مميز
EN عربي
الشيخ محمد ياسر القضماني

الشيخ محمد ياسر القضماني

الكاتب: الشيخ محمد ياسر القضماني
التاريخ: 03/03/2013

خطوات الشيطان

مقالات مقالات في الشعر والأدب

خطوات الشيطان


الدكتور محمد ياسر القضماني

"أكبر أمنية لي في حياتي أن أعيش في أوروبة ... إيه ..."

كلمات قالها حسن لصديقه سعد، ثم استرخى عقب (فيلم) غربي رأياه في ليلة ماجنة حالمة ...

ويسترسل حسن: ترى هل هناك أسعد من هؤلاء؟! ملكوا كل شيء ... صنعوا ما لا يخطر على بال أحد! هؤلاء هم الناس!.

يا سعد انظر إلى طريقة حياتهم ... إلى لباسهم ... إلى طعامهم ... إلى تعاملهم الراقي في كل شيء ... انظر إلى تقدير الإنسان، ألم تر كيف يأخذ الإنسان حريته؟ ليس هناك شيء حرام أو عيب كما عندنا!.

ألست معي يا سعد؟!.

سعد: أنا معك ... أنا معك!.

هل ستسافر معي إن سافرت إليهم؟!.

سعد: آه لو أقدر ... آه لو أقدر ...

***

ويسافر حسن إلى أوروبة بعد أن احتال وجمع المال ليصل إلى هناك، حيث الأحلام ... حيث الحرية ... حيث الانطلاق إلى كل نزوة.

سافر تاركاً أباه الكبير المريض، وأمه الملتاعة المتعبة به دائماً، وإخوته المشغولين به، سافر غير عابئ بشيء!.

حسن في عنفوان شبابه، في ميعه صباه، حباه الله جمالاً ووسامة ظاهرة فاتنة، وهذا الذي زاده تيهاً ودلالاً وبُعداً.

سرعان ما تلقفت (حَسَنَاً) بعد وصوله إلى أوروبة فتيات عابثات افتتنَّ به، وافتتن بهنَّ، وشبابٌ يهيِّجون على الرذيلة، ويبعثون على المنكرات.

(سالي) فتاة غانية تقع في حب حسن، ولا تطيق عنه صبراً، اجتمعا مراراً، ما كان يألف هذا المجتمع من قبل، لقد استمرأ الخلوة بها هنا وهناك، فواعدها وكان ما كان في خلوة ماجنة قصية ووقع المكروه ...

لقد ضلَّ حسن ضلالاً بعيداً ... لقد غرته نفسه، وأغواه هواه، فتردى في حمئة الرذيلة ...

آه ... يتحسَّر حسن في صبيحة الليلة الآثمة، ويسترسل مشدوهاً واجماً ينظر هنا وهناك في قلق واضطراب كالذي يخشي مداهمة مجرمين قَتَلَة..

يا رباه! ... ماذا دهاني؟! ما الذي جاء بي إلى هنا؟! هل جننت؟!.

لا ... لا ... لا يمكن أن أمكِّن للقّذِرات أن يأتين إليَّ بعد اليوم ...

***

تمضي بضعة أيام وتجتمع بحسن فتاة ماجنة أخرى في ملهى ليلي، فتعجب به ويعجب بها، وتتزين له فيجاملها بمعسول القول، ثم يفترقان بعد أن يتلوثا بالخطيئة الفظيعة التي تنهد لها الجبال ...

ثم يصحو مرة أخرى فيتلوى ويتحسر ويندم ... ولكن ما ينفع الندم؟!.

ماذا ينفع الندم إن لم تتبعه توبةٌ نصوح، وعزيمة أكيدة على عدم العود، وهجران لأهل الخطايا، وأماكن السوء؟!.

المكان هنا آسن، عششت فيه الرذيلة، وفرَّخت فيه الغواية، فلا قيم ولا حياء ولا ضوابط ولا دين رادع! ...

حسن يمد له الشيطان مدَّاً، ويؤزُّه أزاً فيمعن في فساده، يغرُّه جماله فيحرضه على الفتنة، فيتقلب في حمئة الخطايا بين أحضان هذه وأحضان تلك.

أذكر هنا قوله تعالى: (وَلا تَتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ) [البقرة: 168].

إن الإنسان لا يفجر وتسوء أخلاقه في ساعة من زمان؛ إنها رحلة يحدوها الشيطان ويرعاها خطوة بعد خطوة، ويغذوها ساعة بعد ساعة!.

***

موفَّقٌ شاب من خيرة الشباب، يعيش في هذه البلدة الأوروبية، يسمع بقصة هذا الشاب المفتون الفاتن؛ حسن، يعزُّ عليه أن يكون واحداً من بلده، ومن أهل دينه عاراً، وموضع فتنة وفساد في هذا البلد الفاسد المفسد.

يعزم موفق على زيارة حسن، وها هو يصل إلى بيته فيقرع بابه!.

يفتح حسن الباب ويتفحص وجه الطارق، يشرد ذهنه ... مَن هذا الذي جاءني وليس عليه صفات خِلاّنه هنا؟!.

موفق: أخي حسن أنا راغب أن أوزرك قليلاً؛ فهل تأذن لي؟.

حسن: تفضل أهلاً وسهلاً.

يسحب حسن نفسه متثاقلاً خجلاً، عليه مخايل الذهول ...

- تفضل هنا يا أخي ...

موفق: أخي حسن لعلّلك لم ترني من قبل، ولكن أنا مشفق عليك.

أحب لك الخير، أنا من بلدك!.

تنفرج أسارير حسن ... أهلاً بابن البلد، ماذا تفعل هنا؟!

- أنا طالب في الجامعة هنا، وقد أكرمني الله تعالى، قد شارفت على الانتهاء، سأرجع قريباً - إن شاء الله - إلى البلد، وأعالج المرضى، أعالج أهلي وأهلك، وجيراني وجيرانك!.

حسن: إيه ... ليتني مثلك ... أما أنا ... آه ... آه ...

موفق: أقول شيئاً؟.

حسن ذاهلاً: تفضل ...

موفق: ما الذي يحول بينك وبين أن تكون مثلي؟!.

ثمَّ ما الذي يفصلنا عنك؟! لا تتضايق مني فنحن شباب!.

حسن: ماذا ... ماذا تقصد؟!.

موفق: السهرات ... الملاهي ... البنات هنا وهناك ...

لقد عرف موضوعك، وسمع بقصتك أهل بلدك هنا ... أليس حراماً؟! ...

إلى متى؟! إلى متى يا حسن؟!.

حسن: لا ... لا ... ليس إلى هذا الحد ... لماذا تسيئون الظن إلى هذه الدرجة؟! أنت تعرف الشباب، ونحن شباب ... والله غفور رحيم ...

موفق: انتبه يا حسن، أنت مستهين بالكبائر ... تفكَّر في مستقبلك ...

يا حسن لا تسخر ما حباك الله لفتنة الناس!.

ثم خرج موفق وهو يقول: اتق الله في نفسك، أرجو أن تقود ...

وحسنٌ زائغ البصر، ذاهل الفكر، شارد النفس ...

***

ألا ما أخبث الشيطان، وأوسع حِيله، وأكثر مكايده! ...

كلما غادر حسن ملهى عزم على أن لا يرجع ... ولكنه استمرأ الرذيلة، واستطاب العبث والمجون حتى صار إدامه وشرابه، وأصبح مثل من يشرب من البحر ليذهب ظمأه، هل يرتوي؟ أنَّى له ذلك؟!.

ها هي نضارة وجهه تنضب، ومعينه يجفُّ، وشبابه يذوي وينطفئ شيئاً فشيئاً.

وفي إحدى الليالي التي أمعن حسن فيها الشراب، ومراقصة النساء؛ دخل عليه أحد الغيورين وقال له - وهو في غمرة بعده، ونشوة سكره -:

يا حسن إلى متى؟! ألا تصحو من غفلاتك؟!

بدل أن تشكر الله على هذا الجمال، تستهوي به النساء؟!

ألا تخشى أن تفقد هذا الشباب، وهذا الجمال؟!

ألا تخشى أن يأخذه الله منك؟!

هنا يركب الشيطان رأس المفتون فيصيح رافعاً رأسه وبصره إلى السماء بكل جراءة ووقاحة: لا ... لا ... لا أخشاه ... ليأخذ مني هذا الجمال! ...

ليأخذ مني هذا الجمال ... ثم خرَّ على وجهه من أثر السكر، وَرَهَقِ الفجور ...

***

أم حسن متلوعة على فقد ابنها، وانقطاع أخباره، وفجأة ... يصلها خبر ابنها، وعنوانه، ورقم هاتفه، فيتصل به أهله فيكلمهم ويتشوق ويسافر إليهم ...

يصل حسن لأهله فيراهم مشغولين بإصلاح البيت.

وتشاء إرادة الله وقدره أن يوكَّلَ حسن بصب القار الأسود الحار على سقف البيت المهترئ، وتزل رجل حسن عن السلم فيندلق الدلو الحار الأسود وينصب على رأسه ووجهه وما استقبل من صدره، ويصرخ ... ويصرخون ... يا للهول! ...

لقد احترق حسن وتعطل سمعه ونطقه! ...

ولم يطل الوقت لتكتمل الموعظة ... وإذا بالذي وعظه وخوَّفه بالله تعالى وذكره بأن يتقي الله في هذا الجمال ... ألا يخشى أن يسلبه الله منه ... إذا به يسوقه إلى حسن ويراه على هذه الهيئة ... وما إن رأى حسنٌ المبتلى هذا الواعظ حتى خرَّ مغشيَّاً عليه ...

تذكر حسن بعد إفاقته كل ما مضى، وأخذت تمر في ذاكرته صور المومسات والشباب التائه، فيتمنى أن يمكنه الله منهم ومنهنَّ ويجعلهم تحت قدميه ... ولات حين مندم ...

ويشير حسن إلى واعظه ويرفع يديه نحو السماء ثم يشير على وجهه وصدره ... إنه لا يقدر على النطق ... يريد أن يقول: لقد حقَّ عليَّ العذاب، وحلَّ بي سخط الجبار دون تأخير ... إنني لم أرع الله، ولم أقدّره حق قدره ...

إنه حقاً موقف عصيب رهيب، ولحظاته كأنه دهر طويل طويل، وتزداد الحسرة والأسى بعد أن نعلم أن هذا الشاب المفتون الفاتن الجريء على الخنا، المصاب بما أصيب به، يموت بعد أسبوعين من الحادث الأليم! ...

إنها قصة مؤثرة، وعظة بالغة ... ألا ما أحكمك يا رب! ... ما أجلَّ قدرتك، تعفو برحمتك، وتعذّب بعدلك، ولا يكون شيء إلا بأمرك ...

فيا رب كما حسَّنت خلقي فحسَّن خلقي ... ولا تفتني ...

واختم لي بخاتمة السعادة ... برحمتك يا أرحم الراحمين ...

تحميل