مميز
EN عربي
الكاتب:
التاريخ: 03/10/2020

من أعلام الإسلام - المحدث د. نور الدين عتر رحمه الله تعالى

تراجم وأعلام

جلسة الصفا بتاريخ 15 صفر 1442 – 2 تشرين الأول 2020


حديثنا اليوم عن عَلَمِ من أعلام الإسلام في وقتنا الحاضر، وهو من علماء الشام، فقدناه الأسبوع الماضي، هو الإمام العلامة الكبير الدكتور نور الدين عتر رحمه الله تعالى، ولد في حلب عام 1937.


هذا الرجل الذي اجتمعت فيه صفاتٌ حميدة، وخصالٌ شريفة، يندر اجتماعها في الرجال، وتبهرك جميع جوانب شخصيته الفذّة المتميزة.


فإن وقفنا عند الجانب العلمي لديه، فقد كان من الراسخين في العلم، أتقن علوم الحديث وصار إماماً فيها، ورسخ في علم التفسير والفقه والأدب والفكر المعاصر.


 وقد بدت مخايل نبوغه منذ نعومة أظفاره، فكان المتفوق في دراسته الثانوية والجامعية، فكان الأول في الشهادة الثانوية الشرعية بحلب عام 1954، ثم التحق بجامعة الأزهر وحصل على الليسانس عام 1958 وكان الأول على دفعته، ثم حاز على شهادة الدكتوراه عام 1964 من شعبة التفسير والحديث بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف، وكانت رسالته لنيل شهادة الدكتوراه كتاب "طريقة الترمذي في جامعه والموازنة بينه وبين الصحيحين" وهو من الكتب المهمة التي اعتمدها الباحثون، ولا يستغني عنه طلبة العلم.


وإذا كان علم الرجل يظهر في مصنفاته ومؤلفاته، فإن مؤلفات الدكتور نور الدين عتر رحمه الله تكشف عن علمه الراسخ، وبحثه العميق، وتحقيقاته البديعة، وتحريراته الدقيقة، وقد ألَّف ما يزيد على خمسين كتاباً في مختلف الفنون، في الحديث وعلوم القرآن والفقه والأدب والفكر والثقافة المعاصرة لا يتسع المجال لذكرها وسردها، لكنن لا بد من الإشارة إلى أن أهم كتبه وأبرزها وأكثرها تميزاً كتاب "منهج النقد في علوم الحديث" الذي حاز به الإمامة في علوم الحديث، وصار عمدة طلاب علم الحديث، وكتابه الآخر الذي تظهر فيه إمامته في الحديث والفقه المقارن هو كتاب "إعلام الأنام شرح كتاب بلوغ المرام في أحاديث الأحكام".


وندع الحديث عن الجانب العلمي في شخصية الدكتور نور الدين عتر، فالحديث فيه واسع، وقد يقاربه فيه غيره أو قد يفوقه غيره، وذلك لنتحدث عن جوانب أخرى في شخصيته لعلها أهم بالنسبة لنا في حياتنا العملية.


فالدكتور نور الدين عتر يُعدُّ بحق عالماً ربانياً، فهو متصف بجميع صفات العالم الرباني، من العلم، والحلم،  والحكمة، والتواضع ، والسكينة، والزهد، ورقة القلب، والحرص على تعليم الناس ونفع الأمة، والكرم والسخاء، وغير ذلك من هذه الصفات الربانية، كما قال الله تعالى: (كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون)  وهذه الأخلاق النبوية شهد له بها طلابه الذين عاشروه وصاحبوه ولازموه، ووجدوا فيه القدوة لأهل زمانه:


فمن أخلاقه الجميلة شدةُ حرصه على نفع الطلاب وعلى أن يبذل لهم كلَّ ما لديه من علم ومعرفة، وذلك لكي ينهض بهم، ويجعل منهم علماء كباراً، وتذكرنا هذه الخصلة الجميلة بما قاله سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما الذي كان يحب الخير للجميع، ومن جملة ما قاله:


"إني لآتي على الآية الكريمة في كتاب الله تعالى، فلوددتُ أن الناس علموا منها مثلَ الذي أعلم"


وتذكرنا هذه الخصلة كذلك بقول الإمام الشافعي رضي الله عنه:


وددتُ أن الناس تعلموا هذا العلم ولا يُنْسَب إليَّ شيء منه أبداً.


 ولكي ينهض بطلابه كان يُعنى بتشجيعهم ، ورفع معنوياتهم ، وزرع الثقة في نفوسهم ، ويُبَشِّرهم بمستقبل مشرق، كما كان يفعل الأئمة الكبار من أمثال الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه الذي كان يشجع طلابه ومنهم تلميذه أبو يوسف، فلم يزل يشجعه ويحثه على الثبات حتى صار قاضي القضاة، وتحققت به فراسة أبي حنيفة، وكان أبو حنيفة قد قال له مرة: إنك ستأكل بهذا العلم الفالوذج بدهن الفستق، فلما صار قاضي القضاة كان يجالس أمير المؤمنين هارون الرشيد ويأكل على مائدته، حتى أكل معه في أحد الأيام الفالوذج بدهن الفستق. وفي ذلك قصة طريفة يرجع إليها.


فالدكتور نور الدين عتر رحمه الله كان على سنن هؤلاء الأئمة الكبار في تشجيع طلاب العلم ورعاية الموهوبين، ولذلك انتفع به أعداد كبيرة من طلبة العلم في كلية الشريعة وكلية الآداب في دمشق وحلب وغيرها من البلدان، وكثيرٌ من طلابه قد حازوا على درجة الدكتوراه في مختلف الاختصاصات.


لقد كان حريصاَ جداً على الأخذ بيد طلاب العلم ليصنع منهم علماء الأمة ورجال المستقبل.


يقول أحد طلابه:


بعد تخرجي من كلية أصول الدين قدمت أوراقي للتسجيل في الدراسات العليا في قسم الفقه وأصوله، لكن إدارة الدراسات العليا لم تسمح لطلاب كلية أصول الدين إلا بالتسجيل في قسم الحديث وعلوم السنّة، فسجلت فيها مكرهاً.


وفي المحاضرة الأولى كان المحاضر الدكتور نور الدين عتر، وكان عددنا عشرة طلاب وثماني طالبات، فقال فيما قاله لنا: عدد السوريين في سوريا 18 مليون إنسان تقريباً، وعددكم في قسم الحديث 18 طالباً وطالبة، يعني أن الله اختاركم من بين 18 مليون إنسان من أجل أن يشرفكم بخدمة حديث النبي ﷺ، فكل واحد منكم يقوم مقام مليون إنسان. يقول هذا الطالب: شعرت وقتها أن الله أكرمنا بنعمة لا تعدلها نعمة، وكانت هذه التذكرة حافزاً لنا جميعاً في الدراسة والمتابعة والتحصيل العلمي في قسم الحديث وعلوم السنة.


إن تشجيع الطلاب له أثر كبير جداً في بناء الأجيال ونهضة الأمة، وهذه الخصلة الحميدة يجب أن يتحلى بها جميع المدرسين والمعلمين.


ومن صفاته الجميلة الربانية تواضعه الجم وأدبه الرفيع، يقول أحد طلابه: كنا نرقب الأساتذة الكبار وهم يسيرون في ممرات الكلية مسرعين، لا يلتفتون يمنة ولا يسرة، ويحث الطلاب الخطى لينالوا إجابة عجلى من فم الأستاذ المتعجل، وكان الدكتور نور الدين عتر يسير على مهل وقد كساه الوقار وعلته الهيبة، ولا يمر على مجموعة من الطلاب واقفة في جنبات الممرات إلا كان المبادر لهم بالتحية وإلقاء السلام، يقول هذا الطالب: لست أنسى حين كنت في بدايات السنة الأولى من الكلية واقفاً مع ثلاثة من الأصحاب الجدد في بهو الكلية،  انثنى إلينا مسلماً ومصافحاً ومبادراً بالسؤال عنا، سألنا عن أسمائنا وعن السنة الدراسية التي نحن فيها، وعن المدن التي قدمنا منها، وحين علم حداثة عهدنا بالكلية بالغ في السؤال عن أحوالنا، وعن تأمين أماكن السكن الجديد، ثم أوصانا بإشفاق بالحرص على عباداتنا وأوقاتنا، لقد كان يحدثنا ببالغ الحب ونحن في أعمار أحفاده، ثم طلب منا الدعاء له ومضى، يقول هذا الطالب: ما يزال لهذا الموقف من أستاذنا العلامة نور الدين عتر في نفسي من الأثر ما يفوق مئات المحاضرات العلمية والدعوية والتربوية. 


ومن صفاته الجميلة كرمه وإكرامه لطلابه، كان يزوره طالب العلم من محافظة ما فيعطيه مبلغاً من المال أجرة طريقه، حَدَّثَ أحدُ طلابه أنهم كانوا يركبون الميكروباص من وإلى الكلية، قال: فإذا كان معهم الدكتور نور الدين كان لا يدعهم يدفعون أجرة النقل، كان يُحصيهم واحداً واحداً، ويدفع عنهم جميعاً.


 وكان يوزع كتبه التي ألفها أو حققها على بعض طلابه الذين يدرسون عليه، وكان يعطي نسخة من كتابه الذي طبع جديداً لمن كان يزوره في بيته.


قال أحد طلابه - وكان يقيم في غرفة في مسجد يدرس فيه الشيخ - :


كان الشيخ يطرق باب غرفتي بتواضع لم أره عند غيره، فيهديني كتاباً قيماً من مؤلفاته، فأفرح بذلك فرحاً شديداً، وبعد الدرس ومغادرة الشيخ، أتناول الكتاب لأطلع عليه، فأجد الشيخ قد ترك فيه مبلغاً من المال يكفيني لمدة طويلة.


اصطحبه أحد طلابه سنة 2003 إلى بيته، وساعده في حمل بعض ما كان يحمله من أكياس، وصعد معه إلى بيته، فسأله عن رسالته في الماجستير وأين وصل فيها، فأخبره أنه على أبواب الانتهاء منها، فأخرج من جيبه ألفي ليرة سورية وقال: هذه ثمن طباعة رسالتك.


ومن صفاته الجميلة حلمُه، فقد كان حليماً واسع الصدر يتحمل الكثير، حدَّث عنه أحد طلابه فقال: كنت أضايقه كثيراً بأسئلة استفزازية، إلا أن صدره كان يَسَعُ الدنيا وما فيها.


وهذه الصفة العظيمة صفة الحلم هي صفة نبوية بامتياز، وفي الأحاديث النبوية شواهد كثيرة على حلم النبي ﷺ.


ومن صفاته الجميلة زهده وعزوفُه عن التعلق بالدنيا، فكان يكتفي في بيته بالحد الأدنى الذي تصلحُ معه الحياة، وإذا قيل له: نريد تحسين هذا الموضع من بيتك، يقول لهم: (مو محرزة)، وكان لا يطمع في أموال الناس، ولا تمتد عينه إليها، ولذلك أحبه الناس، كما قال النبي ﷺ:


(ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)


ومن زهده في الدنيا ميله إلى عدم التصدر وكراهيته للشهرة وإيثاره البعد عن الأضواء، قال أحد طلابه: لطالما كان يُكرر علينا عبارة حب الظهور يقصم الظهور، وهذه العبارة كان يرددها العلماء الربانيون، يحذرون من حب التصدر واللهث وراء شهوة التصدر وحب الزعامة، ولذا كان الدكتور نور الدين عتر رحمه الله قليل الكلام جداُ عن نفسه، سأله أحد الأساتذة: هل كتبت شيئاً عن حياتك وصلتك بشيوخك؟ فقال: لم أكتب، كتب عني بعض الطلبة رسالة ماجستير بجامعة دمشق، كان يسألني وأجيبه على قدر السؤال، إني استحييت أن أتحدث عن نفسي.


قال الإمام مالك: إذا ذهب الرجلُ يمدح نَفْسَه ذهب بهاؤه، يعني لا يمدح نفسه إلا من كان معجباً بنفسه راغباً في الصدارة والتصدر.


وإنما كان يكثر الكلام عن شيوخه من أمثال الشيخ عبد العزيز عيون السود  والشيخ المحدث عبد الله سراج الدين الذي هو خاله ووالد زوجته، وكان يوصي بقراءة كتبه، وخاصة كتابه النفيس "سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم شمائله الحميدة وخصاله المجيدة " 


وقد يكون مدح النفس أحياناً عن طريق ذم الآخرين وذكر مساوئهم، فكان الدكتور نور الدين عتر لا يذكر أحداً بسوء، حتى من كان يختلف معهم ويرد عليهم، كان يذكر المسألة الخلافية، ويحرر القول فيها، ويناقش الأقوال ويرد عليها، دون أن يتعرض لذكر الأشخاص بذم أو قدح، ليؤكد أن القضية ليست قضية شخصية بل هي قضية علمية.


ومن خصاله الجميلة أنه كان رقيق القلب كثير البكاء، يبكي حين يسمع قصص النبي ﷺ وقصصه مع أصحابه، وكان شديد التعظيم للنبي ﷺ، يوصي بكثرة الصلاة على رسول الله ﷺ.


ومع رقة قلبه كانت همته عالية في العبادة، كان لا يدع السنن الرواتب، ورغم مرضه كانت همته عجيبة كان يحرص على الصلاة واقفاً رغم مرضه، حدث أحد الإخوة الذين لازموه في السنوات الأخيرة، أنه كان يستغرق قيامه من التشهد الأول إلى الركعة الثالثة دقيقة كاملة، وفي العادة لا يستغرق القيام إليها بضع ثوان.


ومن همته العالية بقي يُدَرِّس، إلى ما قبل وفاته بأشهر حتى انقطع بسبب المرض الشديد.


وأوصى بشراء كفنه قبل موته بأربع سنوات، فهو ذاكر للموت واليوم الآخر.


نسال الله تعالى أن يرحمه برحمته الواسعة، وأن يجعله في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء الصالحين، وأن يعوض الأمة خيراً


والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

تحميل



تشغيل

صوتي
مشاهدة