مميز
EN عربي
الكاتب: جعفر الوردي
التاريخ: 17/09/2011

الاستبداد الفكري

مقالات

الاستبداد الفكري


جعفر الوردي


يكثر في هذا الوقت ترديد كلمة الاستبداد بعد أن غفا عنها العالم العربي عقودا طويلة، وما كان يستطيع أن يذكر تلك المفردة فضلا عن أن يشخصها وأن يتطرق للحديث عنها، ولعله كان أول من صرخ بها في العصر الحديث عبد الرحمن الكواكبي الذي مات مسموما بفنجان قهوة بعد أن كتب كتابه الشهر (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد).


كان لكتابه الرواج الكبير على الرغم من أنه ممنوع في أغلب الدول العربية، حيث ثار على استعباد الحكام لشعوبهم، ووصف الحاكم المستبد بأنه يشارك الله في صفة من صفاته، أو ينازع الله الملك والحكم باستبداده وجبروته.


وكلمة الاستبداد في أصلها: من الانفراد في الشيء، حيث يقال: استبد فلان بالأمر أي انفرد به، واستبد بالأمر يستبد به استبدادا أي انفرد به دون غيره، وأُلحقت هذه الكلمة بالحكم السياسي، من حيث إن الحاكم انفرد في حكم البلاد دون غيره، على وجه اللا شرعية واللا أحقية.


وكذلك الاستبداد الفكري، حيث ينفرد الشخص بفكرة معينة ويفرض قوانينها وتبعاتها على الناس دون وجه حق أو وصاية وينفرد بها على الناس.


والاستبداد السياسي هو صنو الاستبداد الفكري وقرينه، حيث لا يقبل المستبد أي فكرة غير فكرته، ولا يرى غير رأيه ونظرته، تماما كالذي عبر عنه القرآن بقوله: (مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى) فهذا قمة الاستبداد بالعقول والفكر؛ إذ عطل بذلك عقل الجميع وحرمهم حتى من حرية اختيار الفكرة، فهو يقول لهم بلسان الحال لا يصلح لكم من الأفكار إلا ما رأيته واقتنعت به.


ويكرر القرآن المعنى ذاته بلفظ يشرح ذلك الاستبداد بقول فرعون لقومه : (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي)، ففرعون فكر ونظر ومحص في الأمور وخرج بنتيجة ألزم بكل قومه وشعبه، من أنني أنا الذي فكرت وتوصلت إلى نتيجة حتمية لا تقبل المخالفة والنقاش فلم أر لكم من إله ورب معبود غيري أنا، فما عليكم إلا الأخذ بهذه الفكرة والتسليم المطلق والإذعان لها.


ولا يفترق الاستبداد السياسي بالحكم عن الاستبداد الفكري حيث الأول يُنتِج الثاني، ولو أتاح الحاكم للرعية مجال التفكير والتدبر لارتأوا أن يتخذوا حاكما غيره، أو يستبدلوه بمن هو أصلح منه، لذلك كان لزاما على المستبد السياسي أن يكون مستبدا فكريا حتى يحفظ منصبه وحكمه من الزوال.


فهو باستبداده يعطل العقول ويسفه الأحلام ويمحق الإبداع؛ إذ كل ذلك الذي ذكر هو فرع منه ومؤدى طريقه ومنتاه إليه، فما من فضيلة ذكرت ولا من خصلة حمدت إلا ولي الحظ الأوفر منها ولي المقام الأسمى بها، ومن خالف هذا الرأي والتوجه فعليه مني ومن الطبيعة والحقيقة والوطنية لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وهو مطرود من رحمة الدنيا التي أحوزها كما طرد إبليس من الجنة.


فتلك هي الصورة الحقيقة لاعتقاد الحاكم المستبد الربوبية بنفسه والألوهية حتى وإن لم ينطق بها، حيث يعتبر مخالفيه ومنتقديه كإبليس الذي خالف الله ورفض أن ينصاع لأمره.


ويكثر الاستبداد الفكري في كل شخص تولى أمر مجموعة من الناس أو تسلم منصبا يكون مسؤولا فيه عن ثلة من البشر، فالمدير في مدرسته يأتيه نصيب من هذا الاستبداد، والوزير في وزارته، والشيخ مع طلابه وتلامذته، وهكذا..


حيث إن الدولةَ أو الأمةَ المستبِدُ حاكمها تفرخ استبدادا ضمن استبداد، فإن كان الحاكم أو الرئيس أو الملك مستبدا كان أسفل منه مستبدين كثر، فكلهم يلهم من الآخر طقوس الاستبداد، ويذيق الذين هم أسفل منه ما يذوقه من الذي أعلى منه من الاستبداد والتجبر، فتتولد دولة عظيمة الفساد لا يعرف لها حق أو باطل، يجور بها كل من تسلم أدنى منصب أو مكانة.


والأعجب أن الاستبداد الفكري تسري عدواه إلى عامة الناس الذين لا يكون لهم أي منصب أو قرار في الحكم والأمر، فيستبد الأب في بيته، ويستبد صاحب الصنعة على عامليه، وهكذا دواليك.


حتى ترى أن أفراد الناس إذا اتخذ قرارا أو اقتنع بفكرة فإنه من المعجزات تغييرها؛ لأنه يعتقد (ومن أحسن مني رأيا وحكمة) فتراه يناقش ويخاصم ويناضل في سبيل فكرة تافهة وينشئ الجبهات والحروب في سبيل ذلك.


أما لو كنا على جادة الإنصاف والعقلانية، فإننا نرى أنه ليس للاستبداد بالفكرة والرأي أي أحقية أو انفرادية، ويتجلى أيضا هذا المعنى الراقي في حرية التفكير واتخاذ القرار من القران الكريم عند قوله لمخاصميه ومخالفيه، وكلنا يعتقد جازما أن القرآن لا يقبل النقاش في صحته وقطعيته لكنه مع ذلك يقول : (وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) فقد أنصف تمام الإنصاف مخالفيه فأكد لهم أننا لا ندري من يكون على حق وهدى ربما أنتم وربما نحن فتعالوا إلى النقاش والدليل لكي نتبع الحق الذي يظهر عند صاحب الحجة والبرهان.


ويزيد الرقي الفكري عندما لا يكون اتفاق بين الطرفين ولم يقتنع منكري القرآن به ولا بصحته فيقول لهم الرسول: (قُل لَّا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ) فيبين قمة الأخلاق عند الاختلاف واحترام الطرف الآخر حتى لو كنت توقن كامل اليقين بأنه على ضلال وعلى خطأ فيقول له نحن نُجرِم في أفعالنا ولن تُسألوا عنها ولا تحُاسبوا عليها، وما تفعلوه أنتم أيضا لن نسأل عنه.


إن هذا التبيان من الرقي في احترام الفكرة الأخرى واحترام وجهة نظر الطرف المقابل لهو أسمى أوجه العقلانية والتفكير السليم عندي ذوي العقول، ومن يحيد عنه فيهوي إلى مكان سحيق يؤاخيه فيه حكام وأبالسة كثر تطيب أوقاته ولحظاته بهم..!

تحميل