الباحثة نبيلة القوصي
العلامة ابن مالك صاحب الألفية
العلامة ابن مالك، حجة العرب في اللغة
672هـ = 1273مـ
إخوتي قراء زاوية "معالم و أعيان" :
جولتنا السياحية التاريخية هذه ستكون قراءة في أسطر ترجمة عالم بلسان العرب، ذاك الذي قدِم من المغرب إلى الشام ليستوطنها بطيّب الأعمال، و بعلم يُنتفع به، و ولد صالح يدعو له، و صدقة جارية .... فهل عرفتم من هو؟
إنه صاحب القصيدة الألفية المشهورة باسم "ألفية ابن مالك"، و هي متن يضم أغلبية قواعد النحو و الصرف في منظومة شعرية يبلغ عدد أبياتها حوالي الألف بيتٍ على وزن بحر الرجز ... قام بشرحها علماء أجلاء على مر العصور، مبهورين بإتقانه و روعة تنظيمه، لِما تميزت به من التنظيم والسهولة في اللفظ مع الإحاطة بالقواعد النحوية بإيجاز محكم وترتيب لقواعد النحو، وقام بعض العلماء أيضاً بإعراب أبياتها، وأشهر الشروح هو(شرح ابن عقيل)، ت: 769هـ، و(شرح الأشموني)، ت: 929هـ، و (ابن هشام الأنصاري)، ت: 761هـ، و غيرهم من علماء النحو ..
يبتدئ ابن مالك الألفية فيقول :
قال محمد هو ابن مالك أحمد ربي الله خير مالك
مصليا على النبي المصطفى و آله المستكملين الشرفا
و أستعين الله في ألفيه مقاصد النحو بها محويه
كلامنا لفظ مفيد كاستقم و اسم و فغل ثم حرف الكلم
واحده كلمة و القول عم و كلمة بها كلام قد يؤم
بالجر و التنوين و الندا و أل و مسند للاسم تمييز حصل
لقبه :
جمال الدين أبو عبد الله، و اسمه محمد بن عبد الله بن عبد الله بن مالك الطائي الجياني : نسبة إلى جيان، بلد بالأندلس، ولد فيها سنة 600 هـ، حفظ القرآن الكريم و القراءات في بلده، ثم أقبل على تعلم النحو و الفقه على مذهب الإمام مالك، فأخذ القرآن و العربية بجيان من خيرة علمائها، ثم رحل ما بين سنة 625هـ، و 630هـ إلى الشام ليستقر في دمشق كأكثر عادة علماء ذاك العصر، فنبغ في اللغة و النحو، حتى صار مضرب المثل في معرفة دقائق النحو و اللغة و أشعار العرب.
قام بالتدريس في حلب و حماة، و دمشق، بعد أن أتم دراسته و أخذه من علماء الشام، كان إمام المدرسة السلطانية بحلب و حماة، ثم في الأموي و العادلية الكبرى، فعاش أكثر من سبعين عاماً قضاهن في الدراسة و التعليم و التصنيف، شواهده من القرآن الكريم، فإن لم يكن فيه شاهد عَدِل إلى الحديث، و إن لم يكن فيه عَدِل لأشعار العرب.
رأي العلماء فيه :
قال الذهبي: صرف همته إلى إتقان لسان العرب، حتى بلغ فيه الغاية فكان حَبراً لا يجارى، و كان إماماً باللغة العربية و بحراً في النحو و التصريف، و إماماً في القراءات و عِللها، و إماماً في حفظ الشواهد و ضبطها، و له من الدين المتين، و التقوى الراسخة.
و قال تاج الدين السبكي: كان من الدين المتين، و صدق اللهجة، و كثرة النوافل، و حسن السمت، مع رقة في القلب، و كمال العقل.
و امتدحه النووي فائلا: شيخنا الذي انتهت إليه في عصرنا الإمامة في اللغة العربية .. و أثنى عليه كثيراً.
و كان ابن مالك من شدة إخلاصه يقف على باب مدرسة العادلية، و يقول: هل من راغب في علم الحديث أو التفسير أو كذا أو كذا، قد أخلصتها من ذمتي، فإذا لم يجد قال: خرجت من آفة الكتمان.
و كان من همته العالية التي شهدت عليها جوارحه، أن قيل عنه أنه قد حفظ يوم موته ستة من الأبيات، و إذا بحثوا عنه وجدوه منكبّاً فوق الأوراق يكتب .. و ما الإنسان إلا بطيب أعماله !
مؤلفاته:
"تسهيل الفوائد في النحو"، كتاب "الضرب في معرفة لسان العرب"، و "الكافية الشافية"، و "سبك المنظوم و فك المختوم"، و غيرها من العلم المفيد النافع ... و يكفيه فخراً ألفيّته الشهيرة التي استفاد منها أجيال و أجيال، و لا تزال تُدرّس لليوم في الجامعات و المعاهد في أنحاء العالم العربي.
مات بدمشق سنة 672هـ، و دُفن في الصالحية بسفح قاسيون، في مقبرة الروضة بالقرب من موفق الدين ابن قدامة، رحمهم الله و جزاهم المولى عنا كل خير.
خلِفه من بعده ابنه بدر الدين بن مالك، الذي توفي بدمشق سنة 687هـ = 1288مـ، و دُفن بالباب الصغير.
و من تصانيفه : شرح الألفية لوالده، و المصباح في المعاني، و شرح لامية والده في الصرف.
و في الختام:
ماذا عسانا أن نقول ..؟ كان معلماً في النحو و اللغة، شواهده من القرآن الكريم المعجز، و الحديث الشريف، ثم من أشعار العرب.. فكان فارساً في النحو، لا يشغل باله إلا الفائدة الممزوجة بالمتعة اللغوية، أراد بها أن تصل لكل من كان شعاره تحصيل الفائدة و تذوق المتعة في الرقي باللغة .. حيث يقول :
كلامنا لفظ مفيد كا ستقم و اسم و فعل ثم حرف الكلم
... إشارة إلى الصلاح و التقوى، الذي هو معيار الإنسان في الأرض، ثم تُرجمت ألفيّته إلى عدة لغات، ليستفيد منها
أجيال و أجيال على مر العصور، فهل نحن يا أخي السائح إلا ساعات و دقائق ستصير غداً تحت التراب، تُسأل عن عمرها فيما أفنته ..؟
اللهم ألهمنا العمل الصالح، والعلم النافع، بروح تنشد التقى و الرقيّ و المباهاة أمام سيد الأخلاق .
الباحثة نبيلة القوصي
المصادر:
ـ شذرات الذهب / لابن العماد
ـ العبر في خبر من ذهب / للذهبي
ـ طبقات الشافعية الكبرى / لتاج الدين السبكي