الباحثة نبيلة القوصي
الشيخ الفقيه المزي
الشيخ الفقيه المزي
يوسف بن الزكي عبد الرحمن بن يوسف بن علي بن أبي الزهر الكلبي المزي
654 /742هجري
(شيخنا وأستاذنا وقدوتنا، الشيخ جمال الدين أبو الحجاج المزي، حافظ زماننا، حامل راية السنة والجماعة، والقائم بأعباء هذه الصناعة، والمتدرّع جلباب الطاعة، أعجوبة زمانه، يقرأ عليه القارئ نهاراً كاملاً، والطرق والأسانيد تختلف، وضبط الأسماء يشكل، وهو لا يسهو ولا يغفو، يبين وجه الاختلاف، ويوضح ضبط المشكل، ويعين المبهم، يقظ لا يغفل عند الاحتياج إليه، ولقد شاهدته الطلبة ينعس فإذا أخطأ القارئ رد عليه، كأن شخصا أيقظه وقال له: قال هذا القارئ كيت وكيت، هل هو صحيح؟ وهذا من عجائب الأمور، وكان قد انتهت إليه رئاسة المحدثين في الدنيا).
التاج عبد الوهاب السبكي ـ
(نظر في اللغة ومهَر فيها، وفي التصريف، وقرأ العربية، وأما معرفة الرجال فهو حامل لوائها، والقائم بأعبائها، لم تر العيون مثله).
ـ الذهبي ـ
إخوتي قراء زاوية "معالم وأعيان":
إن الله عز وجل قد أراد لمدينة دمشق أن تكون المدينة الفريدة بين مدن العالم بدورها الهام في مستقبل الأمة الإسلامية، حيث ورد عن سيد الرسل أنه سينزل المسيح عيسى عليه السلام عند المنارة البيضاء شرقي دمشق، وإلى ذلك الزمان ستبقى دمشق فريدة بعلمائها الذين وُلدوا أو ماتوا فيها، أو اتخذوها سكناً لهم لنشر منهج النبوة المحمدي بالحكمة والموعظة الحسنة، وعلى مر العصور.
لقد احتضنت دمشق رفات علماءٍ أجلاءَ ساهموا في بناء حضارةٍ إسلامية، ومركزٍ لنهضة علمية في جميع الفنون والآداب، فهي مدينة العلم والحضارة التي أرادها الله أن تكون بداية التاريخ ونهايته ومرتكزه، ومهما خبا نورها، ولكنه لن ينطفئ أبداً... بل ينبعث من جديد أقوى مما كان ليشعّ في العالم علماً وحضارة، وأسطورة لا تنتهي....
فهيا معاً ننطلق ونسجل ما أمكن، من قراءة متأملة في سيرة هذا العالم الجليل، حلبيِّ المولد، دمشقي النشأة والوفاة، الذي سكن دمشق وسطّر فيها أروع الصفحات... إنه صاحب الكتاب الشهير (تهذيب الكمال في معرفة أحوال الرجال)، الشيخ الحافظ المتقن "المزّي".
فمن هو؟ ولماذا لُقّب بالحافظ المزي؟
· اسمه ونشأته:
جمال الدين أبي الحجاج، الشيخ المتقن، يوسف بن الزكي الحلبي ثم المزي، وُلد في مدينة حلب من أسرة عربية الأصل ترجع إلى قبيلة كلب القضاعية التي استوطنت البلاد الشامية منذ فترة... ولد سنة654هجري ثم انتفل إلى القرية الكبيرة الواقعة في وسط بساتين دمشق جنوب غربها، التي تدعى ـ المزة ـ لذلك قيل فيها: "مزة كلب"، وفيها على ما يُروى قبر الصحابي دحية الكلبي القضاعي، فلعل هذا يفسر اختيار المزّي ذلك المكان من دمشق سكناً له.
والظاهر أن الكلبيّين كوّنا القسم الأكبر في تلك المنطقة منذ العهود الأولى للإسلام، ولذلك لُقّب بالمزّي، ولُقّب بالمتقن الحافظ لحفظه وإتقانه وتفقهه بالقرآن الكريم والحديث الشريف، وبراعته في علومهما.
كان معتدل القامة مشرّباً بحمرة، قوي البنية، مُتّع بحواسه وذهنه، وكان يمشي إلى الصالحية على الأقدام وهو شيخ في التسعين من عمره، ويستحم بالماء البارد في الشتاء، يمشي في مطالبه دون استعانة بأحد.
· عصره:
كانت بلاد الشام منذ منتصف القرن السابع للهجرة والثالث عشر للميلاد، تعيش في ظل دولة المماليك البحرية التي قامت على أنقاض الدولة الأيوبية بعد ضعفها وتسلط المغول عليها، لكن تمكنت دمشق من هزيمتهم ووقف الزحف المغولي التتري الهمجي في عام 658 لتصبح من أقوى وأعظم مدن العالم الإسلامي في ذلك العصر، ومركزاً كبيراً لنهضة علمية وفكرية في مختلف العلوم آنذاك... فيها المدارس العامرة، ودور القرآن والحديث ...
وأنتجت دمشق تراثاً علمياً تبوأت فيه السيادة العلمية والفكرية في جميع أنحاء العالم الإسلامي، فأنجبت أجلّ وأبرز العلماء، منهم الشيخ "المزّي"، في هذه البيئة السياسية القوية والنشاط العلمي الفكري، وُلد وعاش "الحافظ المزي".
· شيوخه وأقرانه:
اتصل المزّي اتصالاً وثيقاً بثلاثة من شيوخ ذلك العصر، وترافق معهم، وهم: ابن تيمية، والمحدث البرزالي، والذهبي، فكان المزي أكبرهم سناً، وقرأ الثلاثة على المزي واعترفوا بأستاذيته وافتخروا بها... وسَمِع بدمشق وحلب وحماة والحرمين وبعلبك وغيرهم، وفي البداية كتاب الحلية على ابن أبي الخير، ثم المسند والكتب الستة ومعجم الطبراني من الإربلي، ثم من العز الحرّاني وأبي بكر بن الأنماطي، وغيرهم خَلقٌ كثير، فقد سَمِع ببلاد كثيرة، وجُمع له الدراية والرواية وعلوّ الإسناد، وحدّث نحو خمسين سنة.
سمع منه ابن تيمية، والبرزالى، والذهبي، وابن سيد الناس، وتقي الدين السبكي، وخَلقٌ لا يحصون.
وصنّف مصنفات كثيرة أشهرها مصنف" تهذيب الكمال" المُجمَعِ على أنه لم يُصنَّف مثله، وكتاب "الأطراف" الذي سماه "تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف".
فأتى بكل نفيسة، وبالغ في استيفاء شيوخ الرواة، وفي عدالتهم ومناقبهم، أما كتاب "الأطراف"، فقد عني به عناية فائقة الوصف بطريقة تسهل على القارئ معرفة الأسانيد المختلفة، ولكن مجتمعة في موضع واحد.
وقام كثير من العلماء البارزين في الحديث بتصنيف مختصرات لكتب المزي، أمثال ابن حجر العسقلاني والذهبي وغيرهم، بهدف إيصال العلم والمنفعة في أحاديث سيد الخلق.
اشتُهر المزي في العلوم والحديث والخط، ونسخ بخطه المليح المتقن كثيراً لنفسه ولغيره، نظر في اللغة والتصريف فمهَر فيها، وفي معرفة الرجال، كان هو حامل لوائها والقائم بأعبائها.
وتخبرنا المصادر بأن الشيخ المزي قد عُنِي بأهل بيته، فكان يُحضرهم مجالس السماع، وكانت زوجته تُعرف بالمرأة الصالحة الحافظة لكتاب الله، عائشة بنت إبراهيم بن صديق، والتي توفيت قبله بتسعة شهور ودُفنت في مقابر الصوفية... وقد قرأ عليها من النساء خَلقٌ، وانتفعن بها وبصلاحها ودينها وزهدها في الدنيا، وكانت والدة زينب زوج ابن كثير رحمهم الله.
وللمزّي وَلدٌ اسمه عبد الرحمن، الذي وُلّي مشيخة المدرسة النورية، وأصيب بالطاعون ودُفن بمقابر الصوفية مع والده.
· ما قاله العلماء عن المزي:
" كان خاتمة الحفّاظ وناقد الأسانيد والألفاظ، وهو صاحب مُعضلاتنا، وموضّح مشكلاتنا.... ما رأيت أحداً في هذا الشأن أحفظ من الإمام أبي الحجاج المزي"
ـ الذهبي ـ
"هو إمام المحدثين، والله لو عاش الدار قطني، لأستحي أن يدرس مكانه"
ـ تقي الدين السبكي ـ
ويقول تاج الدين السبكي: (وكنت إذا جئتُ غالباً من عند شيخ، يقول لي الوالد: هات ما استفدت، ما قرأت، ما سمعت... فأحكي له مجلسي مع شيوخ دمشق، فكنت إذا جئت من عند الذهبي يقول: جئتَ من عند شيخك.... وإذا جئت من عند الشيخ المزي، يقول لي: جئت من عند الشيخ، ويفصح بلفظ الشيخ، ويرفع بها صوته وأنا جازم بأنه كان يفعل ذلك ليثبت في قلبي عظمته، ويحثني على ملازمته).
شغل الشيخ المزي مشيخة "المدرسة الأشرفية" التي كانت تعدّ كأكبر حاضرة علمية في علم الحديث، فقد وليها عظماء العلماء المحدثين أمثال: ابن الصلاح والنووي وابن شامة وغيرهم، وأصبحت هذه الدار مسكنه لحين وفاته قرابة خمسين عاماً، ينشر بين الناس الدرر المحمدية، من كتب وغيرها، كصحيح البخاري، ويقول السبكي: (وعندما شغر مكانٌ فيها، أنزلني المزّي فيه، فعجبت من الوالد الذي كان يقول إنه لا يرى تنزيل أولاده في المدارس، وكان يؤخّرنا إلى وقت استحقاق التدريس، وها أنا .... وعندما سألته قال: ليقال إنك كنت فقيهاً عند المزّي، على هذا ربّانا الوالد.... وعندما أمر المزّي أن يكتبوا اسمي في الطبقة العليا انزعج الوالد وقال: خرجنا من الجدّ إلى اللعب، لا والله، عبد الوهاب شابّ، ولا يستحق الآن هذه، اكتبوا اسمه مع المبتدئين).
وولي المزي التدريس في أقدم وأعرق دار للحديث بدمشق، وهي دار الحديث النورية إلى حين وفاته..
كان ثقةً وحجّةَ كثير العلم، حسن الخلق، كثير السكوت، قليل الكلام، صادق اللهجة، لم تُعرف له صبوة.
ومتواضعاً حليماً صبوراً، مقتصداً في ملبسه ومأكله، كثير المشي في مصالحه، كثير المحاسن، وإذا آذاه أحد لا يتكلم فيه، كثير السكوت لا يغتاب أحداً...
هذه دمشق العظيمة التي رسّخت بهؤلاء العلماء الأجلاء مفاهيم ومبادئ عمود القرآن الذي وُضع بالشام، وتتجلى آثار صدقهم بأخلاقهم المحمدية، فالحلم والصبر على أذى الناس وكثرة السكوت والتواضع من شيم الكبار الذين يبلغون رسالة نبيهم العظيم، فهو الذي أخبرنا قائلاً: (إنما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق)، فالمسلم ليس بطعّان ولا لعّان ولا فاحش ولا بذيء... والمؤمن هو الذي يحب لأخيه في الإنسانية الخير قبل أن يحبه لنفسه، فالخلق كلهم عيال الله، أحبهم إليه أنفعهم لعياله، وما يكون النفع إلا بصفات طيبة تُذكر بين الخلق ....
إخوتي القراء:
إن الخطر يحيط بمجتمعاتنا ما لم ندرك ونتبصّر بماهية هذا الخطر، مع العلم أن النبي الكريم قد حذرنا عندما سأل صحابتَه الكرام عن المفلس؟ ثم وصفه بأنه من يأتي يوم القيامة وقد شتم هذا وأخذ مال هذا.... وإن كان صاحب عبادة، فأعظم العبادات عند الله حفظ اللسان ...
· وفاته:
قام يتأهب لصلاة الجمعة فشعر بألم في بطنه، والذي كان طاعوناً، فمات وهو يقرأ آية الكرسي، سنة 742هجري في "المدرسة الأشرفية "... التي ظل يتولى مشيختها إلى حين وفاته، وصلّى عليه جمعٌ غفير في الجامع ثم خارج باب النصر، ودُفن بمقابر "الصوفية"، غربي قبر ابن تيمية خلف المشفى الوطني بدمشق. "رحمهم الله جميعا" وجعلنا خير خلف لخير سلف.
· المصادر:
الطبقات الكبرى/ للسبكي
الدرر الكامنة/ لابن حجر العسقلاني
تذكرة الحفاظ/ للذهبي
الوافي بالوفيات/ للصفدي