مميز
EN عربي
الكاتب: الشيخ أحمد السعدي
التاريخ: 16/09/2009

الشيخ صادق حبنكة الميداني

تراجم وأعلام

بسم الله الرحمن الرحيم

الشيخ صادق حبنَّكة الميداني

رحمه الله تعالى

ولادته:

وُلِدَ العلامة الشيخ: صادق بن مرزوق بن عرابي بن غنيم حبنَّكة في حي الميدان بدمشق، سنة 1918م.

لقبه:

عائلة الشّيخ معروفة بلقب حبنَّكة، ثمّ اشتهر أخوه الأكبر فضيلة العلامة الرّاحل الشّيخ حسن رحمه الله بلقب الميداني.

والدا الشيخ:

كان والد الشيخ: الحاج مرزوق معروفاً بالصلاح والتقوى، وكان علماء الشام يظنون فيه الولاية.

كما كانت أمه صالحة تقية، وقد توفيت وهي عائدة من الحج، مع ابنها فضيلة الشيخ حسن رحمه الله .

زواج الشيخ:

تزوَّج الشَّيخ رحمه الله مرَّتين:

- الأولى: من امرأةٍ عُرِفَ والدها بالتَّقوى والمنزِلة الاجتماعية الفاضلة، من عائلة دمشقية معروفة هي عائلة الصبَّاغ، وذلك سنة 1938ميلادية.

-الثَّانية: من امرأةٍ فاضلةٍ هي أمُّ أولاده، وذلك سنة 1958م.

وكلتا الزوجتين عُرِفتا بالصلاح والتَّقوى، وكان بين وفاة الأولى وزواجه بالثَّانية ثلاث سنوات، كان الشيخ خلالها راغباً في ترك الزَّواج، حزناً على الأولى من جهة، وخوفاً من أن يترك وراءه زوجاً ثكلى وأولاداً أيتاماً من جهة أخرى، وقد أخبرني غيرَ مرَّة عن اعتذاره من الزواج يومئذٍ ظاناً بأنَّ سؤر العمر قصير، وأنَّ ما تبقَّى يُمكن أن يستدرِكَ فيه ما فاته من طاعة وعبادةٍٍ و تحصيل علمٍ شرعيٍّ، ثم شاء الله عزَّ وجلَّ أن يتزوج، فأنجبت له زوجه ثمانية أولاد: أربعة ذكور، وأربع إناث .

أعمال الشيخ وموارد رزقه :

كان الشيخ رحمه الله عصامياً، شديد العفّة، صاحب مروءة وقناعة، لذا كان حريصاً على تحصيل الرزق بجهده وكسب يده، في الوقت الذي يرضى فيه بالكفاف.

وقد كان الزهد عنواناً لحياته، لكنَّه لم يرض أن ينظر الناس إليه نظرة من يحتاج لدنياهم، لذلك عَمِلَ مبكراً في بعض المهن التي تكفيه وعياله، فجاءته الدنيا صاغرة، مع عدم حرصه عليها، وكان يوصي كثيراً بالسعي للرزق الحلال، مع تشجيعه على عدم التفريط في تحصيل العلم، وتكراره دائماً: ( أبى الله أن يرزق طالب العلم إلا من حيث لا يحتسب ).

فجمع بموقفه المبدئي هذا، بين الدعوة للسعي، وبين تقديم طلب العلم والاهتمام به، وكان كثيراً ما يعلِّل الدعوة للسعي باستقلال طالِبِ العلم الماديِّ عن الناس، فيكون أكثر جرأة في نقد الخطأ، وأكثر حرية في سلوكه ومنهجه في حياته .

ومن الأعمال التي مارسها : إصلاح المؤقتان، وقد برع الشيخ رحمه الله في هذه المهنة وكان أصحاب المحلَّات الكبرى في هذا يسألونه النصيحة في ذلك، وحصَّل الشيخ من وراء هذه المهنة مالاً شجَّعه على العمل بالتجارة، فعمل في بيع الكتب وشرائها، لا سيِّما القديمة منها، ووسَّع عمله ففتح مكتبة منجك في حي الميدان في شارع الجزماتية.

ثم انتقل منها إلى مكتبةٍ أخرى سمَّاها المكتبة الأزهريَّة، وقد وسَّع أعماله فيها فكان يجلِّد الكتب ويصوِّر الملخصات الجامعيَّة ويتاجر ببيع الكتب، وكان منها مكتبة الحلبوني، التي كان لها شهرة كبيرة، طبع فيها المصاحف بالقياسات والأشكال المختلفة، كما طبع كتباً علميَّة عدة بالإضافة لبعضِ المعاجم.

طلبه للعلم :

درس _رحمه الله_ عندما كان صغيراً بمكتب الشيخ أحمد وسليم اللبني قبل سنة 1925م.

ثم انتسب للمدرسة التجارية التي كان يديرها الشَّيخ محمود العقَّاد _رحمه الله تعالى_، وقد كان الشّيخ محمود شديداً وكان أسلوبه في التعليم قاسياً، فانتقل الشَّيخ منه إلى مكتب الشَّيخ محمد المصري في الميدان .

ثم انتقل الشيخ للدراسة في مدارس الجمعية الغراء التي كان يديرها أخوه الشَّيخ حسن _رحمهما الله تعالى_، حيث درس في المدرسة الرِّيحانيّة وغيرها، وقد تخرَّج _رحمه الله_ من هذه المدارس ليمارس التعليم في مدرسة وقاية الأبناء الّتي أنشأها الشيخ علي الدَّقر _رحمه الله_، وهي من مدارس الجمعية الغراء .

ورغم استفادته _رحمه الله_ من أساتذته وشيوخه في الكتاتيب والمدارس الشرعية التي تعلَّم بها، وحضوره بعضَ مجالس العلم لكبار علماء عصره إلا أنَّه انقطع بعد ذلك للأخذ عن أخيه حتَّى شاع عنه ما كان يكرِّره من أنَّه لم يعدِّد الشيوخ كما كان حال أخيه، بل التزم شيخه وأخاه طيلة تحصيله.

نشره للعلم :

يُمكن أن نقسم تعليم الشّيخ إلى قسمين: تعليمٌ رسميٌّ، وتعليم عامٌّ .

وأقصد بالتعليم الرسمي تعليمه _ رحمه الله _ في المدارس والمعاهد الشرعية، وهو جانب مهم جداً من مشواره التعليمي _رحمه الله_، فقد بدأ التدريس في المدارس الشرعية منذ مطلع حياته، حيث درَّس في مدرسة وقاية الأبناء التَّابعة للجمعيَّة الغرَّاء، لكن لم يطل تدريسه، إذْ رغب في التحصيل والاستزادة قبل التصدي للتعليم، ولعلَّ فترة تعليمه في معهد التَّوجيه الإسلامي هي الفترة الأطول والأهم في حياته التعليميّة، و قد كان الشيخ صادق رحمه الله مديراً له، وبقي كذلك حتى إغلاقه سنة 1967م.

وقد كان الشيخ مع قيامه بالإدارة يدرِّس في المعهد مواد مختلفة. وقد كان _رحمه الله_ يتولى تدريس المواد التي يهرب منها بعض المعلمين لجفافها أو صعوبتها، من ذلك المنطق حيث كان يتولى تدريسه غالباً، والصَّرفُ، كما كان يدرِّس المواد الكونيَّة عند غياب أساتذتها الأصليين. و هذا مما شهد بِهِ للشيخِ جميعُ إخوانِهِ و طلابِهِ.

وقد درس على يديه في هذا المعهد _رحمه الله_ طلبته على اختلاف جنسياتهم ، من الشام، والأردن، وتركيا، وأثيوبيا، وغيرها من البلاد الإسلامية.

ومن مشاهير العلماء من سوريا الذين درسوا فيه : فضيلة أستاذنا الأستاذ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي،العلامة المعروف.

وفضيلة أستاذنا الأستاذ الدكتور مصطفى البغا، وغيرهم كثير.

وإلى جانب تدريسِهِ في مدرسة وقاية الأبناء، وفي معهد التوجيه الإسلامي، درَّس

ـ رحمه الله ـ مادةَ التفسير في الكلِّيَّة الشرعيَّة ـ التي غدت فيما بعد كلية الشريعة التابعة لجامعة دمشق _ بتكليف من أخيه الشيخ حسن _رحمهما الله تعالى_ .

ومن أعيان الطلبة الذين درسوا بين يديه فيها فضيلةُ أستاذنا الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي، العلامة الفقيه المعروف، صاحب الموسوعات الفقهية والأصولية والتفسيرية.

هذا هو الجانب الأول من جانبي تعليمه _رحمه الله تعالى_ .

أمَّا الجانب الثاني فهو التعليم العام: أي الذي كان يجري في بيته أو في بيت أخيه أو في المسجد، ويُمْكِنُ أن يُجعل على قسمين أيضاً:

_قسم لطلاب العلم حيث كانت دروسه الخاصة في بيته، وفي غرفته، في المسجد.

_وقسم للعامة وقد كان قديماً يحرص على دروس الوعظ والتوجيه في بيت أخيه الشّيخ حسن، حيث كان يدرِّس صفة الصفوة لابن الجوزي _رحمه الله_ ، وفي جامع منجك حيث كان يدرِّس الجامع الصَّغير للسيوطي _رحمه الله_ .

ثم رأى بعد شفائه من مرضٍ منعه التدريس حيناً من الزمن أن يغلّب دروس العلم والفقه النّظامية، فغدا برنامجه الأسبوعيُّ حافلاً بدروس طلبة العلم.

الدروس الخاصة:

أما الدُّروس الخاصة في بيته فقد كان له درسين خاصّين للطبقة الثانية من طلَّابه، وهم الذين كانوا طلَّاباً شباباً عند أخيه وشيخه الشّيخ حسن حبنّكة الميداني، منهم : الشيخ قاسم النوري، والشيخ عبد الحليم أبو شعر، والشيخ رشدي قلم، والشّيخ عمر السَّوَّاح، والشّيخ رياض خطَّاب، والشّيخ ضياء خطَّاب ولدا العلّامة المرحوم شيخ القرَّاء الشّيخ حسين خطَّاب _رحمه الله تعالى_.

ومن الكتب التي كان يقرؤها في هذين الدرسين : كتاب المنهاج للإمام النووي، و شرح الأشموني على ألفية ابن مالك في النَّحو. وقد نقل هذا الدرس رحمه الله إلى غرفته في المسجد ثم رجع به إلى البيتِ آخِرَ حياتِهِ.

كما أعرف دروساً صباحيَّةً يوميَّة كانت لطلَّاب علم عربٍ وأعاجم.

وأدركت دروساً نهاريَّة كان يقرؤها الدكتور راتب النابلسي الداعية الإسلامي المشهور مع بعض إخوانه.

ودروساً مسائية بعد العشاء، حضرت منها درساً في النحو بعد عشاء الثلاثاء معَ نجل الشيخ فضيلة الشيخ أنس، قرأنا فيهِ على مدى أكثر من خمسة عشر عاماً عدداً من كتب النحو، بدءاً من كتاب منهج القطر لتوفيق الجرجاوي، وهو كتابٌ كان يُحِبُّهُ رحمه الله، فيه خلاصة من كتاب " قطر الندى وبلِّ الصدى " لابن هشام مع إضافاتٍ من بعض الشروح والحواشي.

ومروراً بسلسلة ابن هشام : شرح قطر الندى _ شرح شذور الذهب_ أوضح المسالك ، بالإضافةِ إلى شرحِ ابْنِ عقيل.

وانتِهاءً بِما كُنَّا قرأنا آخِرَ حياته ـ رحمه الله ـ لِمراجعةِ القواعِدِ النَّحْويَّة، حيث قرأنا كتاب محمد الهاشمي : ( القواعد الأساسية ) وأنهينا قراءته يوم الثلاثاء 3 / 7 / 2007 م، وكنْتُ سألته أن نبدأ بكتاب جديد فأجَّل الأمر لأول مرَّة على غيرِ عادتِهِ، وقال لي : لقد اقتربَ رمضان وبعدَهُ العيد، لعلَّ الله ييسر لنا بعد ذلك أمراً.

ومِنْ دروسِهِ بعد العشاء درس المسجد، الأحد والأربعاء كان يقرأ فيهما الشيخ محمد شقير، وولده الشيخ أنس مع بعض الإخوانِ كتباً في التفسير والفقه.

الدروس العامة:

أمَّا الدُّروس العامَّة في المسجد ، فقد كانت أيام السبت والاثنين والخميس بعد العشاء ، وبعد طلوع شمس يوم الجمعة. ودرسُ الجمعةِ هذا توقّف آخرَ حياة الشيخ، وكان في الأصل درسَ أخيه الشيخ حسن حبنكة في بيته، وقد بقي الدرس في بيت الشيخ حسن سنواتٍ عدَّة أتمَّ فيها الشَّيخ كتاب صفة الصفوة لابن الجوزي رحمه الله .

أما درسا السبت والخميس فأصلهما درسٌ كان يقرأ فيه شقيقي الأستاذ أنور _ مدير الثانوية الشرعية للبنين بدمشق _ مع بعض أصحابه كتاب عمدة السالك لابن النقيب في الفقه الشافعي، وقد كنت أحضره باذلاً جهدي في ألا أغيب، وذلك في أواخِرِ الثَّمانينيَّات من القرن الماضي.

ثم انتقل الدرس إلى غرفة الشيخ في المسجد حيث صار يرتاده عدد من طلاب العلم انتقل بعدها إلى صحن المسجد بعد أن اختار الشيخ كتاب كفاية الأخيار للحصني ليكون الكتاب الّذي يدرّسه يوم الخميس بعد العشاء، ويوم السبت يقرأ في المعاملات من الكتاب نفسه ، ثم انتقل إلى فتح المعين للمليباري، وبعدها انتقل إلى كتابِ تُحْفةِ الطُّلابِ، ثم إلى كتاب الإقناع في شرح متن أبي شجاع للخطيب الشّربيني ، واستمر الدرسان إلى أواخر حياة الشيخ رحمه الله.

سمات أسلوبه في التدريس:

ومن سمات أسلوبه ـ رحمه الله ـ في التدريس : التَّبسيط بمعنى تقريب المعنى بكثرة الشَّرح والبيان، فقد كان يقرأ الجملة ويشرحها ثم يعيد قراءتها ثمَّ يعلِّق عليها حتَّى إنه في بعض الدروس لا يكاد يتجاوز الأسطر القليلة في الشرح ، خاصة إذا كانت مسألةً فقهية عويصة أو عبارةً تحتاج إلى حلٍّ وتفصيلٍ.

وهذا يقودنا إلى سمة أخرى من سمات منهجه رحمه الله وهو الحرص على عبارة الكتاب وشرحها وتفصيلها على نحوٍ يدرِّب الطَّالب على فهم العبارات وحلِّ مشكلاتها وتوضيح غامضها ومعرفة تطبيقاتها ، إذ كان همه الأكبر رحمه الله إفهام دلالات عبارات كتب القدماء، وحل معضلاتها وفك ما يصعب من سبكها وبيانها، وكان الشيخ مشهوراً بفهم العبارات وإفهامها.

ومن أسس تعامله _رحمه الله_ مع عبارات القدماء والمعاصرة،ومحاولة فهمها دون تغيير في سياقها أو اجتهاد في تعديلها، وكان يبذل جهداً كبيراً في توجيه العبارات المشكلة ولا يكاد يحمَّل خطأ الكتَّاب أو سهو الورَّاقين مسؤولية عدم فهم العبارة، ولا يعني هذا أنَّ العبارة صنم مقدَّس، بل كان ينبِّه على احتمال خطأ العبارة من جهة النسخ أو الطباعة حيث لا يجد لها توجيهاً، لكنَّ هذا الاحتمال كان احتمالاً أخيراً حتى لا يكون شمَّاعة يعلِّق عليها الدارس أخطاءه في الفهم وضعفه في التحليل، خاصة إذا كان الكتاب مطبوعاً بمطبعة قديمة محترمة كمطبعة بولاق مثلاً التي كان يثق بها ثقة لا تهتز.

ولا شكَّ أنَّ الحديث عن عبارات القدماء يسوقنا لمَعْلَمٍ آخر من معالم منهجه رحمه الله في التعليم، وهو الحرص على تعليم الكتب القديمة، وبذل الجهد في إفهام عباراتها، وهو يرى أن الكتب المعاصرة ما هي إلا تكرار للقديم إن أحسن المؤلف فهمه، فَلِمَ نعود إلى الساقية، والنبعُ بين أيدينا.

وهذا لا يعني أنَّه لا يدرِّس الكتب الجديدة والمعاصرة، لكن كان يفضِّل كتب القدماء، ويقدَّمها على كلِّ جديد، دون تقديس وتحجُّرٍ كما هو منهج بعض العلماء التقليديين، ودون ازدراء أو استخفاف، كما هو طريقة بعض المعاصرين.

صفات الشّيخ الخَلْقِيَّة والنَّفسية:

كان الشيخ رحمه الله ربعة إلى القصر أقرب، حنطيَّ اللون، جميل الطَّلْعَة، واسع الجبهة، متوسط الجسم، لا هو بالنّحيف، ولا هو بالمُمْتلِئ، معتدل القامة، يتميَّز بلحية لم أر لها نظيراً، فهي مهذّبة مشذّبة، طويلة دون القبضة، متوازنة من الطرفين، عريضة من الجانبين، ضيّقة من الأسفل.

وهذا المظهر العام للشيخ كان يولِّد هيبة يشعر بها كل من يلقاه دون أن يخالطه، من رآه بديهة هابه ومن خالطه معرفةً أحبَّه.

وكان يزيد من أثر هذا التوازن في مظهره الخارجي لباسه وعِمَّتُهُ، فقد كان يحرص على مظهر لباسٍ ثابتٍ في الصيف والشتاء، في الصباح والمساء، في المسجد والمنزل، وكان يحرص على هذا المظهر الثابت في اللباس في أي مجلس غير مجلس أهله، مهما صغر أمر المجتمعين.

يتألف هذا اللباس من قميص سابغ ( كلابيَّة )، فوقها قميص مفتوح ( قمباز ) يجمعه بزنَّار، فوقه جبّة تحكي جسمه، لا ضيِّقة ولا واسعة، مع عمَّةٍ حمراء عليها شاش أبيض سميك، كأنما يصنعها في آلة دقيقة لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا. وقد كانت هذه العمامة مع لحيته تشكل ميزة يظهر فيها الشيخ بوقار وهيبة، يساعده عليهما حقيقته النفسية وهدوء تصرّفاته، ودراسة حركاته، وقلَّة تلفُّته رحمه الله تعالى.

هذه هي السِّمات العامَّة لمظهره الخارجيّ، وهي سمات غير خدَّاعة ؛ لأنها تدل على مخبره وحقيقته النفسيَّة المتميِّزة، إذ كان هادئاً بطبيعته، سريع البديهة، قليل الكلام، يحبُّ أن يسمع أكثر ممَّا يتكلَّم، ويُعطي كُلَّهُ للمتحدِّث، وينتقل إليه بجسمه لا بوجهه فقط، وكان يكثر من ترداد قول الشاعر :

ما أن ندمت على سكوتي مرَّة ولقد ندمت على الكلام مراراً

وكان يتكلَّم بالكلام الفصل، ويترك التَّفصيل في الجزئيات ما لم يكن لذلك ضرورة أو حاجَّةٌ ماسَّة. يغلبُ عليه التَّبسُّم، لكن ما رأيته يضحك بملء فيه قط.

وكان إلى جانب ذلك حاضر البديهة، حاد الذكاء، يحمل قلباً عطوفاً، كثير التَّفكُّر، واسع التَّأمُّل، ذاكراً للموت والمصير دائماً، فكأنَّهُ بقيَّة السَّلف الصَّالح وما يُذكر من سماتهم المظهريَّة والنَّفسيَّة. رحمه الله وتغمَّده بواسع رحمته .

ومع جمال المظهر والمخبر، كان الشّيخ قويَّ البُنية، ذا عزمٍ يُشبه عزم الأبطال القدماء، وهمَّةٍ تُحاكي هِمَمَهُم، قليل التَّعرُّق مهما بذل من جُهدٍ، كثير العمل مهما أحسَّ بالتَّعب، يكره الجلوس في غير عمل، ويكثر القراءة عند الفراغ إن لم يكن في عملٍ بدنيّ.

تواضع الشيخ:

ولعلَّ من أبرز الأخلاق التي كان يمتاز بها الشيخ تواضعه الشَّديد، ورميه لحظِّ نفسه حيث يُلقى ما لا يُهتمُّ به، وكان يحُضُّ طُلَّاب العلم على هذا الخُلُق المهِمِ ويكرِّر ( آفة الظرف الصَّلَف ).

وكان يقول: طالب العلم كغصن الشجر،إّذا ازداد حمْلاً ازداد انحناءاً، ويردِّدُ قولَ الشَّاعِرِ:

تواضعْ تكن كالنَّجم لاحَ لناظِرٍ على صفحات الماءِ وهو رفيعُ

ولا تكُ كالدّخان يعلو بنفسِهِ إلى طبقات الجوِّ وهو وضيعُ

علاقاته الاجتماعية مع الناس:

علاقته معَ العُلَماءِ:

كان رحمه الله على علاقةٍ طيِّبَةٍ بجميعِ علماءِ بلادِ الشام المُعتبرين، كانت له علاقاتٌ مميَّزةٌ مع العلماءِ وطلابِ العِلْمِ مِنْ مختلَفِ المشارِبِ، دون تعصُّبٍ أو انحيازٍ لفئةٍ دونَ فئة، اللهم إلا أن يكون الحقُّ، وكان رحمه الله يُسارِعُ إلى لمِّ الشمل كلَّما شعر بصدع في علاقات أهل العلم، ويتودَّدُ للجميع، وكان أهلُ العلم يقصدونه في كثيرٍ من حوائجهم.

وأذكر أسماء بعضِ العلماء الذين كان له معهم علاقة خاصَّة، وأبدأ بإخوانِهِ، فقد كان بينه وبين الشيخ حسين خطَّاب – شيخ قرَّاء الشام – محبَّةٌ كبيرةٌ جِدَّاً، وكان الشيخ رحمه الله كثيراً ما يُحدِّثُني عن عمق العلاقة الخاصَّةِ بينهما، وكان يقول عنه : " لم أرَ مثله في حياتي أبداً ". وقد كان الشيخ حسين يُبادِله الحبَّ والاحترام ، وكان يُقدِّمه على جميع إخوانِهِ ، بل كان لا يتقدم عليه في مسير أو مركب البتة .

أمَّا العلماء الذين كان له معهم علاقة متميزة من خارج مدرسته العلميَّة ، فمنهم ـ على سبيل التمثيل أيضاً ـ : الشيخ أبو الفرج الخطيب الحسني، وقد حدثني رحمه الله عن خصوصيَّة هذه العلاقة القديمة معه، وكان يمتدحه ويثني على منهجه المحافظ ، ومن هؤلاء الشيخُ عبد الرحمن الشاغوري _ رحمه الله تعالى _ و هو من أعيان التصوف الكبار المعاصرين في سوريا، وكان للشيخ عبد الرحمن قديماً جلسات خاصة يتذاكر فيها مع الشيخ صادق الإنشادَ وعلم الأنغام مع بعض المنشدين القدماء .

ومنهم أيضاً : طلاب الشيخ عبد الكريم الرفاعي _رحمه الله تعالى_، وطلابُ الشيخِ صالح الفرفور، وعلى رأسهم : الشيخُ عبد الرزَّاق الحلبي، والشيخ أديب الكلاس، ثم أولاد الشيخ صالح، وجميعُهم يُجِلُّون الشيخ، وكان الشيخ – رحمه الله - يواصلُهم ويشاركهم في مناسباتِهم المختلفة .

علاقته مع العامة:

أمَّا تعامله مع العامَّة : فقد كانت تحكمه أخلاقُ الإسلام، فقد كان يتأسَّى برسول الله r في سلوكه مع العامَّة سواء من الخواصِّ أم من العوامّ، يصبر ويتحمَّل، ويبذل ويعطي، ولا ينتظر جزاءً من أحد.

ولقد شهدت له مواقف كثيرة على سموّه في التعامل، وترفُّعِهِ عن الصغائر، ممَّا لا أكاد أحصي عدده، وكان يكرِّر:

ليس الغبيّ بِسيِّدٍ في قومِهِِ لكنَّ سيِّد قومِهِ المتغابي

وكان يتمثَّل ذلك في جميع تصرُّفاته، خاصَّة في الإصلاح بين الناس، إذ كان ذلك همُّه الأبرز، وكان لا يتوانى عن بذل الجهد في الإصلاح، ويتحمَّل بسبب ذلك الكثير، إذ كثيراً ما يتبرَّم طرفٌ ويرضى طرف، والشّيخ يقاسي ويصبر، ولا يعتذر عن مسعى للإصلاح حتَّى ولو كان مريضاً .

وكان إلى جانب ذلك يلبِّي جميع من دعاه ما استطاع لذلك سبيلاً، يشارك النَّاس في أفراحهم وأحزانهم، يعزّي بالوفاة، ويشارك في حفلات العقود، ويلبِّي الدَّعوة إلى الولائم خاصة إذا كانت من فقير أو ذي حالة متوسطة، جبراً لخاطره ، وكنت ألحظ منه المسارعة في الذّهاب إلى دعوات الطَّبقة المتوسطة من النَّاس والإبطاء في الاستجابة لدعوات الأغنياء، ويذهب غالباً كارهاً غير مطمئن، وكنت ألحظ تعفُّفه عن الاستزادة من الطَّعام، إذ كان أقلَّ النَّاس طعاماً على موائد الأغنياء، يأكل الكفاية دون تعمُّدٍ لإقلالٍ أو إكثار، لكنَّه _رحمه الله_ بطبيعته كان يأكل الكفاف.

وكان قويَّاً على نفسه، فكانت لا تغلبه شهوته، ولا يشدُّه طعامٌ مهما كان لذيذاً أو نادراً. وكان قادراً على كبح لجام نفسه أمام الشَّهوات والمستلذَّات، وهذا طرف من قوته وشجاعته ورباطة جأشه _رحمه الله_، لأنّ من ملك نفسه عند الشَّهوة، ملكها عند الرَّهبة كما كان يقول _رحمه الله تعالى_.

غير أنَّه _ رغم استجابته لدعوات النَّاس ومشاركاته لأفراحهم وأتراحهم _ كان لا يحضر غالباً مناسبات الزَّفاف، أي ما يسمَّى عندنا بـ " التَّلبيسة " وذلك لأسباب من أهمِّها انتشار التَّصوير في هذه المناسبات، وكونها زيادة على حفلات الزَّواج المتمثِّلة أساساً بالعقود أو ما يدعى عندنا ( حفلةَ الكِتاب ) فكان يلبِّي هذه الحفلات دون تلك ، حتّى إنَّه امتنع عن حضورِ حفلاتِ زِفافِ جميعِ أولاده، مع أنَّها كانت بسيطةً و متواضِعةً و خاصَّة، وقال : ( لا أترك الناس يقولون يحضر زفاف أولادِهِ ، ولا يحضر زفاف أولادنا ). على أنَّه _رحمه الله_ كان يُكرم طلَّاب العلم المقرَّبين بجبْرِ خواطِرِهِم ، وكان حضَرَ حفْلَ زفافي ، وزفاف أخي أيضاً ، وهذا من فرْطِ تواضعِهِ _رحمه الله تعالى_ .

ومن منطلق حرصه _رحمه الله_ على مصالح النَّاس ، قام من خلال جمعيَّته الّتي يترأسها بأعمال خيريّةٍ كثيرةٍ منها ما قدَّمت الحديث عنه من بناء مستوصف لغسيل الكلى، وقد سُرَّ رحمه الله كثيراً عند إنشائه، هذا إلى جانب مساعدته للمرضى بحديثه إلى القائمين على صندوق العافية بمعاونتهم بالمال والدواء إذا كانوا فقراء محتاجين، وكان -رحمه الله- يحثُّ التُّجار كثيراً على الجود في سبيل دعم هذا الصّندوق، لما رأى من خدماته الاجتماعيّة لا سيما في دعم ذوي الدَّخل المحدود عند الحاجة إلى العمليَّات الجراحيَّة.

لمتابعة المقال تفضل بتحميل الملف

تحميل