الباحثة نبيلة القوصي
الإمام أحمد عز الدين الرفاعي الملقب بالصيّاد
سلطان العارفين وصياد أفئدة السالكين إلى حضرة القرب الأمين:
الإمام أحمد عز الدين الرفاعي، الملقب بالصيّاد
(أبو الخير في اليمن، وأبو علي في الشام) 574/ 670ھ
بشّر به جده الإمام أحمد الرفاعي الكبير الذائع الصيت في نيل شرف تقبيل يد النبي صلى الله عليه وسلم أمام الخلق عند الحجرة الشريفة، حمله وهو صغير وأثنى عليه فقال: ستكون له دولة وتزوره الأسود...!
كُتب عند ضريح الصياد أبيات له:
قم يا نديمي فهذا الحب يسقيني خمرا به طالب سكري قبل تكوينـي
لقد سقاني فأحياني وحــيــرني وغبت ما بين تمكـيـنـي وتـلـويـنــي
لما حباني بها صهباء صــافــي عددت في القوم من زهر السلاطين
أنا الفتى الصيــاد فـــزت بــهــا من بعد سحق عظامي في الهواوين
لما شربت بفضــل الله رائقــهـا مزجت بالشرع تمكيـنــي وتلوينــي
وما تأخرت يوم الجمع عن أدب إلا وأضـحـى صـيـد الـقلـب يدنيني
سِرْ ياأخا الصدق لا تكسل بخدمته وكــن ملـكـا فـــي زي مـــسـكــيـن
خل المعابد الأطراف تسكنـهــا وانهض بعزم الذي سواك من طين
إخوتي قراء زاوية (معالم وأعيان):
لقد جعل الله عز وجل لكل زمان وعلى مر العصور نجوماً يُستضاء بها ليكونوا هداية للخلق، فلا يتخبطوا في دجى الظلام والجهل والتخلف...علماء وعارفون بالله يرسخون منهج النبوة الحقيقي بسلوك محمدي رائع يدل على أهم عنوان: ((إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق)).
وما بداية الخُلُق الرفيع إلا بحفظ لسان عن كل لفظ قبيح يطال خلق الله وعياله، ضالّين كانوا أو غير ذلك، فأحبنا إلى الله أنفعنا لعياله....
وقد جعل الله عز وجل لهذه المهام شخصيات فريدة نادرة تتمسك بالكتاب والسنة الشريفة بتقى وورع شديد، منهجهم الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، بأحوالهم الدالة على دعوتهم.
والإمام أحمد عز الدين الصياد، عراقي المولد، شامي النشأة والوفاة، كان له دور كبير في ترسيخ المبادئ الإسلامية والقيم الأخلاقية الراقية التي تميز بها إسلامنا بالحال قبل المقال...
بدايةً لابد لنا، أيها القارئ المتأمل المتبصّر، أن نعرف معنى التصوف، والذي يعد ومرتبةُ الإحسان متلازمين متماثلين بالمعاني الراقية التي تهذب القلب في التوجه نحو الخالق الواحد الأحد...
فما زالت البشرية تتخبّط في أسس أخلاقية بعيدة كل البعد عن منهج النبوة الحقيقي، الذي يأمرنا أن نجتنب الغيبة والكذب والغش والخداع وفضول الكلام من الثرثرة وسوء الألفاظ، إلى سوء الظن، وهذا الأمر خطير جداً ما لم نتداركه في البيت فالأسرة والأولاد هم عماد المجتمع وبهم يتم البناء...
أنصت أيها القارئ لما يقوله الإمام أحمد الرفاعي الكبير وهو يعرّف التصوف قائلاً: (كل الآداب منحصرة في متابعة النبي قولاً وفعلاً وحالاً وخلقاً، فالصوفي آدابه تدل على مقامه، زنوا أقواله وأفعاله بميزان الشرع يعلم لديكم ميزانه....)
وقال: (التصوف هو الجد في السلوك إلى ملك الملوك) وقال الإمام الشاذلي: (ليس هذا الطريق بالرهبانية ولا بأكل الشعير والنخالة، وإنما هو الصبر على الأوامر واليقين في الهداية)
ويميز هؤلاء العارفين بالله التواضع ولين الجانب، فيأسرون الناس بسلوكهم وحالهم قبل أن يبهروهم بأقوالهم...
إخوتي القراء:
هيا معاً نقرأ في سيرة الإمام أحمد عز الدين الصياد، حفيد الشيخ أحمد الرفاعي الكبير، راجين المولى أن يلهمنا أحسن الأخلاق، ولنتعرف لماذا لُقّب بصياد الأسود؟
· اسمه:
هو الإمام أحمد عز الدين بن عبد الرحيم الصياد، والده القطب والإمام السيد عبد الرحيم ابن السيد سيف الدين عثمان ابن السيد حسن ابن السيد محمد عسلة ابن السيد الحازم أبي الفوارس ... وعُرفوا بالرفاعي لجَدّهم السابع "رفاعة"، ويتصل نسبهم بنسب الإمام علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم.
· نسبه لأمه:
هو الإمام أحمد بن زينب، بنت شيخ الأمة ومظهر التجليات الربانية، سيد الأولياء: الشيخ أحمد الرفاعي الكبير، صاحب المكرمة الربانية في تقبيل يد سيد البرية.
· ولادته ونشأته:
ولد في مدينة واسط بالعراق سنة 574هجري قبل وفاة جده القطب الشيخ أحمد الرفاعي بأربع سنين، وكان يزور ابنته ويدعو لابنها، أحمد عز الدين، قائلاً:
(اللهم يا من يحسن بلا أسباب، ويرزق من يشاء بغير حساب، أسألك بكلامك القديم ونبيك العظيم أن تمنح هذا الطفل عمراً وبركة وإيماناً كاملاً وتوفيقاً وعرفاناً صحيحاً وسراً طاهراً شاملاً وبيتاً عامراً ونسلاً مباركاً وفتحاً ومجداً وتجرّداً لك عن غيرك بحولك وقوتك إنك على كل شيء قدير)
ويقول الصياد: كان جدي يُجلسني على ركبتيه ويقول: سيكون له شأن كبير وشهرة، تزوره الأسود التي في هذه البقعة.
ولنتأمل دعاء جدّه له، فكم يحتاج أبناءنا أن ندعو لهم بمثابرة ونجعل ذلك من أولويات تربيتنا التي باتت تفتقر إلى الروحانيات... ففي ذلك اتصال مستمر مع الله تعالى صاحب الربوبية والألوهية المطلقة.
· شيوخه:
أخوه لأبيه: أبي الحسن عبد المحسن، تلقى الفقه على المذهب الشافعي والتفسير والحديث من الشيخ عبد المنعم الواسطي، وأخذ الطريقة من الشيخ المرشد عبد المحسن الذي تلقى من سلطان أهل الحال والسماع، شمس العراق، أحمد الرفاعي.
· تلاميذه:
الشيخ ابن نميلة الحسيني حاكم المدينة، والإمام عبد الكريم محمد الرافعي القزويني، والشيخ علم الدين علي بن محمد السخاوي، والعلامة تاج الدين الابيدري، والشيخ أبو بكر العدني، وولده صدر الدين علي، وغيرهم الكثير....
· زواجه:
تزوج من زوجتين، الأولى: السيدة هاجر آل الملك، تزوجها أثناء رحلته إلى مصر وأنجبت له ولداً واحداً اسمه السيد علي، الملقب بأبي الشباك.
والثانية: السيدة خضرا أم الخير، تزوجها في مكتين، ورُزق منها بأربعة ذكور.
· رحلته العلمية:
خرج في ال 48 من عمره إلى الحجاز ليزور جده، ثم جاور الرسول صلى الله عليه وسلم وذاع صيته في المدينة، فهاجر إلى اليمن ومكث 7 سنين، وعندما ذاع صيته هاجر إلى مصر في عام638هجري فأقام في مسجد الحسين، وفيها تزوج، وله ولد لقب بأبي الشباك، ثم هاجر إلى الشام وأقام في حمص ثلاث سنين، ثم هاجر إلى مكتين ـ وهي قرية من أعمال معرّة النعمان-قريبة من حماة، سنة643 هجري، بنى فيها رباط كبير وتتلمذ على يده الآلاف من الخلق بقي فيها إلى أن توفي ودفن في رباطه المشهور.
فالمتأمل لسيرته يلحظ كثرة سفره لكراهته من أي شهرة أو صيت يذاع له، فعاش متنقلاً مهاجراً إلى الله ورسوله، إلى أن جاءه الإلهام الرباني بالاستقرار في الشام، جنة الله في الأرض التي يجتبي إليها صفوته من خلقه...
ألّف كتاب (الوظائف الأحمدية)، والذي يعد من أهم الكتب على الطريقة الرفاعية، له عدة أوراد أهمها (ورد الجوهرة)، وهو مجرَّب للفتوح وقضاء الحاجات، وله شعر لطيف يُسفِر عن روعة نفسه وروحه، فيدخلنا في نسمات إيمانية رائعة.
· صفاته:
فلنتأمل بمَ وصفه العلماء من أخلاق؟:
(كثير الحياء والخشوع، كثير البكاء قليل الكلام، كثير الذكر لين الخلق كريم النفس، حسن المعاشرة كثير الحلم دائم الأطراق، دائم الدعاء، عالما جليلا هينا لينا، محدثا فقيها، قارئ مجود، حافظ مجيد، وليا صالحا، صادقا كريما، حسن المجاورة لجميع الأصناف من الخلق...).
· كراماته:
§ وقعت في زرع أهالي مكتين نار عظيمة في يوم كثير الهواء شديد الرياح، فلجأ إليه الناس، فخرج من زاويته واتجه نحو النار وقال: لا إله إلا الله... فما أتم كلامه إلا والنار قد خمدت.
§ استسقى الناس بعد قحط شديد ببركته فلم تمسك السماء عن الهطول، وكاد أن يتلف الزرع فنزل عن دابته ومشى بين الزرع ممثّلاً بقول الشاعر:
رجال إذا الدنيا دجت أشرقت بهم وإن أمحلت يوما بهم ينزل المطر
يا شامتاً بالموت لا تشمتن بهم حياتهم فخرا ومماتهم زخرا...
فما خرج إلا والسماء قد أمسكت عن الهطول.
§ قال الشيخ شرف الدين أبوبكر عبد المحسن: كنا كلما مررنا على نهر استقبله السمك من النهر إلى الشاطئ، وازدحم على قدميه، وكذلك الدواب والهوام والغزلان في البر، حتى أن الحيوانات نراها تقف له على حافتي الطريق كالرجال، تزدحم إلى قدميه.
أما عن سبب لقبه بالصياد، فتلك حكاية أخرى:
تخبرنا المصادر أن أحد الملوك التتار في العراق جاء لزيارته، وكان منقطعاً في رواق له، وكثر قصّاده وزوّاره، فقال المغولي: يا سيدي، أردنا أن نجعل لرواقك المبارك هذا أقواتاً وأوقافاً كثيرة تستعين بها على مصالح الفقراء لكثرة الواردين إليك، وأنت ليس لك صنعة ولا كسب...
فظهر الجلال على وجه أحمد عز الدين وقبض بيديه في الهواء وألقى أسدين مربوطين بحبل من ليف النخل، وقال له: ((صنعتي هذه وعزة ربي لقد صدتهما من فلاة بربع الخراب))، فهابه الملك وقال: أنعم بك من صياد! فاشتهر بهذا اللقب...
وهناك من يقول إنه لُقب بالصياد لأن كل من حضر مجلسه انجذب قلبه إليه ولازمه، لذا لُقب (بصياد القلوب).
ومنهم من لقبه (بصياد المناقب والمفاخر).
· وفاته:
توفي سنة 670هجري ودُفن في زاويته، رحمه الله، كان كثير التنقل والسفر... وله تلاميذ ومريدون في كل مكان قد انتفعوا منه ونفعوا غيرهم.
اللهم لا تحرمنا الفهم والعمل بما يرضي الله ورسوله، ويرحم الله القائلَ:
إنما المرء حديث بعده فكن حديثا حسناً لمن وعى
فاقرأ واطلع أيها القارئ في سير هؤلاء العلماء الصالحين المصلحين، الذين حفظ الله تعالى بهم الدين، وسيحفظه إلى يوم الحساب.
المصادر والمراجع:
§ الأعلام / للزركلي
§ تاريخ علماء دمشق في القرن الرابع عشر/ محمد مطيع الحافظ
§ الفيوضات المحمدية على الطريقة الرفاعية/ لفواز الحسني