الباحثة نبيلة القوصي
الشيخ موفق بن قدامة المقدسي الحنبلي
الشيخ موفق بن قدامة المقدسي الحنبلي،541-620 ﻫــ
تمثل مدينة دمشق العريقة القلب النابض للحضارة الانسانية والاسلامية في العالم العربي، فالتراكم الحضاري البنياني والسكاني المتنوع على مر العصور جعلها تأخذ هذا الدور الهام، كانت ولا زالت العاصمة الثقافية الاسلامية للعالم الاسلامي.
فعندما نقرأ التاريخ نجد نجوماً تلمع فوق تلك الاسطر بوضوحٍ في فخر وعزّة تنادينا كي نحذو حذوهم للسّير في ركب الحضارة من خلال التمسك بمنهج النبيّ الكريم عليه الصلاة والسلام، فتكون خلافتنا على الأرض خلافة حقٍّ وخير.
قال تعالى: ( وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً).
قال عليه الصلاة والسلام: (تركتٌ فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلّوا بعدي: كتاب الله وسنّتي.......).
فالمهمة الأساسيّة التي كُلف الإنسان بها هي عمارة الأرض مادياَ، معنويا، اقتصاديا، علميا......إلخ ، بما يحب و يرضى الله ورسوله.
وهاهي إحدى العائلات الفلسطينية: عائلة بني قدامة التي كانت قد هربت بدينها من ظلم وجور الصليبيين أثناء احتلالهم للقدس ولمدن أخرى عام 492هـ.
قصدوا مدينة دمشق وسكنوا في سفح قاسيون الذي كان مقفرا منعزلا خارج أسوار دمشق القديمة.
ولكن، كيف عمروا هذا السفح، حتى صار من أهم أحياء دمشق القديمة والذي عُرِف فيما بعد بحي الصالحية نسبةَ لصلاحهم؟.
وما هو هذا السر الغامض الذي جعلهم مميزين عن غيرهم من السكان الذين شاركوهم الأرض والحياة ذاتها؟ فالأرض والحياة عنصران من عناصر الحضارة، لكنّ أهمّ هذه العناصر هو العنصر الثالث: الإنسان، فهو المحور الأساسي وسر نهضة الحضارات، بما يحمل من مفاهيم ومبادىء خيرة تعم عليه وعلى غيره بالخير المديد.
وكنا سابقا قد تكلمنا عن الشيخ الكبير أحمد بن قدامة، الذي وضع حجر الأساس في بناء حي الصالحية بإرادة وهمة ابتغى بها رضى الله ورسوله، فجاء أبناؤه وأحفاده من بعده، كي يرسوا معالم هذا الهدف السامي، وينالوا مباهاة الرسول بهم، يوم لا ينفع الإنسانً إلا العمل الصالح.
كما وتكلمنا عن ولده الأكبر: أبو عمر، صاحب المدرسة العمرية، وعن رقيّة، الداعية الحافظة لكتاب الله، وعن رابعة المحدثة.
أما الآن، فسنتناول الحديث عن الأخ الرابع: العالم الفقيه الجليل، صاحب "المغني"، للمذهب الحنبلي: موفق بن أحمد بن قدامة.
الشيخ الإمام القدوة العلامة المجتهد شيخ الإسلام موفق الدين محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة بن مقدام بن نصر المقدسي الجماعيلي الدمشقي الصالحي الحنبلي.
مولده و نشأته:
وُلد في جماعيل و هي قرية من قرى نابلس قريبة من القدس سنة 541ﻫ.
هاجر مع أهله و أقاربه و له من العمر 10 سنين، حفظ القرآن الكريم ولزم العمل منذ الصغر... ولنا أن نتأمل و نتصور نشأته التربوية في ذلك العصر الذي تعصف به التحديات عصفاً، الصليبيون يحتلون بعض المدن العربية والقدس وماحولها، فماذا فعل هذا الشاب المقدسي؟؟
بقي مع أهله قبل الهجرة يتلقى العلوم الشرعية الصحيحة ليعرف دينه من دنياه، ويجعل دنياه خادمة لدينه، حفظ القرآن صغيراً، هاجر وهو ابن 10سنين، وعاش وتعايش مع الظروف الصعبة التي تعرض لها هو وأهله بصبر وعزيمة وإيمان قوي لهدف واضح نُقش وسُطرت معانيه في قلبه وقلوب أهله منذ الصغر بيد والدهم، ذلك الشيخ الكبير رحمه الله.
وإذا تساءلنا ما هو هذا الهدف العظيم الذي كانت تحمله هذه العائلة الكريمة من الصغير إلى الكبير؟
إنه عمارة الأرض بالخير و السلام، وخلافة الله عز وجل بما يحب ويرضى، فهربوا إلى دمشق التي كانت تحتضن جميع الخلق الذين يحملون هذا العنوان الجميل الذي أراده الله منا على أرضه.. "الخلق كلهم عيال الله، أحبهم إلى الله أنفعهم إلى عياله".
عودة للشيخ موفق:
هاجر مع ابن خاله الحافظ عبد الغني المقدسي زوج أخته المحدّثة رابعة بنت قدامة، إلى بغداد وعمره عشرون عاماً، طلباً للعلم، فأدركا الشيخ الجيلاني قبل وفاته بأربعين يوماً، ونزلا في مدرسته وتعلما واشتغلا بها.
سمعا منه الحديث كما سمعاه من: هبة الله بن الحسن الدقاق، أبي الفتح بن البطي، أبي زرعة بن طاهر، أحمد بن المقرب، علي بن تاج القراء، وشهدة الكاتبة، وغيرهم...
وتلا بحرف نافع على أبي الحسن البطائحي، وبحرف أبي عمرو على أستاذه أبي الفتح بن المني.
وسمع بدمشق من أبي المكارم بن هلال وعدة، وبالموصل من خطيبها أبي الفضل الطوسي، وبمكة من المبارك بن الطباخ.
حدّث عنه:
البهاء عبد الرحمن,و الجمال أبو موسى بن الحافظ,و ابن نقطة,و ابن خليل,و ابن شامة,و ابن النجار,و العز أحمد بن العماد.....و غيرهم كثير رحمهم الله.
لقد كان الموفق عالم أهل الشام في ذلك الوقت، وكان مشرفاً إدارياً وعلمياً للمدرسة العمرية التي أسّسها مع أخيه أبي عمر فلنستمع إلى شهادات أهل العلم في عصره عنه.
قال ابن النجار: "كان موفق الدين إمام الحنابلة بجامع دمشق، وكان ثقة حجة، غزير الفضل، نزيهاً ورعاً عابدا، عليه النور والوقار، ينتفع الرجل برؤيته قبل أن يسمع كلامه".
وقال عمرو بن الحاجب: "هو إمام الأئمة، ومفتي الأمة، خصّه الله بالفضل الوافر، والخاطر الماطر، والعلم الكامل، طنت بذكره الأمصار، وضنت بمثله الأعصار، أخذ بمجامع الحقائق النقلية والعقلية، وله المؤلفات الغزيرة، متواضع حسن الاعتقاد، ذو أناة وحلم ووقار, مجلسه معمور بالفقهاء والمحدّثين، كان كثير العبادة، دائم التهجّد، لم نرَ مثله، ولم ير مثل نفسه".
إخوتي الكرام...
هذه بعض شهادات العلماء لهذا العالم الجليل الذي عاش تحديات تماثل في صعوبتها تحديات عصرنا، غير أن الفرق بيننا يكمن في عمق الإيمان، فهم لم يتحسروا على ما تركوا من بيوت وأراض ومتع خوفاً على دينهم، بل انشغلوا بزرع هذه البذرة الإيمانية وتنميتها بمجاهدة النفس وهوى الفؤاد المدعوم بالعمل الصالح والعلم النافع.
فها هو الضياء المقدسي ابن رقية الحافظة أكبر محدّث في ذلك العصر، يصف لنا خاله موفق الدين في جزأين قائلاً:
"كان تام القامة، أبيض مشرق الوجه، أدعج، كأن النور يخرج من وجهه لحسنه، واسع الجبين، طويل اللحية،ـ قائم الأنف، مقرون الحاجبين، صغير الرأس، لطيف اليدين والقدمين، نحيف الجسم، متمتعاً بحواسه".
و يتابع الضياء: "أقام هو والحافظ في بغداد أربع سنين، فأتقنا الفقه و الحديث و الخلاف.
أقاما عند الجيلاني ثم عند ابن الجوزي، ثم انتقلا إلى رباط البقال,و اشتغلا على ابن المنّي,ثم سافر في سنة 567 ومعه الشيخ العماد".
وقال: "كان خالي إماماً في التفسير، وفي الحديث ومشكلاته، إماماً في الفقه، وإماماً في أصول الفقه، وإماماً في النحو والحساب...
رأيت أحمد بن حنبل في النوم فألقي عليه مسألة، فقلت هذه في الخرقي "كتاب للموفق"، فقال: ما قصّر صاحبكم الموفق في شرح الخرقي".
كما قال: "كان الموفق لا يناظر أحداً إلا وهو مبتسم، وما علمنا أنه أوجع قلب طالب، وقد كانت له جارية تؤذيه بخلقها فما يقول لها شيئاً، وأولاده يتضاربون وهو لا يتكلم. فكان حسن الأخلاق لا يراه أحد إلا مبتسماً، يحكي لنا الحكايات ويمزح".
وقال المفتي أبو عبيد الله عثمان بن عبد الرحمن الشافعي: "ما رأيت مثله، كان مؤيداً في فتاويه".
كانت له كرامات عدة، أما عن صفة الشجاعة التي كان يتصف بها فله بذلك صفحات وصفحات في معارك شارك فيها الجيوش لمقاتلة الصليبيين، فكان مقداماً يتقدم إلى العدو بشجاعة كبيرة.
ووصف لنا الضياء صلاته: "كان يصلي بخشوع، ولا يكاد يصلي سنة الفجر والعشاءين إلا في بيته، وكان يصلي بين العشاءين أربعاً ب"السجدة" و"يس" و"الدخان" و"تبارك".
من مؤلفاته:
"المغني" عشر مجلدات. "الكافي" أربعة. "المقنع" مجلد واحد. "التوابين" مجلد. "البرهان" جزء. "ذمّ التأويل" جزء. "القدر" جزء. "فضائل الصحابة". "وصيته" جزء. "مختصر العلل للخلال" مجلد، و غيرها من الكتب الكثير...
أسرته:
تزوج من ابنة عمته، وله: المجد عيسى، ومحمد ويحيى، وصفية وفاطمة.
وفاته:
توفي سنة 620ﻫ، وشيّعه الخلق الذين لا يُعدَّون، ودُفن بجوار سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه، رحمه الله تعالى.. ورضي عن هذه العائلة الكريمة، التي زرعت بذور الخير في تربة سفح قاسيون، فأثمرت وأينعت ثمارها، ولا زالت نسائم هذا الخير تهب تارة بالمؤلفات الكثيرة التي تركوها، وتارة بالمدارس والمؤسسات العلمية التي أنشؤوها... فأين نحن منهم ؟
لذلك خاطبنا الشيخ علي الطنطاوي في كتابه (دمشق) بقوله:
"وبعد هل يليق بأهل دمشق وهي دار الوفاء، وبأهل الصالحية خاصة، أن ينسوا هؤلاء العباقرة الأعلام، فلا يذكرهم ذاكر، ولا يعرف سيرتهم أحد، ولم يسمّ بأسمائهم مدرسة في الصالحية ولا شارع؟..".
في نهاية المطاف، نقرأ الفاتحة على أرواحهم.. وندعو الله تعالى أن يكرمنا بحسن الاتباع والهمة للعلم النافع والعمل الصالح.
"المراجع"
*سير أعلام النبلاء للدهبي.
*تاريخ الإسلام للدهبي.