الباحثة نبيلة القوصي
البيوت الشامية - الجزء الأول
البيوت الشاميّة، نسائمها تجمع بين الشاميّين....
الجزء الأول
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الشام صفوة الله من أرضه، وفيها صفوته من خلقه فمن خرج من الشام إلى غيرها فبسخطه، ومن دخل إليها من غيرها فبرحمته))، وقال: ((الخير عشرة أعشار: تسعة بالشام وواحد في سائر البلدان، والشر عشرة أعشار: واحد بالشام تسعة أعشار في سائر البلدان، وإذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم)).
إن المتأمل بكلام النبوة يجد السبب في تزاحم الخلق والعباد على سكنى الشام ودمشق، أم الشام، حيث نجد على مر العصور من يتوافد إليها من كل صوب ومكان...
أنصت واستمع أيها القارئ لمدح العلماء دمشقَ أم الشام، فها هو المحدّث والمؤرخ ابن عساكر قد ترك كتابه الشهير (تاريخ دمشق)، وقد خصص فيه باباً اسمه:
ـ باب ما ورد عن الحكماء والعلماءـ
في مدح دمشق بطيب الهواء وعذوبة الماء
أنشد أبو محمد الصوري في دمشق قائلاً:
بلد ساكنوه قد جعلوا الجنة قبل الحساب دار مقام
ألبستها الأيام رونق حسن ليس يغني ولا مع الأيام
ظاهر طاهر الجمال كما البا طن خلقا هما معا في تمام
لم تفضل بطيبها جنة الخلد عليها بل فضلت بالدوام
وأنشد أبو المطاع قائلاً:
سقى الله أرض الغوطتين وأهلها فلي بجنوب الغوطتين شجون
وما ذقت طعم الماء إلا استخفني إلى برد ماء النيربين حنين
إني حننت حنين مكتئب مترادف الأحزان والكرب
وأنشد أبو المظفر العراقي قائلاً:
فقلت أجل إنها جنة وما ذمها قط إلا غبي
وبالمزة الجنة المستلذ بها العيش والشرف المعجب
وأنهار جلق تجري إلى مساكنها عذبة المشرب
كمثل أهلها ليس مثل ولهم لدى القسط فأطرب لهم وأعجب
إذا وصف المرء ما فيهم من الدين والخير لم يكذب
وقال أحدهم:
أمر بدير مران فأحيا وأجعل بيت لهوي ببيت لهيا
ونعم الدار داريا ففيها صفا لي العيش حتى صار أريا
صفت دنيا دمشق لمصطفيها فلست أريد غير دمشق دنيا
واختتم الباب بقصيدة كبيرة للأمير أبو الفضل إسماعيل ابن الأمير، الذي قال:
عوضته عن موطني فوجدته أحلى وأعذب في الفؤاد وأجملا
وبها وقوف لايزال مُغِلُّها يَستنقِذ الأسرى ويُغنِي العُيّلا
وأئمة تلقي الدروس وسادة تشفي النفوس وداؤها قد أعضلا
وقبور قوم من دعا في مطلب مُتعَسَّر أضحى بها متسهلّا
من صالحين وتابعين وزمرة شهداء شاهدت النبي مرسلا
وكتب البدري الدمشقي _من علماء القرن التاسع للهجرة_ (رحمه الله) كتاب (نزهة الأنام في محاسن الشام):
وما تناهيت في بث محاسنها إلا وأكثر مما قلت ما أدع
بلد صحبت به الشبيبة والصبا لبست ثوب العز وهو جديد
ومن محاسن الشام: (القابون)، وهي حسنة الماء والهواء وإليها ينسب الخيار، ومن محاسن الشام (الصالحية) مشحونة بالزوايا والترب والمدارس، ومن محاسن الشام (جبل قاسيون) وهو جبل مبارك به آثار الأنبياء والصحابة والأولياء، وقرية (منين) خضرة نضرة وبها أفضل الجوز، وقرية (كفرسوسه) وبها معصرة زيت وأشجار الزيتون من زمن عيسى وأمه عليهما السلام مع الفواكه الكثيرة، ومن محاسن الشام قرية (داريا) أعاد الله علينا من بركاتها المتواترة وأفاض علينا من بحار علوم علمائها الزاخرة، ومن محاسن الشام قرية (يلدا) برسم زراعة كروم العنب وعرائشه، و(مرج الشيخ أرسلان) و(الضمير) وإليها يُنسب أفضل البطيخ، ومن محاسن الشام (برزة)، وبها مقام إبراهيم عليه السلام...
ومحاسن الشام فإنها لا تحصى، وغوطتها الجامعة للمحاسن لا تُستقصى، ومن ذلك ما يُصنع فيها من القماش والنسيج على تعداد نقوشه، وقد سبق في علم الله ما كان حمداً وشكراً على حب الوطن فإنه من الإيمان)).
وكتب الشيخ علي الطنطاوي (رحمه الله) يصف دمشق قائلاً: ((دمشق التي يحضنها الجبل الأشم الرابض بين الصخر والشجر المترفع عن الأرض ترفع البطولة العبقرية الخاضع أمام السماء خضوع الإيمان الصادق.
دمشق التي تحرسها الربوة وهي خاشعة في محرابها، دمشق التي تعانقها الغوطة، الأم الرؤوم الساهرة الواسعة التي تبدو للناظر كأنها بحر من الخضرة قد نُثرت فيها القرى التي تنيف على عشرين قرية أكبرها (دوما) ذات الكروم، (وداريا) التي تفاخر بعنبها، (وحرستا) بلد الزيتون، (ومسرابا) حديقة الورود، وكفر سوسه، وكفر بطنا، والأشرفية، وصحنايا... ووراء الغوطة إلى الشمال سهول (المزة)، أصحّ المنازل، وأبعدها عن العلل، وسهل (القابون) عن الشمال، وسهول تمتد حتى تغيب الجبال.... ولجنا حمى الغوطة، هذه بساتينها التي تتصل ساعات على الماشي وما ينفك يمشي في ظلال شجرة مثمرة، أو نبتة مزهرة، ولو اجتمع على مائدة واحدة ما تخرج من الثمار من أنواع المشمش والعنب والتفاح والكمثرى والخوخ لاجتمع أكثر من ثلاثمئة صحن، ما في صحن منها مثل الآخر، وبردى الذي علم أبناءه الولع بالخضرة والظلال فصارت النزهة عندهم من مقومات الحياة، لا تحيا أسرة من دونه...)).
((والدمشقيون أكرم الناس، وأشدهم عطفاً على الغريب وحباً له، ومدينتهم من أنظف المدن لتدفّق مائها وكثرة أنهارها، ووصولها إلى الأحياء كلها ودخولها البرك في الدور، حتى لا يخلو حي من نهر، فنهر(يزيد) يسقي الصالحية، و(تورا) يسقي العقيبة وسوق صاروجا، و(باناس) يسقي القيمرية، و(قنوات) يسقي القنوات، والشاميون مولعون بالنظافة والطهارة، نظافة تطمئن إليها نفس الموسوس))!
إخوتي قراء زاوية (معالم وأعيان):
دمشق، أم الشام، مهد الحضارات الإنسانية وملتقى الديانات السماوية، فيها رجال عشقوا وعرفوا كيف هو حب الأوطان، فمن لم يفقه ذلك فليقرأ تاريخ دمشق لابن عساكر وللبدري والطنطاوي وغيرهم كثر (رحمهم الله) ...الذين أرّخوا لمدينة (العلم والعلماء)، التي إليها يشدّ الرحال بما زخرت من حلقات علم، وبما أنجبت من علماء هم فرسانها يحمونها ويذودون عنها كل مكر وسوء.
بنوا فيها أول مدرسة اختصت بأحاديث المصطفى ليتخرج منها خيرة الرجال، كالنووي وابن كثير وابن الأثير والذهبي والسبكي وغيرهم ... الذين يبعثون لنا بدعوة للوقوف عند تاريخ هذه المدينة العظيمة بتدبّر وتأمل.
لقد اجتمع في دمشق الموقع الجغرافي المميز، والمكانة الدينية والتاريخية الهامة التي جذبت إليها الناس من كل صوب ومكان، فقد يسّر المولى لهم فيها الماء الغزير للاغتسال، فيزيد من صفاء قلوبهم ونقاء سريرتهم فيزدادوا في حب الخير لجميع العباد، ونمَت الأحياء والمساكن والدور فأصبحت دمشق نقطة يلتقي عندها أصفياء الله يجتبيهم إليها.
عرفت هذه المدينة عبر العصور عدداً كبيراً من الأوابد والمباني الهامة، التي تبرز أهمية حضارتها، خاصة من النواحي العمرانية والمعمارية، من بين هذه الأوابد والمباني: البيت الدمشقي القديم، الذي يعدّ ثروة هامة لما يحتويه من عناصر معمارية نشأت وتطورت على مدى آلاف السنين، فهو نتاج تفاعل الإنسان الدمشقي مع دينه و بيئته ومحيطه، حيث استخدم مواد البناء المحلية المتوفرة لديه من طين وحجر وخشب، ليبدع مكان سكناه وإقامته، بما يتناسب مع ظروف حياته الاجتماعية والدينية، فأضاف لمسات فنية تزيد الدار جمالاً وروعة، فهي تشبه الفردوس لما تحتويه من قاعات جميلة وفسحات أجمل، تزينها عرائش الياسمين والورد وأغراس الليمون والكبّاد.
والوصف لا يغني عن جولة نقوم بها معاً في نماذج من بعض البيوت، ولْنستحضر نيّة فهم دقائق الأسرار في عظمة جمال هذه البيوت...
المصادر والمراجع:
تاريخ دمشق / لابن عساكر، محاسن الشام / للبدري
دمشق صور من جمالها / للطنطاوي، الحوليات الأثرية/ لمديرية الآثار