مميز
EN عربي

الباحثة نبيلة القوصي

الكاتب: الباحثة نبيلة القوصي
التاريخ: 23/02/2012

العارف بالله الشيخ أرسلان الدمشقي

أعيان الشام

العارف بالله الشيخ


أرسلان الدمشقي

يا من علا، فرأى ما في الغيوب، وما

تحت الثرى، وظلام الليل منسدل

أنت الغيــاث لمن ضاقت مذاهبـــــه

أنت الدليل، لمن حارت به الحيــل

إنـــــا قصدناك، والآمــــال واثقــــــــــــة

والكـــــل يدعوك، ملهـــوف ومبتهل

فإن عفوت، فذو فضـــــــل وذو كـرم

وإن سطوت، فأنت الحاكم العــدل

للشيخ أرسلان/ رحمه الله

إن من مفاخر مدينة دمشق القديمة، زيارة قبور الصالحين والعظماء، طلباً للاتعاظ والتذكير، والمحاولة في تتبع مآثرهم الجليلة، لا للوقوف على أطلالهم والتغني بها فقط، إنما لنعمل بعد أن علمنا كيف نوقظ هممنا الخابية، ونزيح سِترة الحجُب المتراكمة، من غفلات وهفوات عابرة، فمن منا لا يعاني من قسوة إيمانية أخذت بالزحف إلى قلوبنا، لتسلمنا إلى الحجج الواهية في عملية التسويف الواهنة ومحاولاتنا في تلمس سير السلف الصالح، يسهم في رفع الهمم، والرقي بالقيم الأخلاقية الإسلامية، والتي بدأت تختفي ليظهر مكانها نزعات فردية أنانية مادية، بأشكال مختلفة.

ففي منطقة حي باب توما / الباب الشرقي، يسكن مقام شيخ جليل يُعرف بالشيخ أرسلان رحمه الله، وبجانبه مدفون شيخه أبا عامر المؤدب، وخادم الشيخ أرسلان أبو المجد. رحمهم الله.

لقد سمعنا باسم الشيخ أرسلان نعم، سمعناه من "التراث الشامي"، يتغنون به قائلين: "شيخ رسلان يا شيخ رسلان يا حامي البر والشام".

وهل رأيتم أين مقامه؟ وهل عرفتم من هو هذا الشيخ؟ وما سبب تسميته بالوارث المحمدي؟....

تقول المصادر: إن منطقة الباب الشرقي وكانت عبارة عن امتداد لغوطة دمشق المشهورة بخضرتها الجميلة، ويمر خلالها نهر، سمي باسمه فيما بعد..

وقبل ستين أو سبعين سنة كانت هذه المنطقة بغوطتها تحتضن هذا البطل الذي سطر اسمه في التاريخ باسم "الوارث المحمدي"، والآن نشاهد هذا المقام الجليل يقع عند نقطة تفرع شارعين، يجعل المقام في مفردة مفادها، من صاحب هذا المقام الجميل؟

ألا تجدون قليل من الجواب لسبب تسميته: "يا حام البر والشام"؟!!؟.

مقامه خارج سور دمشق القديم، هذا يدلنا للوظيفة السامية التي كان يشغلها، والمسؤولية العظيمة التي يحملها، جزاه الله خيراً.

قبل أن نعيش مع شخصية الشيخ أرسلان، لا بد من لمحة عامة عن تلك الفترة التي عاشها الشيخ أرسلان.

عاش الشيخ أرسلان خلال فترة النصف الثاني للقرن الخامس هجري، والنصف الأول من القرن السادس هجري. كانت البلاد تعاني من حالة اضطراب سياسي وفتن ومعارك، وتنافس بين الأمراء. مما جعل بلاد الشام مجزأة تلك الفترة، انقضى القرن الخامس والمعارك سجال بينهم وبين الفرنج الصليبيين، جاء القرن السادس الهجري بحالٍ أسوأ، اضطراب داخلي وخارجي.

أثناء ذلك ظهرت دولة عماد الدين زنكي صاحب الموصل بحلب، والذي تسلم بعد مقتله ابنه نور الدين زنكي، الذي عمل جاهداً ليوحد المدن ويجعل الأمن والاستقرار نِعم البلاد داخلياً، ولكن ما زال التهديد الصليبي على الحدود.

والشيخ أرسلان كان من جنود قلعة جعبر في عهد "عماد الدين" وفي العشرينات من عمره جعله "نور الدين" من أجناد "دمشق"، ولكثرة الاضطرابات والمشاكل السياسية، كانت اهتمام "نور الدين" بترميم السور القديم والأبواب، لحماية دمشق من العدد وبناء رباط بمنارة للمراقبة.

كانت دمشق في تلك الفترة من الزمن، تعيش في ظلال حكم قاس شديد حتى توغل على الصلبيين فيها أيام المعلى بن حيدرة أمير الفاطميين، ومن بعده انتشر فيه الظلم ولحق الوباء بدمشق، وجلا عنها جزء كبير من أهلها، حتى أن المدينة خلت من قاطنيها، كما خلت الغوطة من الفلاحين، وارتفعت الأسعار...

في هذه الظروف بالذات واتباعاً لما جاء في القرآن {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} أخذ الشيخ أرسلان يدعو إلى دين الحق وإلى أعلاء كلمة الله، سيراً على هدي معلمه ومؤدبه أبي عمر المؤدب.

· ولادة الشيخ ونشأته: 461هـ - 541هـ.

تقول المصادر أن الشيخ اسمه: أرسلان بن يعقوب بن عبد الله بن عبد الرحمن الجعبري، الدمشقي التركماني الشافعي قيل ينتهي نسبه إلى جابر بن عبد الله الأنصاري.

نسبة لقلعة جعبر التي ولد فيها، ولا يُعرف شيء عن تاريخ ولادته بالضبط، سوى أنه عاصر الإمام عبد القادر الجيلاني، وأنه عاش نيفاً وثمانين عاماً، ولقب بالدمشقي بعد أن انتقل إليها.

وكلمة أرسلان تركية الأصل معناها "الأسد" وقد شاعت في تلك الفترة هذه التسمية لدخول الأتراك مسرح الحياة العامة في القرن الثالث الهجري.

أما قلعة جعبر فهي تقع على شاطئ الفرات بجوار قلعة نجم، فقد كانت من ثغور المسلمين الداخلية بينهم وبين الروم، وقلعة جعبر على الفرات بين الرقة وبالس.

عندما انتقل الشيخ إلى دمشق هرباً من الاضطرابات والمعارك المستمرة في تلك المنطقة، انتقل الشيخ أرسلان إلى مسجد صغير داخل باب توما اسمه "درب الحجر"، وبدأ بتلقي المعرفة والعلم على يد شيخه أبا عامر المؤدب، وكان للشيخ أرسلان دار صغيرة ودكان لنشر الخشب بجانب المسجد، وحفر بئراً صغيراً، كان أهل تلك البئر يشربون منه للبركة.

وأجمع المؤرخين أن الشيخ "أرسلان" كان يقيم بداره في ظاهر باب توما، وقريباً من دكانه بنشر الخشب، ويقسم أجرته ثلاث: ثلث لنفقته وثلث يتصدق بها وثلث لكسوته ومصالحه، وقيل: كان يدفع الأجرة لشيخه وشيخه يطعمه، فتارة يجوع وتارة يشبع.

أما ساعات العبادة كان يقضيها في المسجد المعروف الآن بمقامه.

وقيل: أن للمسجد بابان على أحدهما سقاية وعلى الآخر قناة، لا يعرف الباني لهما، الشيخ أرسلان يجلس بالجانب الشرقي منه للعبادة والنوم والتدريس، والشيخ أبا البيان (محمد بن محفوظ القرشي الذي كان يُعرف بابن الحوراني) أسس رباط مماثل للذي بناه الشيخ أرسلان وكان يقيم على الجهة الغربية، وعُرف رباطه باسم: الرباط البياني. وقد توفي بعد الشيخ أرسلان بعشر سنوات.

وإذا تساءلنا عن سر اختياره لهذه المنطقة، وقد عرفنا أنه ممن اُختير أيضاً للدفاع عن دمشق، ذكرت بعض المصادر أنه اختار ذلك المكان ليقيم ثغراً أو "رباطاً" في مكان الخيمة التي نصبها "خالد بن الوليد" خارج السور أيام الفتح العربي.

واستمر على نهج الصحابة الكرام في الجمع بين الحراسة العسكرية والأذكار النبوية والدعاء، والتعليم والتدريس. "الوارث المحمدي".

أما ما معنى كلمة "الرباط": منزل للصوفية، يشبه مخافر الحدود التي يقيم فيها الجند المرابطون الذين يرصدون العدو.

· مؤلفاته:

علمنا أن الشيخ أرسلان كان أمياً وبدأ برحلة العلم على يد معلمه الشيخ أبا عامر المؤدب، ولم يكتفي بالعلم والحراسة والتعليم، قام بالتأليف أيضاً شأنه شأن العارف بالله أحمد حارون رحمه الله وكان ظريفاً خاشعاً وشاعراً من فحول الشعراء في عصره وورعاً.

فقد ترك رسالة في "التوحيد" قام بشرحها عدة علماء:

1- الشيخ عبد الغني النابلسي واسمها: "خمرة الحان ورنة الألحان"

2- الشيخ أبي زكريا الأنصاري واسمها: "فتح الرحمن بشرح رسالة الولي أرسلان"

وهناك شروح عدة لعلماء معاصرين، والرسالة محفوظة في المكتبة الظاهرية.

ويشكك المؤرخون بأن للشيخ أرسلان مؤلفات أخرى، ولكن قد ذهبت مع طوفان النهر "الداعياني" الذي يمر من مدرسته ومقامه أو بسبب المعارك والفتن أو بإغفال مقصود من حساده. والله أعلم.

يهمنا هذه الهمة الفذة التي تمتع بها سلفنا الصالح، والتي لن نحصل على وميض منها إلا بالعودة إلى التمسك بهدي النبوة الشريفة، والمواظبة ثم المواظبة للتخلق بأخلاق سيد الخلق والذي مدحه ربه " وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ". صلى الله عليه وسلم.

ولقد ذكر الشيخ العالم علاء الدين علي بن صدقي: "إنه لبس الخرقة الأرسلانية التي تعود بلباسه لها لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه" وتعني: قطعة من ثياب الشيخ يقدمها لتلميذه خلفاً له.

· وفاته:

انتقل الشيخ أرسلان إلى الرفيق الأعلى في عام 541هـ، وذلك خلافاً لما ورد في بعض التواريخ، من أنه توفي سنة 699هـ، وأنه أسهم في الحروب ضد التتر.

وهذا يدل على سمعه الشيخ أرسلان البطولية الشجاعة والقوية بذكر الله عز وجل، مما أسهم في ربط اسمه مع حروب التتر.

رحم الله الشيخ "أرسلان"، ورحم الله السلف الصالح، الذين جعلوا القرآن الكريم والسنة الشريفة نبراساً قوياً لحياتهم.

وفي الختام فلتقرأ هذه الأبيات التي امتدح فيها الشيخ عبد الغني النابلسي رحمه الله، "الشيخ أرسلان" في مقدمة شرحه للرسالة "التوحيد".

عن أرسلان جاء الحقائـــــق

حيث اهتدى رسالة للخلائق

وسقانا بكأسه منه صـــرفاً

فسكرنا بسائغ الشــرب رائــق

كل حرف منها يشير لمعنى

سائق نحو ذروة المجـد شائــق

كلمــات قد ازدهرت بمعان

كل من رامها لقطــــع العلائـــق

وختم شرح الرسالة بقوله:

زدت نوراً يا أرســــــــــلان

وعليــــــــــــــك الله منـان

صلة التوحيد فيك زهت

ومـن التحقيق تيجـــــان

يا أبا العرفان أنـــــت متى

كـــم بدالي منك غرقان

غشوم يــــــوم الوغى بطـل

كـــــامل ما فيــه نقصان

بين أهل الله ذو شــــرف

وعلــــــى الخيرات معوان



· من أقواله وشذراته:

- إذا قدرت على عدوك، فاجعل العفو شكراً لقدرتك عليه.

- الكريم من احتمل الأذى، فلم يشكُ عند البلوى.

- أحسن المكارم عفو المقتدر، وجود المفتقر.

- مكارم الأخلاق: العفو عند القدرة، والتواضع في الذلة، والعطاء تعبر منة.

- لو احتجبت عني طرفة عين، لتقطّعتُ من ألم البيّن.

- قلب العارف لوح منقوشً بأسرار الموجودات، فهو يدركُ حقائقَ تلك السطور، ولا تتحرك ذرّةٌ حتى يعلّمه الله.

- كلما اجتنبت هواك قوي إيمانك، وكلما اجتنبت ذاتك قوي توحيدك.

- العلم طريق العمل، والعمل طريق العلم، والعلم طريق المعرفة، والمعرفة طريق الكشف والكشف طريق الفناء.

- أول المقامات الصبرُ على مراده، وأوسطها الرّضى بمراده، وآخرها أن تكون بمراده.

"الفاتحة الشريفة إلى أرواحهم الطاهرة"

· المراجع والمصادر:

سير الإعلام / للدهبي 20/379

الوافي بالوفيات / الصفدي 8/224

الشيخ أرسلان الدمشقي 461 - 541

عرض وتحقيق / عزة حصرية.