الباحثة نبيلة القوصي
المحدثة رابعة بنت قدامة
المحدّثة رابعة بنت أحمد بن قدامة
544-621 ﻫ
"..وصلوا إلى دمشق بعد متاعب و أهوال و كانوا خمسة و ثلاثين: الشيخ و ابنه أبو عمر و الموفق و الباقون من النساء و الأطفال فوجدوا مكاناً على نهر يزيد في سفح قاسيون فبنى مدرسة سُمّيت الدير و أنشأها من عشر غرف صغار ولا يزال الموضع إلى اليوم يُسمّى بحارة الدير... وكان ذلك أول ما أُنشئ من حي الصالحية وكان هذا الدير أساس حي الصالحية ولبثوا أكثر من قرن ونصف وهم المرجع في علوم الحديث وبرعوا فيها حتى أن الضياء كان يُعدّ محدّث عصره وتتابع ظهور العلماء الكبار من هذه الأسرة و استمرت هذه النهضة على قوتها و شدتها أكثر من ثلاثمائة سنة وكان هذا كله في العصر الذهبي الذي نسميه عصر الظلام".
كلمات بتوقيع الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله
من كتابه دمشق.. صور من جمالها و عبر من نضالها
إخوتي الكرام...
هل تساءلنا يوماً عن ذلك السر العجيب الغائب عن عيوننا لكنه يلامس شغاف قلوبنا فنحسّ به راحة و سكينة غامرة، عندما نتجول بين أحياء دمشق القديمة، ساروجة، العقيبة، الصالحية و غيرها... حيث يمثّل كل حي منها أثراً نفيساً نادر الوجود يزخر بأسماء علمائها وأوليائها والصالحين فيها.
وحي الصالحية واحد من تلك الأحياء التي تحمل أحلى سير هؤلاء العلماء الأفذاذ، الذين سمت نفوسهم بالعلم و العمل معاً بذلك الإرث المحمّدي الغالي... وهو السر العجيب الذي يمنحنا تلك الراحة والسكينة طالما تمسّكنا به كما فعلوا... رجالاً ونساء وحتى أطفالاً.
فهل عرفتم إخوتي ما هو ذلك الإرث الذي نتحدث عنه؟
قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (تركتُ فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله وسنّة نبيّه).
فبنو قدامة عُرفوا بالتمسّك الشديد بكتاب الله وسنّة نبيّه الكريم، تاركين طابعهم الخاص يتجلى في حي الصالحية... ولا بد أن نذكر أن رابعة هي أخت رقية "أم أحمد"، و أخت أبي عمر صاحب المدرسة العمريّة، و موفق الدين صاحب المغني.. وجميعهم أبناء الشيخ الجليل أحمد بن قدامة مؤسس الحي رحمهم الله تعالى.
مولدها ونشأتها:
وُلدت رابعة في قرية جماعيل في فلسطين عام 544 ه، والتي كانت تعاني من الاحتلال الصليبي خاضعة للظلم و الاستبداد اللذين فُرضا عليها.. مما أجبر بني قدامة على الهجرة إلى دمشق عام 551 ه، حيث كانت رابعة لا تزال في السابعة من عمرها.
و قد ساعد ترابط أفراد أسرة بني قدامة وتلاحمهم في ظهور حي الصالحية، حيث ترعرعت رابعة في حضن أسرتها العلمية المتديّنة، فحفظت كتاب الله عز و جل، والأحاديث النبوية، وتلقّت عنهم مختلف العلوم الشرعية.. ليزدحم طلاب الحديث على بابها في سفح قاسيون كما يشهد بذلك أبناءها وأحفادها من بعدها.
روت بالإجازة: عن ابن البطي، أحمد بن المغرب، وغيرهم من علماء دمشق وبغداد.
روى عنها: الحافظ الضياء "ابن أختها رقية"، والشمس وعبد الرحمن "أبناء أخيها أبو عمر"، وحفيده الفخر بن البخاري وغيرهم...
وقد تعددت أقوال العلماء في علمها ومآثرها، وكان من ذلك ما قاله الإمام المنذري في التكملة: "وحدثت لنا ومنها إجازة، وكانت حافظة للقرآن الكريم تعلّم النساء، ولها اجتهاد في فعل الخير..".
أسرتها:
تزوجت رابعة من الإمام الحافظ عبد الغني المقدسي، وأنجبت منه علماء نوابغ منهم محمد المحدّث، عبد الله المحدّث، عبد الرحمن المفتي و فاطمة التي كانت من الداعيات إلى الله عز و جل... فتلك الذرية الصالحة، وذلك ما نتقرب به يوم القيامة من رسولنا الكريم الذي قال: (تناكحوا تكاثروا، فإني مباهٍ بكم الأمم). فليس التعب في تربية أولادنا وبناتنا للتباهي والتفاخر بهم في الدنيا أمام الناس.
فرابعة بنت أحمد، المحدّثة الجليلة، حفظت وعملت، ثم ربّت وعلّمت.. وربما لا يلتفت الكثيرون إلى ذلك، لكنها كانت المعلمة المحدّثة لكثير ممن تلاها من العلماء مثل الفخر والضياء أبناء إخوتها، وغيرهما الكثير.. وكانت بذلك كمن سبقها من بني قدامة خير أنموذج يُحتذى.
أخيراً، تذكر المصادر أنها توفيت سنة 621 ه بعد أخيها الموفق بشهر واحد، ودُفنت إلى جانبه في سفح قاسيون.
رحم الله آل بني قدامة جميعاً، لقد كانوا خير مثال وأصدق نموذج في العلم والتقوى للأجيال من بعدهم.. نجوم لامعة أنارت درب الحياة المليئة بالصعاب والمواجهات التي تنتظرنا... فلعلنا بالعمل و السعي نكون خير خلف لخير سلف..