التنكر لمعاني الهجرة وعظاتها
تاريخ الخطبة الجمعة، 05 محرم، 1430 الموافق 02/01/2009
الحمد لله ثم الحمد لله الحمد لله حمداً يوافي نعمه ويكافئُ مَزيده، يا ربنا لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهك ولعظيم سلطانك، سبحانك اللّهم لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسِك، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدهُ لا شريك له وأشهدُ أنّ سيّدنا ونبينا محمداً عبدُه ورسولُه وصفيّه وخليله خيرُ نبيٍ أرسلَه، أرسله اللهُ إلى العالم كلِّه بشيراً ونذيراً، اللّهم صلِّ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمد صلاةً وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين، وأوصيكم أيها المسلمون ونفسي المذنبة بتقوى الله تعالى.
أمّا بعدُ فيا عباد الله ..
كنا نتوقع أن يستقبل عالمنا الإسلامي فاتحةَ العام الهجري بتجديد البيعة لله سبحانه وتعالى وبمزيد من الالتزام بعظات الهجرة ودروسها التي تركها لنا رسول الله r من ورائه ولكنا ويا للأسف فوجئنا بنقيض ذلك، فوجئنا بما قد رأيناه من أن معظم قادة العالم العربي والإسلامي متنكرون لمعاني الهجرى وعظاتها، معرضون عنها مستخفون بها.
أوصانا رسول الله r من خلال هجرته من مكة إلى المدينة بأن نضحي بالدنيا كلها، بمظاهر الرئاسة فيها وكل أنواع المشتهيات والأهواء التي تتألق فيها في سبيل القيم الإنسانية والمبادئ التي شرفنا الله سبحانه وتعالى بها. وننظر وإذا بجل هؤلاء القادة يسيرون على النقيض من وصية رسول الله r، يضحون بالمبادئ الإنسانية والقيم السامية الراسخة في سبيل المشتهيات والأهواء وفي سبيل استبقاء الكراسي والعروش. أوصى رسول الله r مَنْ بعده من خلال هجرته من مكة إلى المدينة ومن خلال إعلانه الأخوة الإسلامية وترسيخه لجذورها في أول دولة إسلامية أقامها رسول الله r أوصى بأن نكون أمناء على هذه الأخوة وأن نؤدي حقوقها، وننظر وإذ بجل قادة عالمنا العربي والإسلامي يتنكرون لهذه الأخوة ويتنكرون لوصية رسول الله r ويضحون بأخوة الإسلام في سبيل ترسيخ الكراسي وفي سبيل مزيد من نسج الشهوات والأهواء والأموال، أما قول الله عز وجل: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) فقد أصبح أمراً منسياً يُتْلَى ويُعمَلُ بنقيضه، يُسمَع ويُستَخَفُّ بشأنه.
عباد الله إن هذا القتل الذي يستحر اليوم بالأطفال والنساء والشيوخ وكل البرآء، هذا القتل الذي تحول إلى معين لدم لا يجف، ليس مصدره بقعة معينة، ليس المعني به أهالي غزة وإنما المعني بهذا القتل الذي يستحر العالم الإسلامي كله وإنما أهل غزة هو الرمز الأقدس لهذا العالم الإسلامي ولهذا الهدف المرسوم الذي لم يعد خفياً على أحد.
وإن المساجد التي هُدِّمَتْ فيها والمصاحف التي مُزِّقَتْ على أرضها ليس المعني بها بقعة معينة وإنما المعني بها القضاء على الإسلام كله حيثما وُجِد وأينما انتشرت شمسه وإلى أي جهة وصلة أشعته، وإنما غزة وأهل غزة هو الرمز الأقدس لهذا الهدف المرسوم يا عباد الله. وإن قوى الشر التي تتربص بالأبرياء وتفعل فعلها الذي تذوب له أفئدة الوحوش في أدغالها، هذه القوى ليست متمثلة في شرذمة من الناس أبداً وإنما هي حصيلة الفئات العالمية كلها تلك التي اجتمعت على عداوة الإسلام وتلك التي تضافرت جهودها بدافعٍ من الأحقاد والضغائن للقضاء على هذه الشمس الساطعة التي انتشرت أشعتها في آفاق الدنيا، وما إسرائيل وذيولها من الأتباع الخونة إذا الرمز الأقذر لهذه القوى التي تفعل فعلها اليوم.
هما رمزان اثنان؛ غزة الرمز الأقدس للعالم الإسلامي الذي يُراد القضاء عليه، الرمز الأقدس للإسلام الذي يُراد إطفاء نوره، أما الرمز الأقذر فهو إسرائيل وذيولها من الخونة، إسرائيل هذه رمز لقوى الشر المتضافرة في الجهات الأربع للعالم والتي قررت قرارها وأجمعت على أن تقضي على هذا الإسلام أينما وجد وأن تقضي على خطره وأن تتخلص من الاضطراب الذي تعاني منه من جراء خطر انتشار الإسلام هنا وهناك.
عباد الله في الوقت الذي أشرقت شمس عامٍ هجري جديد والأمة الإسلامية تعيش ذكرى هجرة رسول الله r وتعيش ذكرى أول دولة إسلامية مسالمة أقامها رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، في فاتحة هذا العام وأمتنا الإسلامية تعيش ذكريات هجرة المصطفى r ننظر فماذا نرى؟ نرى أقنعة الإسلام الزائفة وهي تتساقط من وجوه أولئك الذين كانوا، وربما لا يزالون، يتظاهرون بالإسلام، اليوم تتساقط هذه الأقنعة، اليوم أمام هذا الامتحان الرباني، امتحان الدعوة إلى الانتصار للإسلام، إلى الانتصار للقيم، إلى الانتصار للسلم الذي دعا إليه ربنا من خلال بعثة كل الرسل والأنبياء والإسلام يدعوا إلى الانتصار للإخوة المظلومين الذين يُقَتَّلون وتُسْفَكُ دماؤهم صباح مساء، ننظر وإذا بهم ينحازون إلى صفوف العدو الأرعن، ننظر وإذا بأقنعة الإسلام التي كم وكم وكم خُدِعْنَا بها تتساقط من وجوههم، ولكأنهم يقولون إن بلسان القول أو بلسان الحال لمن يدعوهم إلى أن يحققوا العهد الذي أُقيم في أعناقهم لكأنهم يقولون ومن قال لكم إننا نمثل هذه الأمة التي نتربع على كرسي فوق صدرها، إننا نمثل قوى الشر، إننا نمثل إسرائيل التي هي الرمز الأقذر والأنجس لقوى الشر في العالم كله.
هذه المحنة يا عباد الله لها ظاهر وباطن، لها مظهر جلي ولها باطن خفي، أما الظاهر الجلي فمأساة تتقطع لها القلوب، محنة ما أظن أن تاريخنا الإسلامي بحلوه ومره سجل مثل هذه الظاهرة، الخيانات الكثيرة التي مرت في العالم الإسلامي إن في ربوع غربنا الإسلامي أو في ربوع شرقنا هذا كثيرة ولكنها ما بلغت هذا المبلغ قط، هذا هو الظاهر محنة وبلاء أما الباطن فإنما هو منحة من منح الله عز وجل ليستبين الصادق من الكاذب ولكي تتمزق أقنعة النفاق يا عباد الله.
أما غزة وأهاليها فلا أستطيع أن أرسل إليهم من فوق هذا المكان إلا عزاءً واحداً يتمثل في آيتين في كتاب الله عز وجل أرجو أن يبلغ كل منهما آذان هؤلاء الإخوة الصامدين الصابرين، أما الأولى فقول الله عز وجل: (إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين)، وأما الآية الثانية فهي قول الله عز وجل ولكأنما أنزلت في هذا العصر خطاباً لهؤلاء الإخوة تبريداً للظى قلوبهم: (إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته على رسوله وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم) لاحظوا أيها الإخوة فرق ما بين هاتين الجملتين لتدركوا المدى البعيد من معنى كل منهما (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) لم يقل وكلمة الله العليا، لم يسلط عليها الجعل الزماني الخاص بوقت معين وإنما جعلها جملة مستأنفة (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا) في كل عهد وفي كل وقت علم ذلك من علم وجهله من جهل.
أما قادة العالم العربي والإسلامي فأقول لهم، ولست أنا القائل ولكنه الإسلام، ولكنه إنذار الله عز وجل أو تبشيره، ولكل أن يسلك أحد السبيلين أقول لهؤلاء: عمر الزمن قصير فما بلك بعمر الإنسان، ولعل الواحد منهم يكمن موته خلف أذنه، ولعله سيصبح غداً ولن يمسي، ترى ما هي الكنوز التي سيرحل بها إلى الله؟ أين سيحمل كرسيه عندما يرحل إلى الله عز وجل من خلال القبر الذي سيتمدد فيه ثم من خلال الموقف الذي يقف بين يدي مولانا رب العالمين فيه، من ذا الذي يظن منهم أنه سيقف أمام الله جالساً على عرشه متربعاً على كرسيه، لن ترحل إلى الله إلا عارياً من ذلك كله كما قال الله سبحانه وتعالى، لن ترحل إلى الله عز وجل إلا فقيراً من ذلك كله، ويحك تدارك الساعات الباقية من عمرك قبل أن ترحل إلى الله وتجتر الشقاء الذي لا نهاية له، إخوانك الذين يلتجئون إليك ويستنصرون الله عز وجل عن طريقك ينبغي أن تعلم أن النصر إنما هو من عند الله ولكنه ابتلاء يبتلي الله عباده بعباده من أجل أن يثيب هؤلاء بهؤلاء أو أن يعذب هؤلاء بجريمتهم في حق هؤلاء.
يا عجباً لحال إنسان أغمض عينية عن الحقيقة الساطعة، خذ المال ولكن لا تعبده، اجلس على الكرسي الذي أقامك الله فيه ولكن لا تعبد كرسيك صباح مساء، أنت راحل عن هذه الدنيا (إن كل من في السموات والأرض إلا أتي الرحمن عبداً، لقد أحصاهم وعدهم عداً وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً)، سترحل إلى الله بشيء واحد، بعملك الصالح، بخدمتك لإخوانك، بتحقيقك وتنفيذك لمولاك إذ يقول: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم) ”أصلحوا“ يا عجباً لمن يسمع كلام الله ويصك أذنيه ثم يأبى إلا أن يفسد ما بينه وبين أخويه، يستصرخه إخوانه في الله أن يفتحوا السبل أمامهم، أمام مرضاهم، أمام جرحاهم، أمام المحتاجين منهم، ليصافح الأخ أخاه، ليعانق الأخ أخاه، ليعين الأخ أخاه فلا يستجيب هؤلاء القادة إلا بإغلاق الأذن وبإغلاق السبل أما إسرائيل فتأمر لتطاع، تحكم ليُنْغَضَ لها الرأس بذل.
هذه المحنة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل منها عبرة وأسأله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لأن نقطف منها العبرة. أما شامنا هذه فأسأل الله سبحانه وتعالى لها مزيداً من الصبر، أسأل الله سبحانه وتعالى لها مزيداً من التوفيق، أن تمد ما أمكن أن تمده من جسور التعاون، من جسور النصر، من جسور الأخوة التي أمرنا الله عز وجل بها وأسأل الله عز وجل أن يجعل دوافعنا جميعاً بلوغ مرضاة الله، استنـزال رضى الله سبحانه وتعالى، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم فاستغفروه يغفر لكم.
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر وأشهد أن لا إله إلا الله إقراراً بربوبيته وإرغاماً لمن جحد به وكفر وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله، خير نبي أرسله، أرسله الله إلى العالم كله بشيراً ونذيراً. عباد الله اتقوا الله فيما أمر وانتهوا عما نهى عنه وزجر وأخرجوا حب الدنيا من قلوبكم فإنه إذا استولى أسر. أيها الإخوة ما أظن إلا أن قلوبكم قد فاضت بالمشاعر الحارة المؤلمة، وما أظن إلا أنها تنتظر أن تعبروا عنها بما يثلج صدروكم وبما يخفف لظى هذه الحرقة في أفئدتكم. لقد أصغيتم إلى الكلمات التي قلتُهَا وآن الآن أن تعبروا أنتم عن مشاعركم المهتاجة التي إن دلت على شيء فإنما تدل على مزيد من الإيمان بالله ومن التعلق بمعنى الأخوة في سبيل الله. بعد أن ننتهي من صلاة الجمعة بوسعكم أن تجتمعوا في صحن هذا المسجد لترفعوا أصواتكم معبرين عن مشاعركم ولتطلقوا زفراتكم ترفعونها إلى عنان السماء، تبعثونها أدعية ضارعة إلى الله عز وجل أن يستجيب، زفرات بوسعكم أن ترفعوها وأن تنشروها في الآفاق لعلها تبلغ آذان القادة الراقدين ربما أيقظتهم زفرة من هذه الزفرات وربما نبهتهم قبل حلول الممات، ربما. اخرجوا بعد صلاة الجمعة إلى ساحة هذا المسجد لتعلنوها صرخةً في صَرَخَات، معنىً في معانٍ، أخوة واحدة تعبرون بها وتعلمونها الذين دأبهم أن يتشرذموا وأن يتفرقوا، وأسأل الله عز وجل أن يجعل منا من يدعو فيستجاب لدعائه. وشيء آخر أريد أن أقوله لكم، هي سنة ماضية علَّمَنَا إياها رسول الله r في مثل هذه الحال وفي مثل هذا الكرب الخانق أن ندعوَ بدعاء النازلة عند الاعتدال في الركعة الأخيرة من الصلاة أي عند الاعتدال من الركعة الثانية من صلاة الجمعة الآن هو دعاء النازلة نستجيب فيها لأمر الله سبحانه وتعالى، وكلكم يؤمن ولاشك أن فيكم من سيستجيب الله عز وجل دعاءه.