مميز
EN عربي

الباحثة نبيلة القوصي

الكاتب: الباحثة نبيلة القوصي
التاريخ: 07/06/2015

الحافظ المحدث ابن رجب الحنبلي

أعيان الشام

الحافظ ابن رجب زين الدين أبو الفرج عبد الرحمن ابن المحدّث

شهاب الدين أحمد البغدادي الدمشقي

(ابن رجب الحنبلي)

رحمهما الله

في دارِ الخَرابِ تَظَلُّ تَبـنـِي وتـُعـَمّر؟ ما لعمـران خلقـت

وما تركت لك الأيام عــذرا لقد وعظـتك لكن ما اتعظت

تنادي للرحيل بـكـل حــيــن وتعلن إنما المقصـود أنـت!

ونسمعــك الـنـدا وأنــت لاه عن الداعي كأنَّك ما سَمعت

وتـعـلــم أنـه سـفـر بــعـيــد وعن إعداد زاد قـد غـفـلـت

فَمَا بَعدَ المَمَاتِ سوى جَحِيم لعاصٍ أو نـعيـم إن أطـعـت

"ابن رجب الحنبلي"

إخوتي الكرام:

لقد تربعت دمشق في قلوب المؤمنين الصالحين، فسكنوها وعمروها بأفضل الصفات وأحسن الأعمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم بشّر أن من يسكنها هم خيرة العباد وصفوة الخلق.

وعلى مر العصور، ظهرت كتب كثيرة، قديمة وحديثة، تتغنّى بفضائل الشام، أمثال:

(ترغيب أهل الإسلام بسكنى الشام) لعبد الرزاق الدمشقي، و(بغية المرام سكنى المدينة والشام) لعبدالمطلب الخطيب، و(محاسن الشام) للبدري... وغيرها الكثير، و(فضائل الشام) لابن رجب الحنبلي، وهو بغدادي المولد، دمشقي النشأة والعلم والوفية.

جاء مع والده صغيراً، فتعلم من علمائها، ولزم منابر الوعظ والإرشاد، في فترة تاريخية عصيبة مرت على البلاد والعباد. حيث عمت الفوضى ونشأ اضطراب داخلي بسبب الخطر الصليبي، وذلك في عهد المماليك الشركس.

بقي في دمشق إلى أن مات ودُفن فيها، ناصحاً بعدم الخروج منها، وإن عظم البلاء فيها دعاهم للصبر والمصابرة، لحديث المصطفى القائل: ((الشام صفوة الله من بلاده، إليها يجتبي صفوته من عباده، فمن خرج من الشام إلى غيرها فبسخطه، ومن دخلها من غيرها فبرحمة)) مسطّراً سيرة رائعة له فوق هذه الأرض المباركة، تستلزم منا قراءتها بتأمل....

ولعلكم تشوقتم لمعرفة من هو ابن رجب الحنبلي؟

ابن رجب الحنبلي: صاحب شهرة علمية واسعة، اشتُهر بوعظه التربوي الرباني، وبمجالسه المزدحمة دائماً، التي كان السامع فيها يكتسب رقّة في القلب، ومعرفة في العقل.

ولادته:

ولد في بغداد ربيع الأول عام 706ھ، وقدم مع والده إلى دمشق وعمره ثمان سنوات في عام744هجري، ترعرع وتعلم وعلّم في دمشق، فقد عشقها معظما أحاديث النبي الكريم في فضلها وكان يقول في كتابه (فضائل الشام) : (إن من بركات الشام الدينية أن نور النبي صلى الله عليه وسلم، سطع إليها، فأشرقت قصورها منه، فكان ذلك أول مبدأ دخول نور دينه وكتابه فأشرقت به، وطهرها مما كان من الشرك والمعاصي وكمل بذلك قدسها وبركتها). فعاش فيها إلى أن مات ودفن فيها. رحمه الله.

اسمه ونشأته:

الحافظ زين الدين وجمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن الشيخ الإمام المقرئ المحدّث: شهاب الدين أحمد، ابن الشيخ الإمام المحدّث: أبي أحمد رجب عبد الرحمن البغدادي ثم الدمشقي الحنبلي، الشهير (بابن رجب).

نشأ في أسرة علمية، حرص فيها والده على اصطحابه إلى مجالس العلماء، فكان أول شيوخه: والده الشيخ شهاب الدين أبي العباس أحمد بن عبد الرحمن، حيث قرأ عليه ختمة جامعة للقراءات العشر، وكذلك القاضي أبو العباس أحمد بن الحسن بن عبدا لله المشهور (قاضي الجبل).

وقرأ على الشيخ شمس الدين محمد بن أحمد العسقلاني القراءات العشر، فساوى والده في علو السند.

وقرأ على محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن الخباز، وعلى إبراهيم بن داود العطار، وغيرهم.

أجازه ابن النقيب والنووي، وقام برحلات علمية، فسمع بمكة على الفخر عثمان بن يوسف، واشتغل بسماع الحديث بإشراف وعناية والده... وسمع بمصر من الميدومي ومن جماعة أصحاب البخاري.

انتصب لإقراء القرآن بالقراءات في المسجد الحرام كل يوم بكرة وعشية، ثم جاور النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وتصدّى فيها للإقراء ليصبح مع الأيام مقرئ الحجاز، وقد نفع الله به الناس.

استقر في دمشق بعد رحلاته العلمية الكثيرة وسكن بالمدرسة السكرية بالقصاعين، درس في المساجد وبمدرسة الحنابلة.

أكثر من المسموعات، وأكثر الاشتغال حتى مهر وصنّف، فأصبح أعرفهم بالعلل، وتتبع الطرق، وأثنى عليه علماء كبار لسعة علمه وزهده وورعه وعبادته وتهجده وتواضعه وبعده عن أصحاب المناصب.

امتلك لغة الوعظ بأسلوب قصائدي مميز، فكان من يسمع وعظه ينتبه من غفلته ويرتاح لكلامه، اللهم اجعلنا ممن سمع واتعظ وانشغل بإصلاح ذاته عن العباد... اللهم لا تجعلنا من الغافلين يا رب...

من مؤلفاته:

له من فوق الخمس والخمسين كتاباً، مثل: (شرح جامع الترمذي)، (شرح علل الترمذي)،

(ذيل الطبقات للحنابلة)، (جامع العلوم والحكم في الحديث المعروف بشرح الأربعين)، (فضائل الشام)، (القواعد الفقهية)، (الاقتباس من مشكاة وصية النبي صلى الله عليه وسلم)، (أهوال القبور)، (كشف الكربة في وصف حال أهل الغربة)، وشرح قطعة من صحيح البخاري سماه (فتح الباري)، وكتاب (الفرق بين النصيحة والتعبير)،

و (لطائف المعارف فيما لموسم العام من وظائف). حيث شرح هذا الكتاب شرحا ًوافراً يجعل القلوب تشتاق إلى رب الأرباب عن طريق تنبيهها إلى تقصيرها... حيث قال: (الشهور والأيام والساعات، لا تجعلها تُغرك بكثرة عددها، ولتعلم أن العمل قد حان والأجل قد آن).

وكتب الكثير من الكتب النافعة التي عالجت صدأ القلوب وقسوتها. فكان منهجه منهج الطبيب الحاذق يكشف أعراض المرض فيصف له الدواء بدقة، صفاته صفات العلماء الربانيين بحق....

يقول ابن العماد في شذرات الذهب عنه: (كانت مجالسه تذكيراً للقلوب صارعة وللناس عامة مباركة نافعة، اجتمعت الفرق عليه ومالت القلوب بالمحبة إليه، له مصنفات عديدة ومفيدة أتقن الحديث وصار أعرف أهل عصره بالعلل، وتتبع الطرق، تخرج به أصحابنا الحنابلة بدمشق).

ويقول ابن حجر العسقلاني: (هو الإمام الحافظ المحدث الفقيه، تخرج به غالب أصحابنا الحنابلة بدمشق).

مدحه وأثنى عليه كبار العلماء في علمه وخلقه رحمه الله، فكان خير خلف لخير سلف....

وكان قبل كل ذلك قرة عين لوالديه وأهليه والناس كلهم.......

من أقواله:

ـ (إخواني المعول على القبول لا على الاجتهاد، والاعتبار ببر القلوب لا بعمل الأبدان، رب قائم حظه من قيامه السهر، كم من قائم محروم، وكم من نائم مرحوم، هذا نام وقلبه ذاكر، وهذا قام وقلبه فاجر).

ـ (أرض الجنة اليوم قيعان، والأعمال الصالحة لها عمران، بها نبني القصور وتغرس أرض الجنان، فإن تكامل الغراس والبنيان انتقل إليه السكان)

ـ (أنين المذنبين أحب إليه من زجل المسبحين لأن زجل المسبحين ربما شابه الافتخار وأنين المذنبين يزينه الانكسار والافتقار).

وقال: (من لم يتحقق بعبودية الرحمن وطاعته، فإنه يعبد الشيطان بطاعته له، ولم يخلص من عبادة الشيطان إلا من أخلص عبودية الرحمن).

وقال: (شر الناس منزلة عند الله من تركه الناس اتقاء فحشه).

وقال في الترمذي مرفوعاً: ((من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله))، فكان يشدد على آداب النصيحة والوعظ، فالمسلم ليس بالسبّاب ولا باللعان ولا بالفاحش أو بالبذيء، فسباب المسلم فسق وقتاله كفر....

رحمك الله يا شيخنا الجليل، ورزقنا الله قلباً يحب الله ورسوله بصدق فيعمل بما يرضي الله وليس بما يرضي العباد.....

فيا أهل الشام، شيخنا يرسل إلينا نصيحة هامة: لا ترغبوا عن الشام وتمسكوا بنصيحة نبيكم الكريم، اسكنوها ورابطوا فيها بطيب الأخلاق، فلن يضركم من خالفكم ولا من خذلكم، اصبروا وصابروا واعملوا على الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وتذكروا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم، لاتزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة.)) ...وله نصائح على شكل رسائل نختار لكم هذه حيث قال: في زمن الفتن التزم العبادة بالقلب واللسان والجوارح لأن في زمن الفتن يتبع الناس أهوائهم فيصبحون بحال شبيه بالجاهلية الأولى...لقول النبي: ((العبادة في الهرج كهجرة إلي)) ....

رحمه الله وجزاه كل الخير ومن لامست الرقة والراحة شغاف قلبه، فقد نال من الشيخ جزءا من روحانياته الإيمانية ألا بذكر الصالحين تتنزل الرحمات....

وفاته: (رحمه الله) فيها موعظة لنا، فتأمل أخي القارئ هذه السطور:

قيل إنه جاء إلى حفار للقبور وقال له: احفر لي هنا لحدّ، وأشار له إلى بقعة، قال الحفار: فحفرت له ونزل فيه واضطجع فيه فأعجبه وقال له: هذا جيد، ومات بعد أيام فدفن فيه!

كانت وفاته في رمضان عام795ھ -(رحمه الله)- ودفن بالباب الصغير جوار قبر الفقيه الزاهد أبو الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي المقدسي المتوفى عام486هجري.

فاجتهد يا أخي بتزكية نفسك باستمرار في الحياة الدنيا، علك تفوز بنسمات الشوق والسعادة للقاء الله عز وجل... فيصبح الموت طرباً لا كرباً، كسيدنا بلال الذي كان يقول عند احتضاره: واطرباه، غداً ألقى الأحبة، محمداً وصحبه....

جمعنا الله بهم جميعاً، تحت لواء سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، اللهم آمين.

تعالوا يا إخوتي نعوّد أنفسنا وأبناءنا على تزكية النفس باستمرار في خلوة صادقة مع الله، ندعو المولى بذلّ وانكسار أن يحفظنا من شرور النفس وهواها، ولنا في رسول الله، الذي كان يخلو بنفسه في غار حراء، أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر...

المصادر:

شذرات الذهب في أخبار من ذهب/ لابن العماد الحنبلي.

السحب الوابلة على ضرائح الحنابلة/ للمكي.

درر العقود الفريدة/ للمقريزي.

معجم المؤلفين/ لكحالة.

الأعلام / للزركلي.

تحميل