الشيخ محمد ياسر القضماني
السلاسل: من كلام الأعلام
حبُّ اللهِ تعالى
دُخِل على عابد في مرضه فقالوا له: كيف أصبحتَ؟ قال: أصبحت وكل عرق يتألم على حدته، ولا يحب إلا الله.
****
وقفت على هذه القصة، فقلتُ هذا مما ينضاف لأخبار الأكابر من أخيار هذه الأمة الخاتمة، من أخبار العُبَّاد الذين لا أَرَبَ لهم في شهوة من هذه الشهوات التي تشغل الناس، ولا في مغنم من هذه المغانم الزائلة، ولا في حظٍّ من هذه الحظوظ التي يتعارك الناس عليها ثم يتدابرون ويَتْلَفُون كَمَداً وحَسرة أَن فاتهم شيء من لذَّاتها !
والأخيار من الخَلْق لا تشغلهم إلا مرضاة الله جلَّ جلاله، ولا يَهُمُّهم إلا الاستعداد لتلك الدار التي تستحق أن يُتنافس عليها، ويُبذل في نيلها والأمن فيها النفسَ والنفيسَ !
الذوق مفتاح المعرفة، والمعرفة مفتاح التبجيل، والتبجيل مفتاح العطاء من الجليل !
هل يمكن أن يتألم كلُّ عِرْق فيك على حدته ثم تكون مشغولاً بذكره - سبحانه وتعالى المقدر لكل شيء - ؟!
نعم ! يمكن أن يتألم كلُّ عرق فيك على حدته، ثم لا يكون مِنْ كلِّ عرق إلا اللسان الذاكر والشاكر للخالق الرازق! أعلمتَ متى يكون ذلك ؟!!!
عندما يتحقق الإنسان أن كلَّ ذرة في كيانه من إيجاد الله تعالى، وأن كلَّ ذرة من هذه الموجودات فيَّ تُمَدُّ لحظة فلحظة من الموجد لها، البارئ لها.
إذا كان الله - جلَّ جلاله- هو الموجد المُمِدُّ فعلام التعلق بسواه، وعلام الاشتغال بمَن دونه ؟!!!
إن كان إحسانٌ يسير وصل إليَّ من شخص أو جهة لا أنسى ذلك - إن كانت لي مروءة - فكيف بالمحسن الذي ما يكون مِنْ إحسان إلا من خزائنه ؟ كيف بالجواد الذي ما يكون من جود إلا من فيض فضله ؟!
كيف لا تتعلق النفس السَّويَّة بخالقها والمحسن إليها ؟
أليس هذا من أعجب العجب أن لا ينسى بعضهم إحساناً من مخلوقٍ مثله مرزوقٍ من خالقه الرزاق الكريم؛ ولربما خالطَ هذا الإحسان شَوْبٌ من مِنَّة مؤذية معكِّرة، ثم يشرد هذا اللئيم عن ربه متنكراً له، جاحداً لأنعمه ؟!!َ
ألم يعبر ربنا الحليمُ الكريم أصدق تعبير عن هذا الخُلُق السوء، المرذول المقبوح بقوله: (قُتِل الإنسان ما أكفره؟)
نعم ! ما أكفر ابن آدم !
بل إنه كفَّار كفور وكَنود وجَحود !
بل ربما ضَمَّ إلى هذا رذائل، فكان حقوداً حسوداً !!
أعطاك مَنْ براك، وأعطى غيرك في مملكته ومن خزائنه، فعلامَ تحسده يا جهول ؟! لماذا تحقد عليه يا لكع ؟!!!
****
أَتَرَونَ هذا العابد الذي دُخل عليه وكلُّ عرق فيه يُعَذَّب، آلام بعضُها فوق بعض، كتلةُ ضعف وأَسَىً، لا يقوى على شيء؛ أترونه وقد انطوى قلبه على هذا الحب الكبير، وعُمِر بهذا التقدير للكبير جلَّ جلاله، مُحِقاً أم لا ؟!!!
مجنون مَنْ يلتجي بسواك !
وأَجَنُّ منه من ظَنَّ أن إدمان قرع الأبواب دون بابه أمرٌ ينجح أو يَفتح ؟!
وإن من أشد ما يأسى له المرء أننا نعرف، وبعد أن نعرف نننحرف فلا نسلك الجادَّة الموصلة بل نتنكَّب يمنة ويسرة فنَضِلُّ ونُضِلُّ ؟!!!
وصدق من قال :
أتيتك سائلاً فارحم عَنائي | فعندك يا كريم دواء دائي |
فلا أحداً سواك إليه أشكو | فيرحمُ عَبْرتي ويرى بكائي |
فيا مولى الورى جُدْ لي بعفو | ومُنَّ بنظرة فيها شفائي |
رأيت كثيرَ ما أُهدي قليلاً | [1]لمثلك فاقتصرتُ على الثناء |
[1] طهارة القلوب والخضوع لعلام الفيوب للعارف سيدي عبد العزيز الديري ص 185