الشيخ محمد ياسر القضماني
السلاسل: من كلام الأعلام
شرف العلم
قال يحيى بن أكثم - رحمه الله - :
قال لي الرشيد: ما أنبلُ المراتب ؟ قلت: ما أنتَ فيه يا أمير المؤمنين ؟ قال: أفتعرف من أجلُّ مني؟ قلت: لا، قال: لكني أعرفه، رجُلٌ في حَلَقة، يقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله ﷺ، قال قلت يا أمير المؤمنين هذا خير منك، وأنت ابنُ عمِّ رسول الله ﷺ ووليُّ عهد المسلمين وأمير المؤمنين ! قال: نعم، ويلك، هذا خير مني لأنه لا يموت أبداً ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقونَ ما بقي الدهرُ.[1]
****
إي والله لا أنفع للمرء في هذه الدنيا من علم نافع !
بالعلم عزُّ الدنيا، وكرامة الآخرة.
بالعلم النافع السلامة من المعاطب، والترقِّي في المراتب.
بالعلم النافع الهداية من العماية، والتبصر من الغواية.
بالعلم النافع تتبصَّر المسالك، وتتجنب المهالك.
بالعلم النافع تنتقي الرفيق، وتُرْشَدُ للطريق.
أرأيت! ما أروع هذا الدرس من الخليفة هارون الرشيد - رحمه الله -!
وهل هناك أبلغ في لَفْت النظر وإرشاد أهل الفِكَر والعبَر من هذا الكلام، ومِن مثل هذا المقام ؟!
خليفةٌ شهير، من له المنصب الخطير، والجاه الكبير، مِن أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وعلى آل بيته المطهرين من الأدناس والأرجاس - وفوق هذا الجاه العريض، الملك والصيت العريضين - يقول بأنه يعرف رجلاً أجلَّ منه!
ذُهل يحيى بن أكثم لهذا؛ إذ لا يخطر ببال أحدٍ أن يفضِّل على هذا أحداً، وهل فوق جاه النسب والسلطان جاه؟!
لكنّي أعرفه، رجلٌ في حَلَقة، يقول: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله ﷺ !
إي والله إنه الشَّرَف !
ولهذا من النَّشوة عند أهل المحبة لرسول الله ﷺ مالا يُقدر على وصفه، ولا يُفصح عن مكنون لطفه، أتدري شيئاً من معاني هذا التحديث ؟!
أنا أقول لكم !
لو كان في جملة من قَبَست عنهم العلم أستاذ كبير، أو شيخ قدير، أو عالم غرير شهير، قد طبَّقت سمعته البلدة، لاشك أنك ستنتشي بذلك أيما انتشاء، ويتعظم في ظل تلك السمعة، مالا يكون ذلك لو أخذتَ عن مغمورين، كيف لو كان أستاذك هذا أو شيخك، قد طبَّقت شهرته الإقليم من حولكم، فكيف لو كان مشهوراً في الدنيا، لا يخفى اسمه، ولا يُجهلُ قدره؛ ستعظم وتعظم هذه المنقبة لك، ولاشك حتى تكاد تطير من فرحك ولا تحملك الأرض بنيل شهادة منه أو إجازة خاصة ممهورة بخطِّه وقلمه !
تعال معي إلى هذا المحدِّث، كيف إذا كان في رأس سلسلة مَن علمه وأخبره وأرشده سيدُ الأولين والآخرين، ومعلم البشرية أجمعين، وهاديهم إلى الله رب العالمين ؟!
لعلك قد عرفت وانكشف لك عن سرِّ هذا الشرف، ومكنون هذا الفضل !
وينضاف إلى هذا معانٍ كثيرة منها: أنه يستشعر جلالة هذا الموكب؛ إذ يتخيل أن الرسالة ممتدة في ورثة النبوة، وكأنه متمثل هذه الوظيفة، وقائم في هذا المقام الرفيع.
ويا ما أحسن أن يجتمع التحديث مع الفقه والعمل على نور وبصيرة، يكون حينذاك الشرف الذي لا يدانيه شرف، والقدر الذي لا يعادله قدر !
ولئن تعزَّز الناس بأناس منقطعين، لقد وُصل هؤلاء بحبل لا ينقطع حتى يأذن الله تعالى باندثار هذا الكون، وحلِّ نظامه .
وهذا شيءٌ من الفِكَر التي كانت تجول بذهن الخليفة الصالح المجاهد كثير الحج هارون الرشيد - رحمة الله عليه -.
ولا شك أن من يقف على هذه الحادثة، وهذا الكَلِم المبارك، من أمير المؤمنين يربو في حسِّه قَدْرُ أهل الحديث بعامَّة، والعاملين المصلحين منهم بخاصّة.
ويلك، هذا خير مني لأنه لا يموت أبداً ونحن نموت ونفنى، والعلماء باقون ما بقي الدهر.
صدقت يا أمير المؤمنين: العلماء باقون ما بقي الدهر.
وصدق من قال في هذا المعنى :
لئن مات قوم بعدَ علم وطاعة | فذِكرهم في الناس ليس يموتُ |
لقد نطقت آثارهم بعد موتهم | بفضلهم ، والجاهلون سكوتُ |
وقال آخر :
الناس موتى وأهلُ العلم أحياء | والناس مرضى وهم فيهم أطباء |
والناس أرضٌ وأهل العلم فوقهمُ | سماءُ نور فما في النور ظلماء |
لا تركنّن إلى الجهال إنهمُ | وحقُّ ربي لأهل العلم أعداء |
[1] انظر ص ١٦٤ من كتاب: نشر طيِّ التعريف في فضل حملة العلم الشريف والردّ على ماقتهم السخيف للإمام العلامة جمال الدين محمد بن عبد الرحمن الحُبَيشي المتوفى ٧٨٢