أنّ كثيراً ممّن ينتقدون موقفه من أحداث سورية، بل يتّهمونه بسبب موقفه هذا، إنّما حملهم إلى ذلك عدم وضوح موقفه الحقيقي بالنسبة إليهم، لسببين اثنين؛ أوّلهما الإعلام، وثانيهما سطحية الفهم .. وسأعالج هذين العاملين أوّلاً، ثمّ أعقبهما بتقويم موقف الدكتور في ميزان العقل.
أوّلاً: فتنة الإعلام: إن من الفتن العظيمة التي ابتلينا بها في هذا الزّمان فتنةَ الإعلام، والإعلام ليس بحدّ ذاته فتنة، بل هو نعمة عظيمة، ولكنه تحوّل في أيدي كثير من الناس إلى عامل إثارة وتشويه متعمَّدٍ، وقلب للحقائق وهدم لها؛ حتى صدق فيه قول المتنبّي:
كلّما أنبت الزَّمان قناةً غرس المرء في القناة سِناناً
وفتنة الإعلام تأتي من ناحيتين:
أمّا الأولى: فهي أنّها كادت ألاّ تبقي مكاناً للحكمة المشهورة القائلة: "لكلّ مقامٍ مقال" فصار ما كان مضنوناً به على غير أهله متاحاً للناس كلّهم، فكان هذا باباً لفتنة عريضة، مردُّها سوء فهم كثير من الناس لما يقال، وبخاصّة في المواضيع الحسّاسة والقضايا السّاخنة التي تتطلّب دِقّة بالغة من المتكلِّم فيها، بحيث يعجز العامّة من الناس عن فهم ما يقول وهضمه، فيفهمونه على غير وجهه.
وأمّا الثانية: فهي عدم تجرّد مصادر الإعلام - غالباً - عن الأغراض: من المعلوم البيّن عند من له أدنى حظّ من الوعي فضلاً عن المثقّف المستبصر؛ أنه لا يكاد يوجد مصدر إعلامي تجرّد قصدُ القائمين عليه لتقديم الحقيقة للناس، ووضعِ صورة الواقع بين أيديهم كما هي، ولا أظنّ أنني أحتاج إلى الإسهاب والإطناب في بيان هذه القضية الواضحة، ولكنّني سأجتزئ عن الأمثلة الكثيرة جدّاً بمثال واحد، أضربه بقناة الجزيرة الفضائية التي تُعَدَّ أقوى قناة عربية .. هذه القناة التي وقفت نفسها على نقل أخبار الثورات العربية، ومن قبل ذلك دأبت على فضح الأنظمة العربية، وتأليب الشعوب عليها، وإثارة القضايا النائمة وتسخينها إلى درجة الانفجار وليس الغليان فحسب .. لقد كنت أشاهد بعض برامجها، التي تبحث في قضايا الرّأي والحرية والكرامة الإنسانية، وكنت أعجب من موقفها من الوضع في سورية، وكان هذا التعجّب قاسماً مشتركاً بين الجمهرة العظمى من الناس .. ففي الوقت الذي كانت بعض الفضائيات تعقد النّدَوات، وتخصًّص الحلقات الكثيرة والساعات الطويلة للحديث عن الممارسات القمعية للأمن السوري والقبضة الفولاذية التي يحكم بها النظام السوري – على حدّ قول هذه الفضائيات - كانت الجزيرة لا تعرّج على سورية، بل تتحاشى الاقتراب منها بنقد أو اعتراض، ولا أظن أنك كنت تسمع منها حتى الإشارة الخجولة .. ويبدو أنّها كانت توصي ضيوفها أيضاً بعدم ذكر سورية إلاّ بإشارات عابرة .. وقد كنت أتساءل كما يتساءل كثيرون مثلي: ترى هل الجزيرة مسحورة، أم قرأ عليها النظام السوري الاسم الأعظم فألجمها عن الكلام عليه، فسكتتْ وتَعامَتْ عن كلّ ما يدّعي الآخرون على هذا النظام وينسبونه إليه؛ سواء أكان صدقاً أو كذباً؟ .. ثمّ لا أدري ما الذي حصل فجأة، وكيف استيقظت الجزيرة من سُباتها العميق الذي كانت تغطّ فيه منذ فجر ولادتها، فصارت بعد بداية الحَراك في سورية بأسبوعين تقريباً تغطّي أحداثه، وتعلِّق عليه بتقريرات قوية جدّاً، تسلق بها النظام السّوري بألسنة حِدادٍ، يقذف بالحُمم التي تشوي الصخر فتتركه رَماداً .. هذان الموقفان المتناقضان للجزيرة لم أعرف إلى الآن تفسيراً صحيحاً لهما؛ ولكنّني أعلم يقيناً أن موقفها من قبل ومن بعد لم يكن نزيهاً و لا بريئاً، لقد كان موقفها أولاً من عدم التطرّق للنظام السوري يفقدها كثيراً من مصداقيّتها عند كثير من الناس – على الأقل فيما يتعلّق بسورية – ثمّ هي الآن قد تحوّلت هذا التحوُّل العجيب المناقض لموقفها السابق، أليس هذا الموقف منها مريباً؟.
هذا نموذج ملطّفٌ، ضربته لأذكّر القارئ وأحذّره من الوقوع في شباك أساليب المكر والخداع الذي تمارسه وسائل الإعلام.
ومن الأساليب الماكرة والدَّنيئة التي تتّبعها بعض وسائل الإعلام؛ ما تعمد إليه من تشويه موقف الدّكتور البوطي من خلال اتّباع طريقة غير بريئة في المونتاج، في نقلها لكلامه وعرضها له؛ إذ تقصُّ منه ما تشاء، بحيث تكفل سوء الفهم لكلامه .. ولا أستطيع – مهما حاولت أن أتغابى – أن أحسِّن الظنّ بالإعلام السوري الذي هو المصدر الإعلامي الأول الذي يبث كلامه؛ فأقنع نفسي أن ما يقوم به من بتر لكلام الدكتور البوطي أمر عفوي وغير مقصود .. ولعلَّ أبرز مثال على ذلك ما أرويه لك الآن من خلال تجربتي الشخصيّة.
حتّى المثقّفون والأكّاديميّون لم ينجو من ألاعيب الإعلام: كنت في مجلس ضمّ مجموعة من المثقّفين، كان معظمهم من أساتذة الجامعات، رأيتهم ينسبون - باستهجان شديد - كلاماً غريباً إلى الدكتور البوطي، مفاده أنه قال عن الذين يخرجون في التظاهرات السِّلْمية، أنّهم كلَّهم حثالة، وقالوا إنّه يقف في صفّ النظام، وضدّ إرادة الشعب في الحرية والكرامة والتغيير .. ولقد استغربت هذا الذي ينسبونه إليه غاية الاستغراب، فسألت بهدوء: هل هذا الذي تنسبونه إليه، قرأتموه في صفحات بعض المواقع على الشبكة العنكبوتية ( النت) أو هو ما ينقله عنه بعض الناس، ولا يخلو الناقلون من سوء فهم أحياناً، ومن تَعَمّد في تشويه النّقل من أجل الإساءة أحياناً أخرى؟ فقالوا: لو كان الأمر كما ذكرتَ لأنكرنا نسبة هذا الكلام للأستاذ البوطي، ولكنّنا سمعناه بآذاننا، ورأيناه بأعيننا، والكلام واضح ليس فيه أي لبس أو غموض .. وهل بعد السماع والمعاينة من حجّة؟!.
سكتُّ حينها، ولم أستطع أن أؤيّد ولا أن أنكر، لأنّهم يدّعون رؤيةً وسماعاً لما لم أره ولم أسمعه، ولكنّني سألتهم عن المصدر الذي سمعوا منه ما يذكرونه فقالوا: رأيناه في اليوتيوب (youtube) رجعت إلى البيت فعمدت إلى جهاز الكمبيوتر، وفتحت الصفحة التي ذكروها، واستمعت إلى ما استمعوا إليه، فما الذي سمعت؟ سمعت كلاماً مُبْهَماً قد بُتِرَتْ منه المقدّمة وحذفت منه الخاتمة، وكان من جملة الكلام الذي سمعته أنه يصف فئةً ما قليلةً بأنّها حثالة، واجتهدت في أن أعرف من خلال هذا المقطع مَن هم هؤلاء الذين يصفهم بهذا الوصف، ولكنّني لم أتبيّنهم؛ ذلك أنّه يتحدّث عن فئةٍ سبق أن حدَّدهم وتحدَّث عنهم مفصّلاً في المقدّمة التي بُتِرَتْ، لذلك لم أستطع أن أحكم على كلامه بشيء .. فلما اجتمعت ببعض مَن كانوا في المجلس السّابق، وكان فيهم أصدقاء بيني وبينهم مباسطة، قلت لهم: إنّ من الطّامّات الكبيرة التي مُنينا بها، هذه السطحية في الفهم، وهذا التسرّع في إطلاق الأحكام على الناس، من دون تثبّت .. هل استطعتم من خلال هذا المقطع الذي سمعتموه أن تعرفوا من هم هؤلاء الذين يصفهم بهذا الوصف الذي استهجنتموه؟. قالوا الأمر واضح، وهل هناك غير المتظاهرين السِّلْميّين الذين يخرجون في الشوارع ويهتفون بالحرية؟ .. قلت: وهل في السّاحة طرفان فقط لا ثالث لهما، النّظام من جهة، والمتظاهرون السِّلميّون من جهة أخرى، ثمّ ليس وراءهما صنف ثالث ورابع وخامس؟ .. وهب أنّكم لا ترون غير فئتين، فهل يعني هذا أن على الناس جميعاً ألاّ يروا إلاّ ما ترون، وأن من رأى خلاف رأيكم مخطئ؟ وحتى لو كان الرّجل مخطئاً في تصوّر وجود فئة أخرى لم نتعرّف عليها من خلال اليوتيوب، ووصفها بهذا الوصف، فإن كانت غير موجودة؛ فهذا لا يعني أن هذا الوصف ينبغي أن ينطلق على المتظاهرين السِّلميّين .. وأنا أعجب ممّن يجنح به التفكير إلى مثل هذا الحدّ .. ترى هل يمكن أن يظهر الناطقون الرّسميّون باسم النظام، بل أن يخرج رأس النظام، ويصف المتظاهرين السّلميّين بأنهم شرفاء، وبأن مطالبهم محقّة، وبأن قتلاهم شهداء؛ ثمّ ينفرد الدكتور البوطي فيصفهم بأنهم حُثالة؟ .. أعتقد جازماً أن من العسير بل من المتعذّر أن يقبل بهذا الافتراض الموغل في الوهم عقلٌ متماسك!.
ثمّ إنّني عِبْت على بعض هؤلاء المثقّفين، ولُمْتهم على هذه السّطحية في النظر في المسائل، وعدم التّثبّت، ثم الحكم على الناس بدون بيّنة، وقلت لبعض من تربطني به صداقة: إنني أتأسّف وآسى على طلاب الجامعات؛ حين أرى من يدرّسهم بهذه السذاجة في النظر والضّعف في الرّأي، وبهذا التسرُّع في إطلاق الأحكام.
ثمّ إنّني لمّا تتبّعت كلمة الأستاذ البوطي وبحثت عن الكلام الذي قاله في المقدّمة والخاتمة تبيّن أنّه كان يتحدّث عن أناس آخرين لا علاقة لهم البتة بالمتظاهرين المسالمين، وهم – كما يقول - حفنة قليلة مخرّبة مرتبطة بجهات خارجية متربّصة، تريد استغلال المتظاهرين السّلميّين لخدمة أهدافها، وتحقيق مآربها التي تناقض مصلحة المتظاهرين والبلد.
لتحميل كامل البحث اضغط على الملف أدناه