مميز
EN عربي
الشيخ محمد ياسر القضماني

الشيخ محمد ياسر القضماني

السلاسل: وقفات خالدات

الكاتب: الشيخ محمد ياسر القضماني
التاريخ: 28/05/2020

كل مصيبة بعدك جلل

مقالات مقالات في السيرة النبوية

عن سعد بن أبي وقّاص -رضي الله عنه- قال: مرَّ رسول الله ﷺ بامرأةٍ من بني دينار، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله ﷺ بأحُد فلما نُعوا لها قالت: فما فعل رسول الله ﷺ ؟ قالوا خيراً يا أم فلان هو بحمد الله كما  تحبّين؛ قالت أرونيه حتى أنظر إليه ؟! قال: فأشير لها إليه حتى إذا رأته قالت: كلُّ مصيبة بعدك جَلل! (تريد صغيره)[1]


لله درُّك أيتها المرأة الدّينارية!




من ذا الذي ثبّتك في موقف تطيش فيه الألباب، وتختلط لِهوله العقول!




امرأةٌ ينعى إليها أقرب الخلق إليها وأحبّهم وأكرمهم فتذهل عنهم لا لهوانهم عليها، ونأيهم عنها، لا؛ وإنما لأن هناك مَنْ فَضْله أكبر، وشأنه أشهر، وقدرُه أظهر، ونورُه أبهر، وعَرفه أعطر، إنه محمدٌ رسول الله!




بل ما فضّل أحد من الخلق بجوار فضله، وشأن أحدٍ بجانب شأنه؟




فهو الأحبُّ من كلّ حبيب، والأقربُ من كل قريب!




إنه موقفُ وكلمةُ من خالط الوحيُ فؤادَها وتشرّب الحقّ كيانَها كلَّه، فلا تجد في ذاتها، بل قُلْ في كلّ ذرّة من ذرَّات بُنيانها إلا تَمكُّنَ سلطان الرّسالة، وهَيبة النبوّة، فقد امتزج فيه بهاءُ الجمال وسَطوة الجلال، في أتمّ حاليهما وأكملهما.




ومِن هنا فدَّوه بآبائهم وأمهاتهم وأبنائهم وأزواجهم وعشائرهم؛ فبقاؤه بقاء الرّحمة المهداة والنّعمة المسداة للعالمين.




ومهما أصيب الناس بمصاب؛ فلو ذكروا مصابهم به ﷺ لتعزَّوا به، ولَهان عليهم كربهم.




نعم -صدقتِ- كلُّ مصيبة دون المصيبة به هيِّنة حقيرة!




وبعدَ فقده في عالم الأشباح للعامَّة؛ كلُّ مصيبة تهون بجانب مصيبة الدِّين؛ دينِ ذاك الذي ملأ عليهم حسَّهم وجوارحهم.




حتى إذا ما أتمّ الله به النّعمة، وأكمل الدّين، ورضي الإسلام لنا من خِلاله، وفي ظلّ رِكابه؛ رَحل مطمئناً حامداً شاكراً مستغفراً.




إن اجتماع المُثُل في شخص لازم لتتمَّ به الحجَّة على الناس، ولتُترجم الهداية أقوالاً وأعمالاً؛ برهاناً على أن هذه الملّة والشّرعة ليست بمنأى عن الحياة وأتعابها، والأرض وطينها وكدرها.




إن هذه الشرعة ما تمثَّلت في شخوص تعلَّقت بذلك الخاتم الحجة، الذي تعلقت به تلك المرأة في قبيل من الرجال والنساء آثروه على أنفسهم وأرواحهم، فعزُّوا به بعد أن كانوا أهون النّاس، وسادوا به بعد أن كانوا أحقر الخلق.




نعم! ما تمثّلت هذه الشريعة في أشخاص منّا نذروا أنفسهم للمتابعة، وأرخصوها في السبيل الحقّ، وفي المنهج الحقّ؛ إلا صار لنا مثل الذي صار لهم، وآل لنا مثل الذي آل لهم، وانظروا ما أخلف الله موعده!




لقد ملأنا الأرض برجال منّا ونساء، ما كان همّهم همَّ تلك المرأة، وما كان دأبهم دأب تلك المرأة!




امرأة، امرأة، صنعت ذاك الصنيع، ووقفت ذلك الموقف فأين تضحياتكم من تضحياتها، وأين بذلكم من بذلها، وأين نظرتكم للحياة والكون من نظرتها، وثقل مسؤوليّتها!




ولعمري، إنها لأوبَة نشهدها تتراءى لنا بركاتها من هنا وهناك، لأناس بدؤوا يستشعرون هويّتهم، ويراجعون دينهم، في خضمّ ما تُؤدَّب عليه الأمّة في بيت المقدس وأكنافه!!




إنها آلام نتجرَّعها ونذوق من لذع مرارتها، ولكن لها حتماً ما وراءها من حياة أهنأ مع الله، وأسعد مع رسوله.




[1] السيرة النبوية لابن هشام 3/99 بتحقيق السقا والأبياري وشلبي ـ طبعة دار المعرفة ـ بيروت ـ لبنان

تحميل