الباحثة نبيلة القوصي
البيوت الشاميّة - الجزء الثالث
البيوت الشاميّة، نسائمها تجمع بين الشاميّين....
الجزء الثالث
بلاد الشام لها من الفضائل ما مُلئت بها كتب "فضائل المدن"، ومدينة دمشق من أكثر المدن شهرة في مدن الشام، برجالها وغوطتها ومساجدها ومدارسها وبيوتها التي تربّى فيها خيرة العلماء والقادة الشجعان والأدباء.... ولازالت تتتابع فيها قوافل الأخيار...
وقد أنعم الله عليها، بالإضافة إلى أنها رابع مدينة مقدسة، بأن حبَاها عز وجل بجمال المنظر وعذوبة الماء ولطف الهواء ورقة السكان في حسن معاشرتهم التي قد وُصفت منذ عهد من الزمان، والذين نالوا شرف وصف المصطفى لهم: ((...الذين يألفون ويؤلفون...)).
فهيا معاً في رحاب قدسية طاهرة نُحيي النفوس التي فترت وتكاسلت بعد غفلة قد داهمتنا على حين غرة، نستلهم العبرة والعظة من أسباب شهرة البيوت الشامية التي تحاكي الكينونة الإنسانية الطاهرة السليمة النوايا...
إخوتي قراء زاوية (معالم وأعيان):
مدينة دمشق تمتلك مجموعة من المباني التاريخية التي تشاهَد موزعةً داخل أو خارج أسوارها في مناطق التوسع التي نشأت كضواح خارج المدينة القديمة ثم ألحقت بالمدينة، فتجد أيها الشاميّ الدمشقيّ قد لاح في سماء الشام قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم) ... أتقاكم.... أتقاكم!
كنا قد تجولنا معاً بالأمس في قصر العظم، والذي يعد نموذجاً رائعاً للبيت الشامي المميز بثلاث أجنحة رئيسية (للرجال والنساء والخدم)، والذي يعكس لنا ثقافة دينية اجتماعية رائعة ....
والآن سنأخذكم في جولة سياحية ممتعة في بيتين يعود تاريخهما إلى حوالي مئتي سنة: (بيت السباعي وبيت نظام)، وفي الشام بيوت أخرى عُرفت فيما بعد باسم "البيت العربي"، قد وصفها العمريّ في "مسالك الإبصار: ((وبها الديار الجليلة المذهّبة السقوف، المفروشة بالرخام .... ذات البرك والماء الجاري، يجري الماء في الدار الواحدة في أماكن منها)).
والشيخ علي الطنطاوي _رحمه الله_ يدعونا لتذوق جمال وجلال هذه البيوت، فقال: (.... فامشِ إليها وادخل دورها، وجالس أهلها، تقرأ تاريخ المجد في صفحات من دور ووجوه وعادات، وترى بقايا الحضارات من لدن نوح قد استقرت فيها، ففي كل بقعة منها تاريخ، وكل حجر منها يتلو من سور الجلال آيات، فإذا أردت أن تعرفها وتصل إليها، فاخرج من نزل بني أمية وعرّج على منازل علماء الأمس، فقد كانت هذه المنازل مدارس وكانت جامعات، وكانت منابر هدى للناس، وكانت هي دعائم نهضتنا، ثم ولج تلك الدور وشاهد تلك القاعات وهذه الزخارف والنقوش والبرك والنوافير، ففيه أخذ الأندلسيون هندسية هاتيك القصور، وقِف خاشعاً متذكراً معتبراً، فهذه المنازل بالأمس كانت جامعات لعلماء الهدى والعلم)).
أيها السائح الدمشقي الشاميّ، فلتلبّينا، وقف معنا في محراب "العبرة والعظة" من قوله تعالى: ((...لقوم يعقلون)) و ((أفلا تتفكرون))، ((وفي أنفسكم أفلا تبصرون)) ....
سائحي وأهالي الشام الكرام:
تحدثنا في المرة السابقة عن ضرورة تذوق جمال البيوت الشامية الذي يعكس لنا اهتمامهم منذ الأزل ببيوت تُؤسس على تقوى من الله، تبدأ بالطهارة والنظافة المعنوية، فالماء والصابون والروائح الطيبة التي تفوح من جدران الدار منادية على المارة ليتمتعوا ويسبّحوا الخالق ويوحّدوه ويمجّدوه...
وفي أرض الدار يجتمع الجدّ والأب والأبناء والأحفاد، تحت سقف واحد، يتعلمون كيف يكون إعمار الإنسان؟ ولن يكون إلا بما يرتضيه لنا رب الأكوان... فليست العبرة بألوان مزركشة، وإنما بأرواح ونفوس طاهرة رضيّة... فعندما نرى الأرواح قد سكنت وهدأت لا بل وطربت ووقفت عند رؤية الجمال والجلال في منظرٍ هو في الأصل منسدلٌ من جمال وجلال خالق الخلق رب العباد، فتلك هي الأرواح الطاهرة!
فمتى ندرك ونحن نتمتع ونمرح في سكون وانتعاش داخل جدران مزركشة ومزينة أن الأرض وما فيها يرثها رب الأكوان؟؟
وإن السائح المعتبر المتأمل تجذبه نسمات حضارية منبعثة من هذه البيوت بفضول محمود، ليعرف ما وراء الأبواب المغلقة؟
ومديرية الآثار والمتاحف قد فتحت المجال، مشكورة، للسائح ليعرف، ففتحت بيت العظم... وجعلته متحفاً للتقاليد الشعبية ليرى فيه النموذج الدمشقي الرائع... وهناك بعض البيوت المسجّلة في مديرية الآثار تعدّ أيضاً نموذجاً للبيت الدمشقي: بيت السباعي الكائن في محلة الدقاقين ويعود ل عام1187هجري، وبيت نظام...
بيت السباعي:
نموذج رائع للبيت العربي في البناء والنمط الزخرفي، يعود للقرن الثامن عشر، مساحته 1500متر مربع، ويضم قاعتين رئيستين مع غرف من الخشب المدهون الملون...
وتضم زخارف نباتية رائعة من الزهور والورد الدمشقي، وفي وسط الفسحة العديد من الأشجار أهمها شجر النارنج التي يفوح عطرها برائحة مميزة، إضافة إلى شجر الليمون والكبّاد والياسمين والورد الجوريّ، وهي أنواع تختص بها دمشق، فليست الصدفة أنها سُمّيت "مدينة الفيحاء" أو "الياسمين".
بيت نظام:
يعود إلى عام 1217هجري، تبلغ مساحته 2500متر مربع، ويضم ثلاث باحات، أجملها (الباحة الوسطى) التي تضم قاعتين من أجمل قاعات دمشق، وهي مزيج رائع من الفنون الزخرفية على الخشب والرخام والحجر،
أما القاعة الثانية فهي (قاعة العنب)، وتضم خزائن وكتيبات خشبية مدهونة بلون الذهب، وزخارفها على شكل عناقيد العنب وأوراقه! تشكل هذه الدار متحفاً للفنون المعمارية الدمشقية بزخارفها الرائعة النافرة والغائرة، والتعشيق على الخشب المحفور، إضافة إلى زخارف عجمية... أما أرضيات الدار فهي من الحجر المتناوب، وبحراتها من أحجار دمشق وقاسيون، وأزهارها وأشجارها انعكاس للغوطة الغنّاء.
إخوتي الكرام القاطنين دمشق والشام:
لقد كانت ولازالت أرضكم مباركة مقدّسة عند الله ورسوله، ولذلك فهي مقصد آلاف الناس من مختلف البلدان، لمشاهدة حارات وبيوت شامية، عنوانها أخلاق محمدية راقية ونفوس صافية... فاشكروا ولا تكفروا بنعمة أنعمها علينا المولى، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ ماذا حصل كي ننسى الهدف والغاية التي خلقنا لأجلها ربّنا العزيز الجبار؟
إنه نفق الغفلة والبُعد عن الله، والتعلّق بالدنيا من قشورها، ونسيان فضل الله وشكره وحمده....
نرجو من الله أن نحقق وإياكم من خلال هذه الزاوية تلمّس المعاني الحقيقية لعمارة الأرض، والتي تبدأ بعمارة النفس بالخير والسلام...
اقرأ بتبصّر وبتأمّل، تجد روحك قد ناشدت المولى مغفرةً من طول البعد عن قصده...
استدرك ولا تشارك أحداً بالندم أو الحسرة والآهات.... واستمع للمؤرّخ البدري الدمشقي المصريّ، مؤرّخ القرن التاسع للهجرة، حيث قال في "محاسن الشام": (... سبحانه أوجد بها أجناساً ذات أنواع تُسقى بماء واحد، وقدّس أرضها إذ هي مرتعٌ لأصفيائها، وحبَاها لسكنى الأنبياء، واختارها موطناً لعباده الأولياء......
وليس بتزويق اللسان وصوغه ولكنه ما خالط اللحم والدما....
غير إني رميت منها بعد الوصل بقطيعة صدها، كأني أذنبتفي حالة القرب فأدبتني بهجرها وبعدها
عشنا زمانا وليس الوصل يقنعنا واليوم أدنى خيال منك يرضينا
أخي السائح المعتبر المتعظ:
فلتمتع الروح بالحمد والشكر، والعقل بالمعرفة التاريخية، والجسد بالحركة التي يحتاجها الجسم من كل وقت وحين، كي تتآلف قواك وتتوازن، وانظر في قوله تعالى: ((... وفي أنفسهم أفلا يبصرون)).
انتظرونا مع الجزء الأخير من "البيوت الشامية، نسائمها تجمع بين الشاميين"....
المصادر والمراجع:
§ تاريخ دمشق/ لابن عساكر
§ محاسن الشام / للبدري
§ الحوليات الأثرية للجمهورية العربية السورية
§ دمشق / للطنطاوي
§ العمارة الإسلامية / للريحاوي