مميز
EN عربي

الباحثة نبيلة القوصي

الكاتب: الباحثة نبيلة القوصي
التاريخ: 30/01/2017

جامع منجك

مساجد الشام

جامع منجك

في محلة "ميدان حصى" بدمشق

إخوتي ساكني وسائحي دمشق الشام:

أخذت مدينة دمشق في عهدها الجديد بتأسيس أقوى وأرقى حضارة، عمادها الحضارة الإنسانية المُثلى في جانبيها، المادي والمعنوي...

ففي العهد الأموي، كانت قد نعمت دمشق بمركز عالمي وازدهار اقتصادي، وراح الأمن والأمان يستتبّ، ما أدى إلى اتساع المدينة وإنشاء أحياء سكنية خارج الأسوار وعلى الأطراف والضواحي، وامتد البناء على ضفاف بردى وسفوح قاسيون ...

وفي بدايات القرن الخامس وأوائل السادس للهجرة، نرى مدينة دمشق648/923ھ.عبارة عن مدينتين: الأولى قديمة تحمل إرثاً تاريخياً قديماً يحكي لنا بدايات نشوء دمشق، والثانية جديدة جاءت لتحل مشكلة تزايد السكان وتطور سبل الحياة بطرق حديثة متجددة كالأبنية والحارات والأسواق ... واتصلت الأحياء القديمة ببقية الأحياء الجديدة لتصبح مدينة واحدة، حيث قال مؤرخ الشام "ابن عساكر": ( وقلّ موضع حفر إلا وُجد فيه أثر العمارة من سائر أطراف البلدة)، وذكر منها في الجنوب (الشاغور)، والمنية في (الميدان) .. وكان هناك ميدانان عامان، أحدهما في الجنوب وهو ميدان الحصى، والآخر في الغرب ويُعرف بالمرج الأخضر، حيث مدينة المعرض الدولي، وكانت تقام فيهما حفلات لسباق الخيل والفروسية، وكانت هذه الرياض الفسيحة الغنّاء تحيط بدمشق وتفيض حيوية ونشاطاً منذ عهد عبد الملك بن مروان الأموي، ثم مرت بها السنون والأيام وتعرضت لانتكاسات عدة، لكن دمشق ستبقى دمشق رغم كيد الكائدين ومكر الحاسدين ..

ومنذ عهد السلاجقة والأيوبيين في أواخر القرن الخامس للهجرة، بدأ نوع من الانتعاش العمراني الإنساني يظهر جليّاً بعد أن حدد الدمشقيون، ومن لاذ إلى دمشق هرباً من بطش الصليبيين، أن الحضارة تبدأ بشُغل الإنسان وبحثه عن فائدة ما عمّر بعد فناءه ووقوف أمام الواحد الديّان، فلا ينفعه إلا صدقة جارية، أو علم نافع، أو ولد صالح ... فأخذت تدبّ الحياة في الأرباض والضواحي، وتأسس "حي الصالحية "، ثم تتالت الأحياء التي تحيط بدمشق ... ولأول مرة بعد مضي خمس قرون على بناء الجامع الأموي، أخذت تزداد المساجد والجوامع التي تُقام فيها صلاة الجمعة والتي لم تكن تقام إلا في الأموي، فكان جامع الحنابلة والجراح بالشاغور، والتوبة في العقيبة، وجامع المصلى في الميدان ... ثم بلغت دمشق أوجها في عصر "المماليك"، وإن جامع منجك شاهد على حضارة دمشق المملوكية العريقة، يدعوكم للوقوف عنده والاستماع لقوله صلى الله عليه وسلم: " من بنى بيتاً ليُعبد الله فيه من حلال، بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة من در وياقوت ".

كان هذا الحديث الشريف هو عنوان حي الميدان، ومَيْدان بالفتح ثم بالسكون، من أحد الأحياء القديمة العريقة بدمشق، يقع خارج أسوارها شامخاً يحمل إرثاً حضارياً إنسانياً عظيماً، فقد واكب عصوراً تاريخية عدة مرت بها دمشق، ويذكره المؤرخون كأكبر ضاحية من ضواحي دمشق، حيث كان الوليد بن عبد الملك الأموي يعقد فيه ميداناً لسباق الخيل، ولا يزال المضمار يمثله حي الميدان الواقع في الجهة الجنوبية الغربية لسور دمشق .. وقد سُمّي بالميدان لمساحته الواسعة، ويتألف من: ميدان تحتاني (حصى) محاذٍ لجامع باب مصلى، واسمه جاء نسبة لتربته المفروشة بالحصى، وفوقاني نواته قرية القبييات _جمع تصغير قبة_ وهي حاضرة من حواضير دمشق جهة القبلة، والميدان الوسطاني.. ولم تشهد هذه المنطقة العمران الفعلي حتى عهد الدولة المملوكية 648/923ھ .. ففي العهد المملوكي بدأت الضواحي السكنية خارج السور، ومن الآثار التي مازالت ماثلة أمامنا منذ ذاك العهد هو جامع منجك ..

"جامع منجك":

يقع في محلّة ميدان الحصى عند جسر الفجل متوسطاً سوق ( الجزماتية )، أحد أشهر أسواق حي الميدان، بناه الأمير "ناصر الدين محمد بن إبراهيم بن سيف الدين منجك الكبير" في حدود 815 للهجرة، و"منجك الكبير" هو نائب دمشق وصاحب المدرسة المنجكية وحمام منجك، وقد طرأ على هذا الجامع تعديل وتجديد، أهم ما بقي منه واجهته ومئذنته . ..

حيث كان المسجد صغيراً ومتواضعاً، ذات جذع أيوبي مربع بسيط ضخم في محيطه، فقام الأمير ناصر الدين بن منجك بهدم القديم أيام حكم السلطان الملك الأشرف سيف الدين برسباي، وبنى مكانه مسجداً أكبر منه والمعروف باسم (جامع منجك) جانب تربته التي دُفن بها لاحقاً، ليصبح المسجد بمئذنة طويلة شاهقة الارتفاع، في جذعها السفلي خطوط من الأبلق، يتخلل الجذعَ نوافذُ مفتوحة على شكل قوس، وتعلو الجذع شرفة خشبية بارزة، وقد أخبرنا الشيخ بدران في "منادمة الأطلال" أن حجارة بناء الجامع حُملت من أرض العمارة شمال سور دمشق ...

ويقول ابن طولون في القلائد الجوهرية: مات في سنة 844 ھ الأمير ناصر الدين محمد بن ابراهيم بن منجك، أحد أمراء دمشق، صُلي عليه في تنكز، ثم حُمل إلى تربته التي أنشأها بجسر الفجل بميدان الحصى فدُفن بها، وكان ذا عقل تام ودين، عمّر جامعاً لصيقَ تربته وآخراً بمنطقة مسجد القصب خارج سور دمشق، وأجرى على الفقراء والأرامل صدقات كثيرة ..

إخوتي سائحي دمشق العظيمة :

كان الشعراء إذا ما مروا بالأطلال وقفوا واستوقفوا، وبكوا واستبكوا، واستنطقوا الآثار... وإن في دمشق عبر وعظات جمّة تنادي علينا، ونرى في كل حيّ جامعاً حافلاً بالعلماء، عامراً بالدروس، فالمساجد هي مراكز لمجالس ودّ وصفاء، فكأنه دار لأسرة واحدة...

ومن خلال المسير نتلمس روعة مَن سبقونا، وكأنهم يبعثون إلينا بأعمالهم وآثارهم نداءاتهم الإيمانية، ويرجون الله لنا التوفيق في مسيرنا من بعدهم والهداية في اتباع منهج من رسّخ معالم خلافة المولى على الأرض بالحكمة والموعظة الحسنة... وفقنا الله وإياكم لحسن الاتباع والعمل...

المصادر: الدارس في تاريخ المدارس / للنعيمي

القلائد الجوهرية / لابن طولون

شذرات الذهب / لابن العماد