مميز
EN عربي
الكاتب: محمد المسافر
التاريخ: 06/07/2011

هل لليأس مكان إذاً

مقالات
هل لليأس مكان إذاً
للجانب العاطفي في حياة الإنسان أثره غير المنكور، فالإنسان عقل وقلب وجسد، وليس يتحقق له توازن في حياته إلا أن يتعهد هذه الثلاثة جميعاً بخالص الاهتمام، وكثير العناية، فما تعلق بجانب العقل كان لزاماً على الإنسان أن يلاحقه بصنوف المعرفة والعلوم، وما تعلق بالجسد كان لزاماً عليه أن يتعهده بمختلف جوانب الرعاية أيضاً، من توازن الغذاء، وأداء منتظم للرياضة، وحسن اختيار الدواء عند السقم، وما تعلق بالقلب – وهو بيت القصيد – كان لزاماً عليه أن يتعهده هو الآخر بما يصلحه، ويبقي عليه سالماً معافى.
ونحن لا نعني بالقلب هنا – بداهة – تلك العضلة من اللحم التي تؤذن باستمرار الحياة كلما تابعت وظيفتها في ضخ ألتار الدم وتدويرها، بل نعني ذلك الجزء من الكيان النفسي للإنسان المسؤول عن توقد المشاعر فيه بمختلف أنواعها من حب وميل وتعلق، وكره وبغض وضغينة، وحسد وحقد وغل، وخوف ورهبة، وتعظيم وإكبار ....
ومعلوم أن الفضيلة هي الوسط بين الطرفين، فقليل من الحب والبغض والكره والخوف، بل والحسد مطلوب، والإفراط في ذلك كالإفراط في الطعام يورث الكسل والخمول بدل النشاط والانطلاق، أو كالإفراط في تناول الدواء يسبب مزيداً من الأمراض فينقلب "السحر على الساحر".
ومن الجدير ذكره أن الإسلام – وهو الدين الخاتم الذي جاء منظماً لحياة البشر من ألفها إلى يائها وما بعدها – إنما جعل لكل واحد من الثلاثة السابقة تشريعات خاصة متكاملة، تُستمد بطبيعة الحال من مصادره الأصيلة متمثلة بالكتاب الكريم، والسنة النبوية المشرفة، وما تمخض عنهما من مصادر التشريع المختلفة المعلومة لدى أهل الاختصاص.
ولست أنوي في هذه الكلمات القليلة أن أعرض لكل تلك التشريعات – على أهميتها، فإن ذلك قد يتطلب الخوض في معظم أحكام الشريعة إن لم نقل كلها، ولكني قصدت من كتابة هذا المقال الإشارة إلى جزء خطير مما جاء الإسلام به ليحقق التوازن فيما يجيش في نفس المؤمن من مشاعر.
وقبل ذلك، لا بد من معرفة أن الإسلام إنما يربط كل ما يحيا الإنسان فيه بالله وباليوم الآخر، فهو إذا تأمل في النجوم وما خلفها من ذلك الكون الفسيح الغامض، وما فيه من عجائب التنظيم، ودقائق التدبير انبرى لسانه مسبحاً لله ذاكراً له جل في علاه، وإذا أكل فامتلأت المعدة من الطعام أحس بفضل الله عليه فارتفع على لسانه شكر الله وحمده على نعمه، وإذا ما أعجبه وأبهره صعود الفسيلة الصغيرة ونماؤها لتصبح شجرة متكاملة الجذع والأغصان والأوراق والثمار تذكر بعث الناس يوم القيامة وخروجهم من الأجداث.... وهكذا شأن المؤمن في سائر أحواله أن يظل متذكراً لمولاه، مراقباً له في جميع أحواله.
لذا كان من البديهي أن يربط الإسلام مشاعر الإنسان المسلم كذلك بالله، وأن يجعل حب الله أساساً لكل محبوب، وأن يجعل مشاعر الرغية بما وعد به سبحانه من نعيم، والرهبة مما توعد به من عذاب مسيطرة على كيانه ونفسه، وعلى تصرفاته وأقواله، ذلك في أحوال الإنسان العادية فما بالك إذا كان متلبساً بطاعة، أو واقفاً لأداء فريضة؟ لا شك أن مثل هذه المشاعر ينبغي أن تظل – من باب أولى - هي سيدة الموقف طيلة فترة العبادة، فذلك هو الخشوع، وبه يناط الثواب: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}.
إذا علم هذا، فلنبدأ بشرح ما نحن بصدده.
إن مقارنة بسيطة يقوم بها الإنسان بين ما يتلقاه في يومه، بل في كل نفس من أنفاس حياته، من نعم الله عليه وإفضاله سبحانه، وبين ما يقدمه العبد لربه – إن صح التعبير- من الطاعة والعبادة - والتي غالباً ما يعتريها النقص والسهو - تظهر مدى تقصيرنا نحن العبيد المخلوقين في حق المولى تبارك وتعالى، ذلك إذا سلمنا أننا أصحاب الفضل في أداء هذه العبادات، وأن منبع القوة لهذا الأداء كامن فينا، فكيف إذا كان أداؤنا هذا ليس إلا مظهراً آخر من مظاهر فضل الله علينا؟وكيف إذا كانت القوة التي نتكئ عليها في ذلك ليست إلا واحدة من ملايين غير منتهية من النعم التي نتلقاها صباح مساء من المعطي الكريم تباركت أسماؤه؟
ومن ثَم، فإن قبول الله عز وجل الطاعة من المؤمن وجزاءه عليها بالأجر والمثوبة ليس إلا وجهاً آخر من وجوه تلك النعم التي لا يعدها عاد مهم عد وأحصى، إذ هو سبحانه من أذن له فعلمه كيف يعبده، ثم هو من أمده بالقوة والإرادة لينفذ ما تعلم!
ومن ثَم، فإن العبد بين رجاء أن يتقبل الله منه ما وفقه إليه من صنوف الطاعة والعبادة، وبين خوف أن تُرد عليه بسبب تقصيره وجحوده، وذلك شيء من معاني قول الله جل جلاله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}.
ولننظر الآن، هل تعد مشاعر الوجل هذه باعثاً على الإحباط الذي يدعيه البعض، وينسبون سببه إلى هذه الآية وأمثالها ؟؟ هل لهذا علاقة بقول بعضهم: "إننا في هذا العصر – عصر الفساد والمعاصي – لا يمكن أن ندخل الجنة... كيف ونحن نتقلب في حمأة المعاصي كلما تقلبنا في مختلف شؤون حياتنا"!! إذاً ما الحل؟ يجيب الإخوة اليائسون: "الحل أن يستمتع الواحد منا ما أمكنه في هذه الدنيا، وألا يرهق نفسه بكثرة الطاعة والعبادة، فالنتيجة واحدة: إلى النار ولا مفر"!!
ألا ترون أيها السادة أن هذا الإفراط هنا، يقابله - وعلى طرف النقيض منه -تفريط لدى أناس يجعلون من رحمة الله تبارك وتعالى ومغفرته مبرراً – والعياذ بالله – لاقترافهم الآثام، ووقوعهم في الموبقات "وإذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون" ؟؟
والنتيجة في كلا الحالين تضييع لحدود الله، وارتكاس في المعاصي والموبقات!!
والحق أن التوسط هو الحل، فالإفراط في مشاعر الخوف والرهبة هو اليأس الذي قال فيه تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} يوسف87 ، والتفريط في ذلك هو الأمن من مكر الله وعقابه الذي قال فيه: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } الأعراف99.
ثم إن من المحال أن يكون مصير الأتقياء البررة هو هو مصير العاصين الفجرة، مهما كان العصر الذي ينتمون إليه، أما قال الله تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ، مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أما وبخ القرآن أصحاب هذا الظن بقوله: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} الجاثية21
لقد وعد الله المتقين جنات تجري من تحتها الأنهار، وتوعد المعاندين ناراً طعام أهلها الزقوم، وشرابهم فيها الحميم: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاء حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءهُمْ} محمد15.
والمتتبع لأسلوب القرآن يجده مليئاً بهذا التوازن العجيب الذي يبثه في نفس تاليه، ويمكننا متابعة هذا الأسلوب على سبيل المثال في خواتيم سورة الدخان، ومستهل سورة الطور، بل في سائر آيات الكتاب الكريم.
لذا فمن المستقبح أن يستولي الشيطان على رأس أحدنا ويقنعه بأن لا جدوى من كل الطاعات والمبرات، وأن مآل الأتقياء والفجار في هذا العصر إلى النار، ثم يأتي ليزعم أنه إنما استقى هذا المعنى المغلوط من كتاب الله تعالى!! كلا بل ما هو إلا باب من أبواب الشيطان وحبل من حباله يتصيد به من تميل نفوسهم إلى التشديد، كما تصيد - من قبل - من تميل نفوسهم إلى الاستهتار و"التيسير" المغشوش.
إن شأن من امتلأ قلبه بمشاعر الرهبة والخوف من أن ترد عليه أعماله فلا تقبلَ بسبب سهو منه أو تقصير، أن يزداد لله طاعة وعبادة له، وأن يجتهد في مزيد من الخشوع والإخلاص،لا سيما وأنه يؤمن بأن كلام الله صدق، ووعده حق، وأن إرادته – سبحانه – نافذة، وقد توالت الوعود الإلهية للأتقياء الأبرار أن مصيرهم جنات خالدين فيها، ومع هذه الوعود القاطعة لا يتصور إخلال بها أو اعتراض لأحد عليها، كيف وهي صادرة عن العلي القدير جل جلاله؟ :"ومن أوفي بعهده من الله"؟
بقي أن نتساءل الآن : أحقاً ما يقوله الإخوة المتشائمون أننا في عصر مزر إلى هذه الدرجة، بحيث لا يمكن معها أن يوجد أناس من هؤلاء الأتقياء أو على الأقل من الناجين يوم القيامة؟
وفي الإجابة عن هذا نقطتان، هما:
إن القول بهذا – وعلى طريقة الرياضيين في نقض الفرض – يستلزم أن الله جل جلاله قد كلف أفراداً من الأمة – وهم أهل هذا العصر - بما لا يطيقون، وحملهم ما لا يستطيعون إلى فعله سبيلاً، وهذه مخالفة صريحة لكلام الله المبين: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا}.
ثم إن القول بهذا يتضمن في ثناياه اتهاماً لله – حاشاه سبحانه – بالجهل!! وكأن الإخوة هؤلاء قد علموا ما لم يعلمه الله من أن عصراً سيأتي يتسحيل معه تطبيق شريعة الإسلام والتزام المسلمين بها ضرباً من المستحيل، ويصبح حمل الناس عليها وأمرهم بها نوعاً من التعجيز!!
والله عز وجل يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً}.
ولو أن الله علم – وهو بكل شيء عليم – أن مثل هذا العصر المتوهم سيأتي لاقتضت حكمته سبحانه وتعالى ألا يجعل محمداً – صلى الله عليه وسلم – خاتم النبيين، وألا تكون شريعته خاتمة الشرائع، بل أن يجعل لهذا العصر وأشباهه نبياً يخفف على الناس ويضع عنهم بعض ما أثقلوا به من كثرة التكاليف والمشاق، وذلك على غرار ما رأينا من بعثة سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام حين قال لقومه: {وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}، أو كما أخبرنا ربنا عن بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ}، ولكن ذلك كله لم يكن، فمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وشريعته خاتمة الشرائع، أحكامها كالمحجة البيضاء ليلها كنهارها، تطبيقها في متناول كل إنسان سليم الفطرة والعقل، حر الإرادة والتفكير، مهما كان العصر أو المكان الذي ينتمي إليهما.
ولست أسعى من هذا الكلام أن أتهم أحداً في دينه أو صحة عقيدته، كلا! بل هو مجرد تحذير من مغبات كليمات لا يلقي لها الإنسان بالاً، لربما أوردته المهالك.
ولكن الإنصاف يدفعنا إلى القول إننا في زمان لا نحسد عليه، ولكن الحل – بداهة - ليس في التفلت الكامل من الالتزامات الشرعية كما قال الإخوة المتشائمون، إنما في مزيد من التمسك بدين الله، في مزيد من العلم به، في مزيد من العمل به، في مزيد من الدعوة إليه، في مزيد من الدافاع عنه، في مزيد من الصبر، وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى الموقف الأمثل الذي عليهم أن يتمسكوا به زمن الفتن والمحن – وما أقرب زماننا إليه – فقال عليه الصلاة والسلام: "فإن من ورائكم أياماً الصبر فيهن مثل القبض على الجمر".
وللعاملين في مثل هذه الظروف حساب خاص من الأجر: "للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلاً يعملون مثل عملكم". [رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب]
وإن في الصبر لمندوحة عن العجز واليأس: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ}.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
وكتبه محمد المسافر
في دمشق المحروسة أدام الله عليها الأمن والإيمان.

تحميل