مميز
EN عربي
الكاتب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 23/09/2010

عائشة أم المؤمنين وورثة ابن سلول

مقالات

ولدت السيدة عائشة قبل هجرة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة - على الأرجح - بسبع سنوات. فقد صحّ عنها أنّها قالت: تزوّجني رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - أي عقد عليّ- لستّ سنين, وبنى بي وأنا بنت تسع سنين, والحديث متّفقٌ عليه من رواية الشيخين. فإذا علمنا أنّه صلّى الله عليه وسلّم بنى -أي دخل- بها في شهر شوّال بعد غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة تبيّن أنّها ولدت قبل الهجرة بسبع سنوات.

فعائشة إذن ممّن ولد في مهد الإسلام, وفتح عينيه على ضيائه. وأمّا نسبها: فأبوها هو الصدّيق الأكبر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم, أبو بكر, واسمه عبد الله بن أبي قحافة, واسم أبي قحافة عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن مرّة .. ويلتقي نسبه مع نسب رسول الله هنا, كما ترى. وكان اسم أبيها في الجاهليّة عبد الكعبة, فسمّاه رسول الله بعد أن أسلم عبد الله, كما نصّ على ذلك في سير أعلام النبلاء.

وهي التي روت حديث فضل أهل البيت الذي يعتبر من أعظم مناقب عليّ رضي الله عنه, قالت: خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم غداةً وعليه مرط مرحّل من شعر أسود, فجاء الحسن بن عليّ فأدخله, ثم جاء الحسين فدخل معه, ثم قال: { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً }الأحزاب33 [1].

وقد تعرّضت السيّدة عائشة لمحنة الإفك التي جاءت منطويةً على حكمةٍ إلهيّةٍ كُبرى, تمثّلت في إبراز حقيقة النبوة في شخصِ محمّدٍ صلّى الله عليه وسلّم وإظهارها صافيةً عن كل ما قد يلتبس بها, وهي أنّ الوحي الإلهيّ لم يكن شعوراً نفسيّاً منبثقاً من كيان محمّد عليه الصلاة والسلام, كما أنّه لم يكن شيئاً خاضعاً لإرادته أو تطلّعه وأمنياته.

فماذا كان يمنعه, لو أنّ أمر القرآن إليه, أن يتقوّل الكلمات الحاسمة ليحمي بها عرضه, ويذبّ بها عن عرينه, وينسبها إلى الوحي السماويّ, لتنقطع ألسنة المتخرّصين؟ وهي قرار الله تعالى القائل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ}النور11. ولكنه آثر الصبر على الضيق الخانق.

ثم جاء أصحاب التأويل السمج الباطل الذي يبرأ منه المنطق وتتأبّاه القواعد العربيّة, والذي جنح إليه الحاقدون على أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من حيث أوهموا الناس حبّهم لآل بيته!...

فقد قال قائلهم: إنّ أظهر ما في الآيات العشر دلالة على براءة عائشة, قوله تعالى: {لَوْلَا جَاؤُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ }النور13 , فقد استدلّ فيها على كذبهم بعدم إتيانهم بالشهداء, ومن الواضح أنّ عدم إقامة الشهادة إنّما هو دليل البراءة الظاهرية, أعني الحكم الشرعي بالبراءة دون البراءة الواقعيّة, لوضوح عدم الملازمة [2].

أقول: إنّ أيَّ عاقلٍ انجابت عنه غاشية الحقد على أزواج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وآل بيته المطهّرين, لا بدّ أن يسأل عندما يسمع هذه الدسيسة الساقطة: أفكان الهمّ الذي يؤرق نفس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويشغل باله, جهله بالبراءة الشرعيّة الظاهرة التي تنجي زوجته من عقاب الحدّ, بقطع النظر عن واقعها الخفيّ من وراء ذلك, ومن ثمّ تلك (البراءة الشرعيّة) هي التي أزالت الكرب عن نفسه وأعادت إليه أسارير وجهه ورضاه عن زوجه؟!..

لو كان الأمر كذلك (وهذا ما لا يقبله عقل أيّ عاقل) لما وجد الكرب أو الغمّ سبيلاً إلى نفسه من أوّل الأمر, إذ كان يعلم قبل نزول آيات التبرئة, (بمقتضى حكم القذف الذي كان قد نزل من قبل) أنّ عائشة ليست معرّضة لأيّ عقاب, إذ إنّ أحداً لم يشهد عليها بالفاحشة, فضلاً عن اجتماع أربعة شهود.

إنّ الهمّ الذي كان قد استبدّ به, كما هو ظاهرٌ لكل أحدٍ, هو خوفه من أن تكون القالة التي انتشرت بين أناس في المدينة صحيحة في واقع الأمر, بقطع النظر عن وجود أو عدم وجود شهود, أي بقطع النظر عن ثبوت (البراءة الشرعيّة).

فلما انجابت عنه غاشية الهمّ, وعاد فتهلّل وجهه سروراً, بنزول الآيات التي جرّمت تلك العصبة بجريمة الإفك والافتئات, وبرّأت عائشة من قالة السوء تلك, كان ذلك دليلاً قاطعاً على أنّ تلك الآيات تعني كلاً من التبرئة الحقيقيّة والشرعيّة معاً.. تعني التبرئة الأولى, بياناً للحقّ, وإدخالاً للسرور على قلب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم, وتأكيداً لسموّ عائشة عن الإفك الذي حاولت تلك العصبة إلحاقه بها .. وتعني التبرئة الثانية تأكيداً لحكمٍ شرعيٍّ وتأديباً للمتقولين والمفترين.

انظر إلى أول جملة في هذه الآيات العشر, تجد كيف أنّها لم تسمِّ القالة التي روّجتها تلك العصبة, إلا باسمٍ واحدٍ هو الإفك, والإفك شرّ أنواع الكذب, ولا يسمّى صاحبه مؤتفكاً إلّا عندما يعلم في نفسه أنّه كاذب فيما يقول وإنّها لشهادةٌ إلهيّةٌ كبرى ببراءة عائشة براءةً واقعيّةً حقيقيّةً ممّا نسب إليها, من حيث هي شهادة في الوقت ذاته بإفك المتقوّلين.

أمّا ذاك الذي يشهد على حادثة زناً رآها, فتُردُّ شهادته لأنّها لم تدعم بشهادة ثلاثة آخرين, فلا يُعدّ كاذباً ولا يُؤخذُ بجريرة الكذب أصلاً, لأنّه صادق فيما أخبر وشهد, على افتراض أنه عادل... وإنّما يحدّ مع ذلك حدّ القذف لأنّه كشف ستراً أمر الله بالإبقاء عليه, وتلك هي البراءة الشرعيّة التي ينالها من ارتكب فاحشةً فستره الله.

فانظر إلى هؤلاء المتخرّصين كيف يتلاعبون بكلام الله ليخضعوه لأحقادهم وما تهواه أنفسهم, وإنّ أول جملة في هذا الكلام الربانيّ المبين, وهي تلك التي وصفت قالة العصبة بالإفك لتمزّق هذا التأويل العابث المتأفّك.

وما قرأت دفاعاً عن إفك عبد الله بن أبي سلول, ونيلاً من الحقّ الذي يقرّره كتاب الله, بأسلوبٍ فاضحٍ يصطنع التستّر والتخفي, كهذا الكلام المتهافت العجيب الذي قرأته!!..

إنّه يدافع عن ابن سلول وعصبته, فيما أشاع وتقوّل, نظراً إلى أنّ الرجل إنّما نفى البراءة (الواقعيّة) على حد تعبيره عن عائشة ولم ينف البراءة الشرعيّة التي هي محلّ البحث...

ولمـّـا لم يكن بين البرائتين تلازمٌ كما يقول, فإنّ من حق ابن سلول أن يتّهمها ويسلب عنها البراءة عن السوء من حيث الواقع, وأن يترك لها فقط البراءة التي تتستّر بها من حيث الشرع.. ومن ثمّ فإنّ وصف القرآن لابن سلول وعصبته بالكافرين غير وارد!!..

يبقى أنّه كان على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يفهم هذا الذي غاب عنه ولم يتنبه إليه, وعندئذٍ كان يستسلم لمزيدٍ من الكرب والأسى, ويستقبل مزيداً من الريبة القاتلة, تجاه زوجته التي برّأت شرعاً ولم تبرّأ واقعاً وحقيقة!!..

وهذا لا يكلّفه صلّى الله عليه وسلّم أكثر من أن لا يعبأ بكلام الله القائل: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ....{ ولا يقيم له وزناً, من حيث يكلّفه أن يذعن بالتّقدير والتّصديق لكلام ابن سلول الذي برّأ عائشة شرعاً ولم يبرّئها واقعاً!..

* * *

ولئن لم يكن لعائشةٍ رضي الله عنها من الفضائل والمزايا إلّا شدّة محبّة رسول الله لها, ودوام هذا الحب في تزايدٍ إلى وفاته عليه الصلاة والسلام, حتى إنه قبُض وهو بين سحرها ونحرها, لكفاها ذلك مزيّةً يشهد لها بها عباد الله الصالحون وملائكة الله المقربون.

فكيف وقد جمع الله لها تلك المزايا كلّها متوّجة بعظيم حبّ رسول الله لها.

المصدر: كتيب عائشة أم المؤمنين- للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، دار الفارابي

[1] رواه مسلم: وانظر "السيدة عائشة" لعبد الحميد طهماز:(119).

[2] الميزان في تفسير القرآن للسيّد محمد حسين الطباطبائي: (ج15), (ص102) ط لبنان.

تحميل