الشيخ محمد ياسر القضماني
السلاسل: من كلام الأعلام
ما لهذا خُلقتَ
روي عن إبراهيم بن أدهم - رحمة الله عليه - أنه قال : لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لضاربونا عليه بالسيف.[1]
****
أرأيتم إلى حال الصالحين والزاهدين ؟!
إن كثيراً من الناس من ابتُلوا بعشق الدنيا، والتعلق بشهواتها، بل العبودية لها؛ بتعظيم أمرها فوق كل أمر، وتقديم شأنها فوق كل شأن - يظنون أن حياتهم هي الحياة، وأن المحروم بحقٍّ هو البعيدُ عن أحوالهم، البعيدُ عن لذَّاتهم وشهواتهم !
مساكين هؤلاء ما عرفوا السعادة الحقَّة !
من أين تأتي السعادة لمن يأوي إلى فراشه وهو مكدود الأعصاب، منهك الجسم إثر فُحْش انغمس فيه، أو انهمك، حتى ضجَّت منه السماء قبل الأرض ؟!
من أين يذوق السعادة والهناء رجلٌ - لا أقول أسرف على نفسه في تجاوز حدٍّ من الحدود، لا، لا، بل كان وهو يتمتع بما يتمتع به من صنوف الخيرات، وألوان الطيبات؛ ذاهل عن الرازق لها، شارد عن مُسْديها وواهبها؛ نعم، من أين يذوق طعم السعادة امرؤ يتمتع بالنعم، ولا يتعرَّف على المنعم ؟!
من هنا قال إبراهيم بن أدهم - رحمه الله - مقالته هذه !
أتريد أن أختصر لك سرَّ سعادة هؤلاء الصالحين ؟!
سِرُّ سعادة الصالحين وإكسير هنائهم أنهم عرفوا مليكهم ! وكما قالوا: من ذَاق عرفَ!
فالملوك ما ذاقوا لذة هذه المعرفة؛ لأنهم حُجبوا بالشهوات السُّفلية، واللذات الأرضية، وأنَّى لمن هذا شأنه أن يرقى لسمو سماء العارفين، وأن يرى مشاهد أهل القرب واليقين ؟!
ربما لم يكن في بيت الواحد من هؤلاء العارفين بربهم ، الزاهدين بدنيا الناس من المفتونين السَّادرين؛ ربما لم يكن في بيت واحدهم ما يعادل بضعة دنانير، ولكنه منطوٍ على غنى كبير كبير، لأنه موصول بالغني، مُتَلَذِّذٌ بتذوق فقره، فما استغنى عن الناس إلا بعد أن تحقق بفقره لله!
وأولئك أهلُ التعزُّز بمظاهر الدنيا، وبهجتها وزينتها الذين يحسبون أنهم خُلقوا من أجلها، وخُلقت من أجلهم فاستغنوا بها عن منحهم إياها ابتلاء لهم؛ سيبقون في فقر ما عاشوا؛ لأنهم شردوا عن هويتهم؛ وهم أنهم فقراء إليه لا يستغنون عنه بمال .
إذاً يحق لنا أن نقول بكل ثقة إن الملوك بحق ليسوا مَنْ تُوِّج بتيجان ترفع على رؤوس رُصِّعت بالجواهر واليواقيت، ورُدُّوا بحُلَلِ الحرير التي لا تقوم لها الألوف المؤلفة من كرائم الأموال، لا، لا !
الملوك بحق هم هؤلاء الذين عرفوا ربهم بعد أن تحققوا بمعرفة عبوديتهم، وذُلِّ فقرهم إليه جلَّ جلاله!
****
وكلما قرأتُ عن سبب توبة إبراهيم بن أدهم هذا الصالح تأثرت؛ فإنهم يذكرون أنه كان في غاية التنعم وقد كان في بلخ، وله عِزُّ الإمارة؛ فخرج يوماً إلى الصيد فنودي من قَرَبُوس سَرْجه: يا إبراهيم، ما لهذا خلقت، ولا بهذا أُمرت، فخرج عن ملكه وتزهد، وفرغ عن الدنيا بالكلية حتى أنه جلس يوماً يأكل كسرة فقال قولته المتقدمة: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لضاربونا عليه بالسيف.
***
مساكين هؤلاء الخَلْق لا يتضاربون، ولا يتقاتلون، ولا يتنازعون إلا على حطام الدنيا، وعلى الفانيات التي يتركونها عن قُرْب، ويخلفونها وراء ظهورهم!
ألهذا الفَنَاء تغذُّون سيركم ، وتتلفون أعماركم ؟!
زهدتم فيما ينبغي أن تحرصوا عليه، وحرصتم على ما ينبغي أن تجعلوه دَبْر آذانكم، وخلف ظهوركم!!
إنه انطماس البصيرة الأكبر!
*****
وانظروا لما عرف هؤلاء ربهم؛ كيف كان حالهم في الشدائد؟
فقد رووا أن إبراهيم بن أدهم هذا - رضي الله عنه - ركب البحر فغلب الريح، وهاجت الأمواج، فلفَّ رأسه ونام، فقيل له: هذا وقتُ شدة، فادع الله يكشفها عنا، فقال: اللهم إنك أريتنا قدرتك فأرنا عفوك ورحمتك، فصار البحر كأنه قَدَح، وسَكَن بقدرة الله تعالى.
إنها طمأنينة العبد الذي تحقق بعبوديته، إنها سكينة المسلم الذي هو قائم على معنى الاستسلام لقدر الله الذي لا يُغالب، المنطرح على بساط هذه المشيئة النافذة، وهل يقدر أحد أن يسكِّن شيئاً أراد الله تحريكه، أو يحرك شيئاً أراد الله تسكينه؟!
ألا ما أهنأ حياة مَنْ عرف الله ربَّه !!
[1] سلوة الأحزان لابن الجوزي ص 82