الباحثة نبيلة القوصي
البيوت الشاميّة - الجزء الثاني
البيوت الشاميّة، نسائمها تجمع بين الشاميّين....
الجزء الثاني
يعتبر البيت الشامي مأثرة من مآثر فن العمارة الإسلامية، فمواصفاته فريدة مميزة قد اكتسبها خلال قرون من الازدهار والتألق الحضاري.
هذه الثروة من البيوت الدمشقية تحتاج منا إلى وقفة تأملية، كيف نشأت ولماذا فاقت شهرتها البلاد؟
ندعوكم لزيارة سياحية إسلامية فيها كثير من التأمل لأخذ العبرة والعظة، فالمسلم الفعال هو الذي لا يفوّت معلومة من دون تدبر وتفقّه، فذلك من الخير الكثير له ولمن حوله...
بعد أن تجوّلنا في حارات وأزقة دمشق الرائعة، لامست شغافَ قلوبنا نسائمُ إيمانية رائعة انبعثت من البيوت الشامية الدمشقية التي أُسّست على طهارة أرض ونفوس، ودلّت على روعة ذلك الدمشقي الذي سكنها وعمّرها بأحسن عمارة يحبها الله ورسوله... فهلّا لبّيتم دعوتنا بوقفة تأمل يريدها منا نبيّنا العدنان ...؟
البيت الدمشقي الشامي، بشكل عام، مغلق من الخارج ومفتوح من الداخل بفسحة سماوية تتوسطها بركة ماء بزرع من مختلف الورود والأشجار، ويتألف هذا البيت من قسمين: البرّاني للضيوف، والجوّاني مستور لأهل البيت... وسيكون لنا جولة بين بيوتٍ هي أمثلة لبيوت عدة لا نعرفها ولكنها معروفة عند الملائكة بالطهارة ونظافة البنيان والنفوس، فهذه العلاقة المقدّسة هي علامة بيوت أهل الشام ....
ومن أشهر البيوت الشامية المسجلة لدى مديرية الآثار والمتاحف: بيت السقا أميني، وبيت الحلواني، بيت السباعي، بيت نظام، بيت جبري، بيت العظم...
هيّا يا إخوتي نستذكر ما غاب عن أذهاننا فغفلنا عن قيمة الأرض التي أكرمنا الله بسكناها، دمشق أمّ الشام... ولنتجول معاً بين أرجاء بيت شامي قديم كبير، يدعى (قصر العظم) نسبة لصاحبه خالد العظم، ويعود إلى قبل مئتي سنة، نقف عند بعض النسمات التي قد فاحت منه لتدل على جمال أرواح الشاميين، مبتغين الفائدة والمتعة معاً...
أولًاـ قصر العظم: مكانه بين الجامع الأموي وسوق البزورية، بُني سنة 1163/1749، وهو اليوم متحف للتقاليد الشعبية، فقد قامت مديرية الآثار بتسجيل عدد من هذه البيوت في عداد المباني الأثرية لحفظها من الهدم والخراب.
ثم باشرت المديرية بأعمال الترميم ليكون هذا البيت نموذجاً للبيت الدمشقي العريق.
وتأتي شهرته من غناه بأنواع الزخرفة العربية والجوّ الشرقي الأصيل المتجلّي فيه، ممثّلاً حصيلة ما أبدعته الحضارات التي عرفتها مدينة دمشق... وإذا وقف السائح من باحة القصر عند الباب تملّكته الحيرة أين يقلّب ناظريه بين الواجهات والجدران المزخرفة من الأعلى إلى الأسفل بمداميك ملونة بالتناوب، وبأشرطة منقوشة، وأحجار مرصعة.
وينعكس الهدوء والسكينة على النفوس الزائرة التي تبتغي الفائدة من جمالٍ وجلالٍ وذكرٍ للرحمن محفور على الجدران، فقد كُتب عليها بأيدي قد كانت لله عاشقة وللعباد داعية أن هلمّوا كي نرتشف من رحيق الإيمان....
وصف البيت:
يتألف البيت من ثلاثة أقسام وهي:
*القسم الخارجي: وهو قسم حديث كان داراً قديمة تطل على الجادة الرئيسية، اشتراها (خالد العظم) ليعمّرها فتصبح مدخلاً لداره، وتكون القسم البرّاني للدار.
*الباحة: وهي واسعة جداً، تضم عدداً من الأحواض المزروعة بأغراس الشمشير والورود وعرائس الياسمين، وأشجار النخيل والمنوليا والليمون والكباد، رُصفت أرضيتها بخيوط من الحجر البركاني الأسود، متداخلة مع خيوط من الحجر المزّي الأزهر، فيها بحرتان، والجدران مكسوّة بمداميك من الحجر الأسود بالتناوب مع الأزهر، يعلوها إطار من التزيينات الهندسية.
*الإيوان: يقع في الناحية الجنوبية من الباحة بين قاعتين أثريتين، قاعة جنوبية غربية وقاعة جنوبية شرقية، سقفها مرتفع يعادل طابقين، وزخارف القاعة كُتبت عليها بخط جميل أبياتٌ من قصيدة البردة للبوصيري:
أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعا جرى من مقلة بدم
والنفس كالطفل إن تهمله شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاصرف هواها وحازر أن توليه إن الهوى ما تولى يصم أو يصم
القاعة الشرقية: فوق القبو، ولها سقف مؤلف من ثلاثة أقسام: الخشب المحفور المزخرف وفي الوسط المرايا ثم النوافذ الخشبية المزخرفة.
القاعة الشمالية الشرقية: حديثة الطراز، وقاعة شمالية غربية: في أعالي جدرانها كُتب عليها من قصيدة البردة:
ومن يكن رسول الله نصرته
إن تلقَه الأُسْد في آجامها نجم
فالله حافظه من كل منتقم
ولهذه القاعات الثلاث نوافذ عليا مزينة بزخارف محفورة جميلة، ويوجد غرفة صغيرة من الناحية الشمالية، تجد عليها زخارف لأبيات شعريّة رائعة، منها:
بدأت ببسم الله والحمد أولا على نعم لم تحصى فيما تنزلا
فمنها ثناء للإله بنفسه على نفسه إذ ليس يحصيه من تلا
ومنها صلاة الله ثم سلامه على المصطفى سر الوجود المكملا
فنسألك اللهم أمنا ورحمة فبالأمن يا رحمن لا تبقي مؤجلا
وكن يا رحيماً راحماً ضعف قوتي ويا مالك كن لي نصيراً وموئلا
وهَبْ لي يا وهّاب علماً وحكمة وللرزق يا رزاق كن لي منهلا
أخي القارئ:
إن الداخل لقصر العظم لا يملّ من التجول فيه والاستمتاع بتأمل محاسنه، فهو يعدّ مفخرة للشاميين الدمشقيين الذين حفظوا عهد الله ورسوله، وجعلوا أرضهم المباركة تستنطق الغريب عن دمشق بقوله: ما أروع نفوسكم أيها الدمشقيون، لا بل ما أجمل أرواحكم التي تنادي علينا للتمتع بهذا الجمال والجلال المتجلّي في هذا المكان... طبتم وطابت مسيرتكم في ترسيخ معالم إسلامنا الجميل.
ولم تنتهي جولتنا بعد ما بين البيوت الشامية الدمشقية فانتظرونا.......
ملاحظة: الصور من أرشيف مكتب عنبر وجزى الله القائمين عليه خير الجزاء.
المصادر والمراجع:
تاريخ دمشق/ لابن عساكر
محاسن الشام/ للبدري
الحوليات الأثرية/ مديرية الآثار والمتاحف
دمشق تراثها ومعالمها/ لعبد القادر الريحاوي