الباحثة نبيلة القوصي
محدث عصره شيخ الإسلام تقي الدين بن صلاح الدين | الجزء الأول
محدّث عصره شيخ الإسلام
تقي الدين بن صلاح الدين
557 - 642 هجري /1181- 1244 ميلادي
(الجزء الأول)
إخوتي الكرام:
إن القرآن الكريم إلى جانب السنة النبوية هما الأساس الذي قام عليه صرح الحضارة الإسلامية الذي ما زال يشع نوراً يضئ أركان الكون ليشهد على سمو وعظمة الإسلام، فالقرآن هو الدستور الذي ارتضاه الله لعباده، والسنة هي بمثابة الإيضاح التي يُفزع إليها لفهم أسرار القانون الرباني، فأخبرنا صلى الله عليه وسلم: (( تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنتي)).
فعني المسلمون بحديث النبي صلى الله عليه وحفظه، ولما لحق النبي صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى حدث عنه الصحابة بما وعته صدورهم الحافظة ورووا للناس بغاية من الحرص والعناية، فصار علم الحديث فيما بعد يروى وينقل، ووضعت بعد ذلك قوانين تحقق ضبط العدل للحديث، وتكلمت في الرجال.
وهاهم الصحابة الكرام، عندما اتسعت البلاد الإسلامية في عهد الخلفاء، خرجوا يبلغون الأمانة مبشرين ومرغبين لا منفرين، فدخل الناس في الإسلام أفواجاً، وأكمل من بعدهم التابعون معلمين مرشدين في حرص شديد، فكانوا لا يكتفون بما يسمعون في بلادهم، بل يرحلون إلى المدينة المنورة ليسمعوا من الراوي الأصل الذي شافهه النبي بالخبر.
وظهر في العالم الإسلامي علماء هم "ورثة الأنبياء بحق"، طلبوا الرحلة للعلم وبالغوا في التأكد والتثبت من صحة الحديث فوضعوا قواعد وشروط صارمة، للرواية والراوي، كي يجنبوا السنة الشريفة زيف المزيفين ودس المدسوسين.
إخوتي الكرام:
عندما مات النبي صلى الله عليه وسلم، حفظ الصحابة الكرام حركاته وسكناته وأخلاقه، وحفظوا لنا الأمور الخلقية التي جعله عليها المولى من لون بشرته وطوله خير حفظ ، فقاموا بعمل جليل تركوه للأجيال اللاحقة.
هذا وإن علم الحديث من أفضل العلوم الفاضلة وأنفع الفنون النافعة، يحبه ذكور الرجال وفحولتهم ، ويعنى به محققو العلماء .. ولقد كان شأن الحديث فيما مضى عظيما ًعظيمةٌ جموع ُ طلبته، رفيعة مقاديرُ حفاظه وحملته...
وها هو الإمام السيوطي يمتعنا قائلاً: إن علم الحديث رفيع القدر، عظيم الفخر، شريف الذكر، لا يعتني به إلا كل حبر، ولا يحرمه إلا كل غمر، ولا تفنى محاسنه على ممر الدهر.
وقال الكرماني في شرح البخاري: واعلم أن الحديث موضوعه ذات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأفعاله وأحواله، وغايته هي الفوز بسعادة الدارين
لكل زمان علماؤه حيث في القرن السابع للهجرة، كان محدث ذاك الزمان، هو ابن الصلاح، هاجر إلى الشام المباركة قادماً من حدود اربل العراقية لينشأ ويترعرع في الشام ، ثم لينفع العباد والبلاد ، من أشهر مؤلفاته في الحديث:
كتاب علوم الحديث الشهير "بمقدمة ابن الصلاح"، والذي ذكر فيه ابن الصلاح "65" نوعاً منه.
ويقول ابن حجر العسقلاني: (لقد اجتمع في كتابه ما تفرق في غيره، ولا يحصى كم ناظم له ومختصر، ومستدرك عليه ومقتصر، ومعارض له ومنتصر) وقال السيوطي: (عكف الناس عليه، واتخذوه أصلاً يرجع إليه).
وكتب الكثير من العلماء شرحاً وتعليقاً على المقدمة، منها: "الإرشاد" للنووي، و"الإفصاح على نكت ابن الصلاح"، لابن حجر ،والذي لخصه فيما بعد باسم " النكت على كتاب ابن الصلاح" وكتاب "الشذا الفياح من علوم ابن الصلاح" للأبناسي، وغيرهم.
لقد حظي الكتاب باهتمام علماء الحديث، فهذبوه واختصروه ونظموا له شعراً، منهم: الإمام النووي، وابن كثير، والسيوطي، وابن حجر العسقلاني، وغيرهم من العلماء....
وكتب العلامة الدكتور نور الدين عتر "حفظه الله"، الذي قام بالتحقيق لكتاب ابن الصلاح، فقال في مقدمة الكتاب:
(إن من خصوصيات هذه الأمة الإسلامية المشرفة على غيرها من الأمم عنايتها الفريدة برواية الحديث الشريف وحفظه وترجمته إلى عمل تطبيقي ولكن الخصوصية الأكبر لهذه الأمة في نقلها للحديث النبوي عنايتها العظمى لصيانة الحديث من التحريف فيه والدخيل عليه، وذلك بما توصلت إليه من قوانين للرواية، هي أصح وأدق طريق علمي في نقل الروايات واختبارها.
وإن أحسن كتاب صنفه أئمتنا السابقون في هذا العلم العظيم هو هذا الكتاب الذي اشتهر ب " مقدمة ابن الصلاح" للإمام أبي عمرو عثمان بن الصلاح الشهرزوري، الذي أبان أصول هذا العلم تبياناً لم يسبق لمثله، حتى صار كتابه مرجعاً أصلياً ).
فمن هو ابن الصلاح؟
ولماذا لُقب بشيخ الإسلام؟
وبأي علم وعمل نشأ وترعرع بين أحضان والديه؟
فهيا معاً نستمع لسير الصالحين التي فيها الكثير من العبرة والعظة لمن سأل كيف تكون العمارة والخلافة في الأرض؟
ليكونوا من الذين اشتاق إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وسماهم إخواني، المتبعين بشوق وتعظيم له، غير مبتدعين عنه....
الإمام الحافظ العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو عمرو عثمان بن المفتي صلاح الدين عبد الرحمن بن عثمان الموصلي الشافعي، صاحب كتاب "علوم الحديث".
كان أحد فضلاء عصره في التفسير والحديث والفقه وأسماء الرجال وما يتعلق بعلم الحديث ونقل اللغة، وكانت له مشاركة في فنون عديدة، وكانت فتاويه مسددة، قرأ الفقه أولاً على والده الصلاح، وكان من جلة مشايخ الأكراد، تنقل بين المدن في رحلة العلم من الموصل إلى خراسان ثم إلى الشام ليتولى التدريس في المدرسة الناصرية بالقدس، ثم انتقل إلى دمشق وتولى التدريس بالمدرسة الرواحية التي أنشأها الزكي أبو القاسم هبة الله بن عبد الواحد ابن رواحة الحموي، ولما بنى الملك الأشرف ابن الملك العادل بن أيوب دار للحديث بدمشق فوض تدريسها ابن الصلاح، ثم تولى التدريس بمدرسة ست الشام زمردة خاتون بنت أيوب وهي داخل البلد قبلي البيمارستان النوري، وهي التي بنت المدرسة الأخرى ظاهر دمشق، وبها قبرها وقبر أخيها وزوجها أسد الدين شيركوه.
فكان ابن الصلاح يقوم بوظائفه في الجهات الثلاث من غير إخلال بشيء منها إلا لعذر ضروري.
مولده ونشأته:
ولد عام577هجري، في قرية تدعى ( شرخان) قريبة من شهر زور، التابعة لأربل شمالي العراق، فنسب إليها، وكان والده يلقب بصلاح الدين فنسب إليه وعرف بابن الصلاح .سنة 577هجري، أما هذه القرية الصغيرة التي انتسب لها جمع غفير من العلماء الأجلاء الذين تبؤوا مناصب هامة في بلاد الشام، فمدينة شهرزور نموذج لمدن رفع أبناؤها أسمها بما قدموا من علم ينتفع به، أو عمل صالح رفع الله ذكرهم فكانوا من صفوة الخلق في الشام، ولقب الشهرزوري غدا دليلا على تلك البيوت التي أنجبت هؤلاء الأفاضل، و ابن الصلاح بداية تفقه على والده بشهرزور فقيه شافعي قدم إلى حلب و درس في مدارسها وأخذ عنه جم غفير ومات بحلب، أما ولده ابن الصلاح قام برحلة علمية أخذ يجول العالم طلبا للعلم، ثم اشتغل بالموصل وسمع من عبدالله بن السمين، ونصر بن سلامة الهيني، ومحمود بن علي الموصلي، وأبي الحسن بن الطوسي، وطبقاته...وعبد المنعم بن الفراوي، والمؤيد بن محمد بن علي الطوسي، وزينب بنت القاسم الشعرية، والقاسم بن أبي سعد الصفار، وأبي المعالي بن ناصر الأنصاري، وفخر الدين بن عساكر، وموفق الدين بن قدامة والقاضي أبي القاسم عبد الصمد بن محمد بن الحرستاني وغيرهم كتر في عدة مدن مرو وحران والموصل ..
نشأ في بيت علم ورئاسة، فأبوه صلاح الدين من العلماء الأجلاء فقيه متبحّر بالفقه الشافعي، تولى الإفتاء وعُرف بأجمل وأقدر الصفات.... ورُزق بابنه عثمان الذي عُرف بلقب ابن الصلاح نسبة لوالده الصلاح... وعاش ابن الصلاح في عهد الأيوبيين ولقي من ملوكها وأمرائها التشجيع على العلم بإنشاء المدارس والمكتبات ورصد الأوقاف على المؤسسات العلمية والطلاب لتهيئ للعلماء أقدس الأجواء في تنافس جليل يُعرض على سيد الأكوان، فينالوا المباركة المنشودة منه...
لقي تشجيعاً من أبيه وتوجيهاً دفعه للارتحال في طلب العلم بعد أن درس عليه "المهذب" مرتين، فكانت رحلاته قد شملت معظم عواصم البلاد الإسلامية العلمية، من بغداد و خراسان إلى بلاد الشام التي استقر فيها، فبلاد الشام كانت ولا زالت تزخر بالمعاهد العلمية التي تفاخر بها العالم لقول المصطفى: (( فيها عمود الكتاب..)).
والملاحظ في سيرته أن من شيوخه الشيخة المسندة المعمرة الصالحة والمكثرة "زينب بنت أبي القاسم الشعرية" مسندة نيسابور، توفيت 615هجري، وترجم لها كبار العلماء كالذهبي وابن حجر وغيرهم، فهؤلاء النساء حفظن وعملن بقوله تعالى: (( ....إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى...)).
نعم، إن ما نراه من فوضى واضطراب في البيوت مرده إلى ضعف الاتصال بمربي البشرية، الذي كان خُلُقه القرآن....
وإننا ننعى إليكم فقدان تقدير وتعظيم ما أخبر وبلغ به معلم البشرية، فغياب ذلك عن أجواء بيوتنا يعود لانشغالنا في دنيا فانية ونفس هاوية، أقلّ ذلك المواظبة على أوراده اليومية للاتصال بخير البرية .....و يا للأسف...
لا نقول إلا : "إنا لله وإنا إليه راجعون".
يتبع......
المصادر:
ـ طبقات الشافعية/ للسبكي
ـ شذرات الذهب/ لابن العماد
ــ تاريخ العبر/ للذهبي