مزاولة الفصاحة قراءةً وكتابةً وكلاماً
لا يعرف الشوق إلاَّ من يكابده
ولا الصبابة إلاَّ من يعانيها
وأكاد أقول: ولا الفصاحة إلاَّ من يعانيها، فالفصاحة معاناة ومزاولة، تشترك فيها جميع الحواسِّ والمدارك، تبدأ بالسماع وتمرُّ بالقراءة لتنتهي بالكتابة والكلام الفصيح، فهي عمل متواصل للأذن والعين واليد واللسان، إذ هي تمرّس وتدريب يتبع الاكتساب والتحصيل، ولا يغني فيها اكتساب عن تمرُّس، ولا تحصيل عن تدريب، إنما تحصل بمجموع ذلك كله، ولعل أثر التمرّس والتدريب أكبر من أثر التحصيل والاكتساب لما لهما من أهمية في نمو ملكة اللغة وتثبيت أركانها وتوطيد دعائمها، وكلما أكثر المرء من استعمال لسانه في ضروب من الفصاحة كان ذلك أطلق للسانه وأبلغ لبيانه وأعودَ عليه بزيادتها وبلوغ الغاية فيها.
روى المبرد في الكامل أن رجلاً قال لخالد بن صفوان: إنك لتُكثر! فقال: أُكثر لضربين: أحدهما فيما لا تغني فيه القلة، والآخر لتمرين اللسان، فإن حبسه يورث العُقلة. وكان خالد يقول: لا تكون بليغًا حتى تكلم أمتك السوداء في الليلة الظلماء في الحاجة المهمة بما تتكلم به في نادي قومك، فإنما اللسان عضو إذا مرَّنته مَرَن، وإذا أهملته خار، كاليد التي تخشنها بالممارسة، والبدن الذي تقويه برفع الحجر وما أشبهه، والرِّجل إذا عُوِّدت المشيَ مشت([1]).
ومما لا شكَّ فيه أن الخطابة ضرب من ضروب الفصاحة، بل هي مرتع خصب لها، وميدان واسع تتبدى مهارة الفصاحة من خلاله، والخطيب لا يغدو خطيبًا مصقعاً إلاَّ بمواصلة الدربة والتمرين، ومزاولة الخطابة والتمرس بأصولها والتدرب على فنونها، وما عرف عن خطيب أنه بلغ شأوًا في الخطابة متميزًا إلاَّ بعد طول دربة وتمرين وصقل، بالإضافة إلى ما حصَّله من علم ومعرفة، وما اكتسبه من ملكة وطبع.
جاء في زهر الآداب أن أبا داود كان يقول: «رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحاها رواية الكلام، وحَلْيُها الإعراب، وبهاؤها تخيّر اللفظ، والمحبة مقرونة بقلة الاستكراه»([2]).
وجاء في البيان والتبيين: «... وطول الصمت يفسد اللسان، وقال بكر بن عبد الله المزني: «طول الصمت حُبْسة» وقال عمر بن الخطاب رحمه الله: «ترك الحركة عُقلَة»، وإذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره، وتبلَّدت نفسه، وفسَد حِسُّه، وكانوا يروُّون صبيانهم الأرجاز، ويعلمونهم المناقلات، ويأمرونهم برفع الصوت وتحقيق الإعراب، لأن ذلك يفتق اللَّهاة، ويفتح الجِرْم [أي الحلق]، واللسان إذا أكثرت تقليبه رقَّ ولانَ، وإذا أقللت تقليبه وأطلت إسكاته جسأ وغلط. وقال عَبَايةُ الجُعْفي: «لولا الدُّرْبة وسوء العادة لأمرت فتياننا أن يماري بعضُهم بعضًا».
وأية جارحة منعتها الحركة، ولم تمرِّنها على الاعتمال، أصابها من التعقُّد على حسب ذلك المنع، ولمَ قال رسول الله للنابغة الجعدي: «لا يفضُض اللهُ فاك»؟ ولمَ قال لكعب ابن مالك: «ما نسي الله لك مقالك ذلك»؟ ولم قال لهيذان بن شيخ: «ربَّ خطيب من عبس»؟ ولمَ قال لحسان: «هيِّجِ الغطاريف على بني عبد مناف، والله لشعرك أشدُّ عليهم من وقع السهام في غَبَش الظلام»([3]).
وقد يتساءَل المرء أين يمارس مثل هذه الفصاحة؟ ومتى يزاولها ومع مَن يستطيع التدرُّب؟ وأنى له ذلك في هذا الزمن الذي بعد أهله عن الفصاحة والبيان؟
والجواب أن خير مكان لمزاولة الفصاحة هو المدرسة والجامعة وحِلَق العلم وأندية الثقافة وما أشبه ذلك، حيث ترتفع سوية الكلام، لتلائم شرف المعاني المطروحة، فالعلم على اختلاف أنواعه واختصاصاته، لا يليق به أن يعالج بلغة مبتذلة سوقيّة تحاكي لغة العامة في لهوهم وأسواقهم ولغطهم، وإنما يليق به أن ترتفع سوية الكلام وترقى العبارة إلى مدارج الفصاحة والبيان، مما يرقى بالعلم ويسمو به وبأهله، ويكون أنفع للطالب وأجدى له.
وكثيرًا ما يتساءل المربُّون: لماذا انحدرت سوية التعليم عن ذي قبل؟ وما أسباب ضعف الطلبة والخريجين في العربية بعد طول قوة؟ والجواب يكمن في طريقة تدريسهم التي تغيرت واستبدل فيها الذي هو أدنى بالذي هو خير، أجل فقد غدت العاميات المبتذلة وسيلة تدريس العلوم المختلفة، حتى اللغة العربية!! فهي تدرس في كثير من المدارس والجامعات بلهجة عامية أحيانًا وبلغة ركيكة ليست من الفصاحة في شيء أحيانًا أخرى! فكيف يكتسب الطالب فصاحةً؟ وأنَّى له بها؟!
إن الحلَّ يكمن في إعادة النظر في طرق التدريس ولغة التدريس، ولا شكَّ أن ذلك يحتاج إلى جهود كبيرة لتأهيل المدرسين لغويًّا ولإعادة النظر أيضًا بمن يؤهل للتدريس، وهي مسألة لا تخلو من صعوبة ولكنها ليست بمستحيلة إذا صحَّ العزم وصدقت النية ولاح الهدف من وراء ذلك مشرقًا ينبئ بمستقبل مشرق.
وعندما تغدو العربية هي الوسيلة الوحيدة للتعبير في قاعة الدرس يتسابق الطلبة إلى التعبير بها، ويتبارون في تجويدها، ويتفنَّنون في أساليب الكلام، مما يخرج ألسنتهم من طول الإسار، ويذهب عنها الحبسة والركاكة، والعيّ والفهامة، قال أبو العطاء يصف لسانه:
أُقلِّبُهُ كي لا يكِلّ بحبسةٍ
وأبعثه في كل حقٍّ وباطل
بل إن العدوى ستنتقل من قاعة الدرس إلى المجالس الأخرى والأندية والمحافل، حيث يتمايز الناس بطريقة نطقهم، ولا يعلو حديث مهما سما على الحديث بالعربية المبينة، فهي التي تسيطر بسحرها وجمالها وروائها على كل أهل المجلس، فتراهم منقادين إلى من يتقن الحديث بها، مصروفين إليه، يلتذون بوقع كلامه على أسماعهم، تتجاوب معه نبضات قلوبهم، ولا غروَ فهي كما قال الشاعر السحر الحلال:
خُلِقَ اللسانُ لنطقِهِ وبيانِهِ
فإذا جلستَ فكنْ مجيبًا سائلاً
لا للسكوتِ وذاكَ حظُّ الأخرسِ
إنَّ الكلامَ يزينُ ربَّ المجلسِ([4])
ولا يتوقف أمر الفصاحة على اللسان، وإنما يشاركه فيها القلم، فالقلم أحد اللسانين، وهو أبقى أثراً، لأن الكتاب يقرأ بكل مكان ويدرس في كل زمان، ويتجاوز الحدود ويرتفع على القيود.
فإذا تمرَّس الطالب بأساليب الكتابة، حسن تعبيره وشقَّ طريقه إلى امتلاك ناصية القلم، مما يعود عليه بالخير العميم، والنفع المستديم، فالكتابة تفتح آفاقًا واسعة، وتصل إلى ما لا يصل إليه اللسان، ولكنها كاللسان أو هي أعصى، لمسيس حاجتها إلى طول الدربة، وكثرة التمرين، ومعاودة التجربة، وإعادة النظر فيما يكتب، فالكاتب يطمح دائمًا إلى تجويد كتابته والرقيّ بها إلى مدارج البلغاء، مما يضطره إلى إعادة النظر، والحذف والتعديل، والإضافة والتذييل، ورحم الله العماد الأصفهاني إذ يقول:
«إني رأيتُ أنَّهُ لا يكتب إنسانٌ كتابًا في يومه إلاَّ قال في غَدِهِ: لو غُيِّر هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا لكان يستحسن، ولو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرِك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العِبر، وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر»([5]).
وبهذا تصقل الكتابة، وتتضح سمات الأسلوب، ويبلغ الكاتب حدَّ الفصاحة والإبداع.
مهارات الكتابة باللغة العربية
تمهيد
تحتاج مهارة الكتابة إلى أصول تبنى عليها، وقواعد ترشد إليها، لعل من أهمها القراءة، فمن لا يقرأ لا يكتب؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه، قال الجاحظ: «كل من عرف النعمة في بيان اللسان كان بفضل النعمة في بيان القلم أعرف».
وكلما قرأ المرء وأمعن في القراءة انقادت له أساليب الكتابة، وذُلِّلت له صعابها، واستطاع من ثم التمرّس بفنونها، والتمكّن من ناصيتها، والإبداع في مجالاتها المختلفة· وكلما بعد عن القراءة تنكّر له القلم، وجافاه الطبع، ولم يقوَ على خطّ كلمات في أيّ شأن من شؤون الحياة.
ثم إن الكتابة صنعة يكتسبها طالبها بطول التمرّس والمَرَانة، وليست موهبة توهب لأناس دون آخرين، فالمرء لا يُوْلَد كاتباً، بل لابد له من التدرج في سُلَّم الكتابة، وسلوك مسالك الكتّاب حتى يغدو كاتباً.
ولعلّ من أسهل أنواع التمرين على الكتابة أن يعمد المرء إلى كتابة ذكرياته، وليس ذلك بالأمر الصعب، وإنما هو أن يختار كل يوم أو يومين حدثاً مرّ معه فيسجله، ويعلق عليه ببضعة أسطر وفقاً لأهمية ذلك الحدث، فقد يكتب عن صفة لأخيه أعجبته، أو نصيحة لأبيه وقعت منه موقعاً حسناً، أو فائدة تلقّفها من معلمه، أو تصرّف راق له أو ساءه من صديق أو زميل، أو خبر سمعه من الأخبار، أو مقال قرأه في جريدة أو مجلة، أو منظر استرعى انتباهه في الطريق، أو غير ذلك مما تحفل به حياتنا اليومية، ويراه المرء من حوله مادام فيه عرق ينبض.
وهُلْكُ الفتى أن لا يَراحَ إلى الندى وأن لا يرى شيئاً عجيباً فيعجبا
1 - شروط الكتابة
ثمة شروط لابد للكاتب أن يراعيها في كل موضوع يكتبه، وهي ضرورية لسلامة كتابته شكلاً ومضموناً، فإذا أخلّ بها أو ببعضها انعكس الخلل على كتابته مهما كان مجيداً فيها·
وفيما يأتي بيانها:
1 - السلامة اللغوية:
ونعني بها أن تسلم الكتابة من الخطأ في اللغة، أو النحو، أو الإملاء·
أما اللغة السليمة فيكتسبها المرء من طول ملازمته لقراءة نصوص العربية، والتمرس بأساليبها، بدءاً من القرآن الكريم، ومروراً بالحديث النبوي الشريف، وانتهاء بكلام العرب شعراً ونثراً·
وأما النحو فيتقنه من خلال دروسه التي وردت في معظم كتب النحو (كالنحو الواضح، والنحو الوظيفي، والدروس النحوي، ومتن الآجرومية، وغيرها) ولا سيما علامات الإعراب الفرعية التي تبدو جليةً في الكتابة· (ونعني بها علامات الإعراب الفرعية في الأسماء، وتشمل المثنى، وجمع المذكر السالم، والأسماء الخمسة، وفي الأفعال وتشمل إعراب الأفعال الخمسة، وصيغ فعل الأمر· هذا بالإضافة إلى مواضع أخرى متفرقة)·
وأما الإملاء فهي القواعد التي ترسم بها الحروف العربية ولاسيما الهمزة في مواضعها المختلفة وما أشبه ذلك من أصول رسم الحروف·
2 - مراعاة علامات الترقيم:
ونعني بها أن يستعمل الكاتب في كتابته علامات الترقيم المختلفة، كالفاصلة، والنقطة، والأقواس، وهي تعينه على تقسيم كلامه وترتيبه، وتوضيح المراد منه في كثير من الأحيان، كما تعين القارئ على فهم ما يقرأ، وتعيِّن له مواضع الفصل والوصل، والوقف والابتداء، وتنويع النبرات الصوتية في أثناء القراءة، وسيأتي ذكر هذه العلامات بالتفصيل·
3 - مراعاة الناحية الشكلية:
ونعني بها شكل الكلام المكتوب وترتيبه، بدءاً من حسن الخط، ومروراً بتقسيم النص إلى فقرات تناسب المعنى، وتستقل كل منها بفكرة رئيسية أو أفكار جزئية متقاربة، وانتهاء بترتيب الفقرة الواحدة؛ إذ يحسن أن تميز الفقرة بترك فراغ بقدر مسافة كلمة في بداية السطر، وتنتهي بوضع نقطة في نهايتها· أما الهوامش فيراعى فيها ترك فراغ بمقدار (2 -3سم) من أعلى الصفحة، ومثله من أسفلها، وإلى جانبيها· وتنتظم السطور فلا تنبو منها كلمة، ولا تنقص كلمة عن الحد المتاح للكتابة.
4 - استيفاء عناصر الموضوع المطلوب:
وهذا ما يدخل في المضمون، ولكل موضوع عناصر يجب أن تُستوفى كاملة؛ لأن الإخلال بواحد منها يؤدي إلى نقص في الموضوع المطلوب .
([1]) الكامل، للمبرد، 532.
([2]) زهر الآداب 1/148.
([3]) البيان والتبيين 2/272 – 273.
([4]) محاضرات الأدباء للأصبهاني.
([5]) معجم الأدباء، مقدمة الكتاب.