مميز
EN عربي
الكاتب: الدكتور محمود رمضان البوطي
التاريخ: 18/11/2022

بضاعة رائجة

مقالات

بضاعة رائجة!




الدكتور محمود رمضان البوطي




صنعةٌ جديدة باتت مرتع تنافس وميدان استرزاق.




عُمدتها: جمع مزيد من الإعجابات، والاستكثار من المتابعين والمشاهدات.




وعُدتها: صفحة مجانية أو موقع الكتروني يحمل اسماً ملفتاً، أو عنواناً مشوقاً.




وبضاعتها: لا تنحصر بعدّ وليس لها حد، يصدق عليها قول قائلهم: (كل إناء ينضح بما فيه)؛ تتباين ما بين فضائل ورذائل، وما بين حسن وقبيح ومبدد للأوقات.




لكن أن يتخذ أناس يلبسون لباس أهل العلم من دين الله عز وجل مطية للاسترزاق، فتلك هي الرزية.




أناس قد تصدروا المواقع والصفحات والقنوات، واتخذوا الدين مطية لجني الأرباح، يستقطبون متابعيهم عبر التفنن في عرض البضاعة من خلال الإغراب في الأقوال والعناوين والأفعال. يستنطقون الدين ما لم يقل، ويتجرؤون في إصدار الفتاوى وإطلاق الأحكام.




فهذا يخوض في مسألة هي عند الله عز وجل من كبائر الآثام؛ ولانطماس بصيرته لم يدرك المعنى التعبدي من الربا ولم يفرق بين ربح مباح وفائدة حرام، فبات يغمز ويلمز على مقاصد الأحكام.




وهذا يتنطع بالحديث عن إعجاز القرآن، فيحمّل النصوص ما لا تحتمل، وهو لم يدرك بعد الفرق ما بين فاعل ومفعول، وفاضل ومفضول، في الوقت الذي كان سيدنا أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه يقول: (أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم)‏.‏




وهذا امتنهن مهنة القصّاص، اتخذ من الحديث عن عجائب الأخبار وخوارق العادات ديدناً.




وآخر قد تطاولت به الجراءة فتورط في أكل لحوم الكبار؛ يعرّض بالأئمة الأعلام، أو يخوض في الخلفاء الراشدين، وينزل بساحة صحابة سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم مدحاً وقدحاً. والنبي عليه الصلاة والسلام يقول فيما رواه البخاري: (لو أن أحدكم أنفق مثل أُحدٍ ذهباً ما أدرك مُدّ أحدهم ولا نصيفه).




وأخطرهم، ذاك الذي يخوض في مسائل شائكة وموضوعات عويصة على مسمع العوام، يخوض فيما لا يخوض فيه عادة إلا فطاحل العلماء. فرغ قلبه من الخوفِ من الله، فهان عليه ليّ عُنق النصوص والتلاعب بالأحكام عندما، كذاك الذي يبرر كشف الوجه أو لبس الواصف من الثياب، بحجة تبدل الأعراف والأزمان ...




وكلُّ من يهذي بما لا يدري مفتئت على الله فيما يقول ويفتي، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما رواه الدارمي: (أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار).




أتذكرون عهداً كانت كلمةُ (الفتوى) أرهبَ ما يطرقُ الآذان، وأخطرُ ما تنطقه الشفتان. إن قيلَ لعالم: أريد أن استفتيك ارتعدت فرائصُه خوفاً من الديّان.




وحسبكم قصة ذاك الذي وفد من المغرب إلى الإمام مالك، وقد حمل طائفة من الأسئلة. فأجابه الإمام عن طائفة يسيرة منها وقال له عن البقية: لا أعلم‏.‏ قال له الرجل: جئتك من مسافة ستة أشهر لتجيبني: لا أعلم، ماذا أقول لمن أرسلوني إليك؟ قال: قل لهم: يقول مالك لا أعلم‏.‏




أما اليوم، فقد غابت كلمة (لا أعلم) من قاموس المتصدرين، الكل يدلي بدلوه في كل مسألة وفي كل اختصاص. يرتجلون الفتاوى ارتجالاً، ويطلقون الأحكام جزافاً. ‏وكأنهم قد فاقوا الأئمة في استحضار الأقوال واستنباط الأحكام، وأتقنوا فن التخريج والترجيح. وعِلمُ أحدهم في الحقيقة لا يبلغ عشر معشار علم أولئك الأفذاذ. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال فيما اتفق عليه الشيخان: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالما اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا).




فوا أسفاه، على علماء أدركنا منهم بقية، كانوا يفرون من الكلام، ويبذلوا الوسع ألا يتصدروا بين الأنام، فإذا ما صُدِّرَ أحدهم ذاب خجلاً من الحق عز وجل الذي ستر عيوبه عن خلقه.




أين هم أرباب القلوب الذين عاملوا الحق ولم يلتفتوا إلى الخلق؟! فعافاهم الله من هوس الاستكثار من المشاهدات والإعجابات الذي كان يتمثل آنذاك بداء العجب وداء الرياء، فكساهم الله عز وجل حلية الهيبة والجلال، مع قلب حاضر وخشوع غامر، وانعكس حالهم أثراً على قلوب الحاضرين، عباراتهم جامعة تلج القلوب دون استئذان. وصدق من قال: "حال رجل في أمة، خير من قول ألف رجل لرجل".




واليوم رغم كثرة المواقع والصفحات التي تنطق باسم الإسلام، وتدعي الغيرة على الإسلام، ورغم كثرة القنوات الإسلامية التي تذخر بالمتصدرين الموقعين عن رب العالمين، تجول بطرفك بين الخافقين.. بحثاً عن أثرهم بين الأنام؟! فماذا تجد؟! الكل يعلم الجواب. (غثاء كغثاء السيل) كما وصّف سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.