الباحثة نبيلة القوصي
العارف بالله أبو سليمان الداراني
أبو سليمان الداراني
(140-215 هــ)
تحتضن مدينة دمشق في ترابها الغالي عدداً كبيراً من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ,والصحابة الكرام ,وعدد من العلماء الأفذاذ والأمراء الملوك الذين سطروا أسمائهم في كتب التاريخ ,تحتاج منا اليوم قراءة متأملة وعميقة في سيرهم وأخبارهم كي نستخلص منها العبرة والعظة.
قال تعالى [لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ]... فالعبرة والعظة وسيلة تربوية هامة نكتسب من خلالها الحكمة في أمورنا كلها.
ندعوكم أخوتي الكرام للتأمل معاً في سير الصالحين الذين سبقونا بالإيمان لنتعلم ونعمل على نهجهم ونكون خير خلف لخير سلف.
اليوم سنقرأ سيرة أبا سليمان الداراني الذي قدم إلى دمشق في القرن الثالث الهجري وكانت له بصمة خير فوق أرضها ولندعو الله أن يكرمنا ويوفقنا في قرائتنا هذه كي نشحن الهمة في نفوسنا وقلوبنا للعمل الصالح الذي يرضاه الله.
وربما قراءة في سطور التاريخ تحيي القلب للعمل ,خير من مجالسة أحياء فوق الأرض يُميتون القلب وقد قال الإمام الشافعي:
قد مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات
من هو أبو سليمان الداراني؟
تكلم عنه ابن القيم في المدارج وقال : ( كان أبو سليمان الداراني مضرب المثل في العبادة من أهل الشام مثلما كان الحسن البصري بالبصرة وهو من أبرز علماء الصوفية الحقيقية في القرن الثالث الهجري وكان يلقب بعابد أهل الشام )
وقال ابن كثير: (وهو أحد أئمة العلماء العاملين أصله من واسط قدم دمشق وسكن في قرية غرب دمشق يقال لها داريا ,فنسبه بالداراني إلى داريا رحمه الله)
وذكره الإمام الذهبي في سير الأعلام بالإمام الكبير زاهد عصره.
فأبو سليمان له حكم في الصوفية مفادها نبذ الدنيا والزهد فيها ,فهو من شيوخ الجيل الأول الذين مهدوا الطريق أمام الحركة الصوفية وأسسوا قواعد من الآداب النظرية والعلمية وقد سبقهم جيلان من زهاد الصحابة والتابعين.
نشأ أبو سليمان في واسط ثم هاجر في شبابه فنزل داريا وقضى معظم سني عمره جاراً لأقربائه العنسيين فيها.
وداريا تحتضن عدداً كبيراً من العلماء والمحدثين والصوفيين المشهورين في العصور الماضية.
كأبي مسلم الخولاني وأبو إدريس الخولاني من أشهر رواة الحديث وقد شاركوا الأمويين غزواتهم على الروم والداراني معهم وغيرهم كثير وخولان وعنس من أصول عربية خالصة تنتمي إلى قبائل في اليمن.
من أقوال الداراني :"إذا ترك الحكيم الدنيا فقد استنار بنور الحكمة".
اسمه ومولده:
عبد الرحمن بن أحمد وقيل عبد الرحمن بن عطية وقيل ابن عسكر العنسي الداراني ,ولد عام 140 للهجرة في مدينة واسط.
روى عن:
سفيان الثوري وأبي الأشهب العطاردي وعبد الرحمن بن زيد البصري وعلقمة بن سويد وصالح بن عبد الجليل.
تلاميذه:
أحمد بن أبي الحواري وهاشم بن خالد وحميد بن هشام العنسي وعبد الرحيم بن صالح الداراني وإسحاق بن عبد المؤمن وعبد العزيز بن عمير وإبراهيم بن أيوب الحوراني وغيرهم...
و قد اشتهر بأقوال بالغة الحكمة سنورد بعضاً منها:
"ربما يقع في قلبي النكتة من نكت القوم أياماً فلا أقبل منه إلا بشاهدين عدلين الكتاب والسنة"
"أفضل الأعمال خلاف هوى النفس"
"لكل شيء علم ومن علم الخذلان ترك البكاء ،و لكل شيء صدأ وصدأ القلب الشبع"
"إذا تكلف المتعبدون أن يتكلموا بالإعراب ذهب الخشوع منهم"
"من خلق الله خلقٌ لو زُينت لهم الجنان ما اشتاقوا إليها ،فكيف يحبون الدنيا وقد زهدهم فيها"
"لولا الليل لما أحببت البقاء في الدنيا ولربما رأيت القلب يضحك ضحكاً"
"من اشتغل بنفسه شُغل عن الناس، ومن اشتغل بربه شُغل عن نفسه وعن الناس"
"من وثق بالله في رزقه زاد في حسن خلقه، وأعقبه الحلم ،وسخت نفسه، وقلت وساوسه في الصلاة"
"الفتوة أن لا يراك الله حيث نهاك ولا يفتقدك حيث أمرك"
"من رأى لنفسه قيمة لم يذق حلاوة الخدمة"
"أصل كل خير الخوف من الدنيا ومفتاح الدنيا الشبع ومفتاح الآخرة الجوع"
"إذ غلب الرجاء على الخوف فسد الوقت"
"إذا سكنت الدنيا في قلب ترحلت منه الآخرة"
"كل عمل ليس له ثواب في الدنيا ليس له جزاء في الآخرة"
إذا جاع القلب وعطش صفا ورق، وإذ شبع وروي عمي"
"لكل شيء صدقٌ وصدقُ اليقين الخوف من الله تعالى"
"من كان الصدق وسيلته كان الرضا من الله جائزته"
"من أراد واعظاً بيناً فلينظر إلى اختلاف الليل والنهار"
"لكل شيء معدن ومعدن الصدق قلوب الزاهدين"
"إذا سكن الخوفُ القلبَ أحرق الشهوات وطرد الغفلة من القلب"
و له الكثير في هذه المعاني الراقية في (تاريخ دمشق) و(الحلية) .
توفي عام (215 ﻫ)، ودفن في داريا وقبره فيها مشهور عليه بناء وقبله مسجد بناه الأمير ناصر الدين عمر النهرواني.
وفي نهاية المطاف يا إخوتي الكرام لا بد لنا من استخلاص العبرة والعظة مما قرأنا معاً في ترجمة أبي سليمان الداراني لنتعلم ولو اليسير من أقواله التي ذكرنا ،نتعلم ضرورة القناعة في العيش والرضا بما قسم الله لنا بعد أخذنا بالأسباب وعنوان الرضا هو الحمد والشكر على اللسان وفي القلب.
قال تعالى: [لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ]
من الواضح أن بعض الناس يصبح في قلق واضطراب إذا حرم من كماليات الحياة يعيش بقلب مشغول قد يجره هذا إلى الإثم وسوء الخُلُق ,فيصبح حياً في الظاهر ولكنه في بلادة روحية شديدة كالميت.
فالحل بالقناعة والرضا بما قسمه الله سواء أقبلت الدنيا أو أدبرت ،ما أجمل هذه المعاني الراقية حين تذوب في القلب وما أحوجنا لخلوة مع الله كي لا تموت هذه المعاني فنصبح كالأموات بالرغم من أننا أحياء نمشي فوق الأرض.
ونختتم بكلام أبي سليمان الداراني:
"الدنيا تطلب الهارب منها فإن أدركته جرحته, وإن أدركها الطالب لها قتلته".
وفي الختام ندعو الله أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، رحم الله الداراني .