العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
العلم الحديث ومعرفة الغيب
العلم الحديث ومعرفة الغيب
الإمام الشهيد البوطي
كان هنالك، ولا يزال، جدل يمتد بين المنتصرين للعلم ومضمونه الحديث، وبين الغيارى على العقيدة الإسلامية أن لا تشوبها شائبة، وأن لا يتسرب إليها وهم باطل، كان ذلك ولايزال سمة جدل يثور بين هذين الطرفين، حول الكثير من المسائل التي كانت فيما مضى محجوبة عن حواس الإنسان بحجاب الغيب. ثم إن العلم الحديث كشف عنها الستر فيما يبدو، وأخضعها لحواس الإنسان.
كيف السبيل إلى التوفيق بين ما نعتقده ونجزم به، مما يدل عليه صريح كتاب الله، وبين هذا الواقع العلمي الذي يفرض نفسه والذي لا مناص من الإيمان به؟
أحسب يا سيدي أن في كتاب الله عز وجل آية أنهت هذا الجدل واللجاج، وعقدت صلحاً بين العلم الحقيقي، والعقيدة الصحيحة. بل أقول: إن هذه الآية أكدت صلحاً قائماً من الأزل بين العلم الحقيقي والعقيدة الإيمانية التي جاب بها الرسل والأنبياء.
هذه الآية هي قول الله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} {الأنعام:59}.
فكيف أنهت هذه الآية هذا الجدل؟
عندما نتأمل في المطلع الذي صدرت به هذه الآية، نجدنا أمام جملتين اثنتين، منهما يحصر مفاتيح الغيب في ذات الله عز وجل، الجملة الأولى أثبتت هذه الحقيقة عن طريق تقديم الخبر على المبتدأ، وتلك أداة من أدوات الحصر، كما هو معلوم، وهي {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} أي لا عند غيره.. أما الجملة الثانية، فقد شرحت وأكدت، ونصت على ما دلت عليه الجملة الأولى، وهي (لا يعلمها إلا هو).
والمهم هنا أن نتبين كيف أن الضمير في {لاَ يَعْلَمُهَا} يعود إلى المفاتيح لا إلى الغيب، فالآية تقول {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ} ولا يعلم هذه المفاتيح أحد إلا الله عز وجل.
وفي هذا دلالة عميقة ينبغي تدبرها، ويجب الوقوف عندها، لندرك كيف أن العلم والإيمان يتعانقان منذ الأزل، ولا ينفك الواحد منهما عن الآخر.
ما الفرق بين الغيب ومفاتيحه؟
أما الغيب فهو كل ما يتوقعه الإنسان مما لم يحدث بعد، بناء على دلائل اعتمدها..
تَوَقُعُ الإنسان (مثلاً) هبوط درجة الحرارة بواسطة كتلة هوائية رآها كيف تسير، من الغيوب.
تَوَقُعُ هطول الأمطار في مكان ما، بناء على دلائل قطعية، من الغيوب.
تَوَقُعُ الطبيب أن يولد الجنين ذكراً، بناء على مؤشرات رآها في الصبغيات أو ما يسمونه (الكروموزمات) من الغيوب.
تَوَقُعُ الشفاء بعد تناول الدواء، من الغيوب. بل توقع الاحتراق، احتراق الهشيم بعد وضعه في النار، من الغيوب.
ذلك لأن هذه الأمور كلها لم تقع بعد. ولكنها متوقعة والشيء الذي يجعلنا نتوقعها، بصيرة علمية أدركناها، واعتمدناها .. والبصائر العلمية مبثوثة في كون الله عز وجل.
هذا هو الغيب، فما المراد من مفاتيح الغيب.
بقطع النظر عما ذكره علماء اللغة العربية من المعاني المتعددة، لكلمة مفاتح ومفاتيح ومفتاح والمِفتَح، فإنَّ مما لا ريب فيه ان المراد بمفاتح الغيب دَساتيره، أي الفاعلية الكامنة وراء هذه الأحداث المتوقعة..
الفاعلية الكامنة وراء تسيار الكتلة الهوائية من مكان إلى مكان .. نحن نرى هذه الكتلة الهوائية ولكن ترى ما الدستور وراء تحركها أو تبددها أو وقوفها في مكان ما؟ نحن بوسعنا أن نتبين مؤشرات الذكورة في الجنين، ولكن من أين جاءت فاعلية العلاقة بين مؤشرات الذكورة في الصبغيات وبين النتيجة التي نتوقعها .. نحن نتوقع، بل ربما نعلم، أن تناول الدواء يشفي، وأن تناول السم يهلك، ولكن ما مصدر الفاعلية الكامنة في العلاقة السارية بين هذا الدواء وأثره؟ .. ما مصدر العلاقة الخفية بين هذا السم وأثره؟
ذلك هو الذي يعنيه البيان الإلهي بكلمة (المفاتح) مفاتح الغيب، ومن هنا ندرك السبب في ان الله عز وجل سكت (إن جاز التعبير) عن الغيوب التي ضرب الأمثلة بها، وركز على حصر العلم بالمفاتح في ذاته سبحانه وتعالى.
فما المعنى الذي تنتهي إليه من هذا التفصيل، ومن حصر الله سبحانه وتعالى (مفاتح الغيب) أي دساتير وفاعليات الغيوب، في ذاته عز وجل؟ ..
إنه تنبه لكل من سجن نفسه في سجن الطبيعة أو المادة، رأى ظواهر المادة، فأعطاها هي الفاعلية أعطى الدواء فاعلية الشفاء، أعطى النار فاعلية الإحراق، أعطى هذه الصبغيات فاعلية الذكورة، وهكذا.. فالبيان الإلهي يرد على هؤلاء قائلاً:
لكم أن تشاهدوا هذه الغيوب، وأن تتوقعوها .. وما أيسر أن تتوقعوها إن سلكتم مسلك الدراية والعلم.
ولكن لا تنسوا أن هذه الغيوب التي تتوقعونها، ليست فاعليتها كامنة في ذاتها.
إن هذه المواد أو هذه الأحداث الطبيعية، فاعليتها آتية من عندي. ومن ثم فأنا أعلم كيف أصرِّفها!..
هذه الكتلة الهوائية، من حقكم أن تتصوروا أنها نظراً إلى كونها تتجه شمالاً، فإنها ستصل إذن بعد ميقات محدد إلى المنطقة الفلانية، وستعمل هناك عملها.
ولكن لا تنسوا أن حركة هذه الكتلة تعود، أو تخضع لسلطان مقاليده بيدي .. فأنا الذي أقرر تسييرها أو توقيفها أو تبديدها حيث هي.
ولعل أيسر مثال لهذا الذي يبصرنا به، يا سيدي، كتاب الله عز وجل، أن نفترض أننا نشاهد سفينة عملاقة تمخر عباب البحر، متجهة إلى شاطئ معيين .. إن بوسعنا أن نقول، بناء على ما نراه من هذا التوجه، إنها ستصل إلى شاطئها الذي هي مقبلة إليه، بعد ثلاث ساعات مثلاً.
ولكن الحصيف والواعي من الناس يعلم أن السفينة لا تتحرك بشكل آلي. بل ثمة ربّان بيده مقاليدها، وإليه قرار توجهها وتسيارها فهو الذي يوجهها كما يشاء .. ولعل خاطراً يعن له يدعوه إلى أن يوقفها في مكانها، أو أن ينهج بها سبلاً آخر.
هذا مثل نضربه لحياتنا الراهنة، وعلاقة ما بيننا نحن البشر.. فكيف عندما نتذكر أن الله جل جلاله هو فاطر السموات والأرض وهو خالق الأسباب والمسببات، ورابط ما بينهما بالعلاقة التي لا نتبين إلا نتائجها!..
هذا ما يعنيه بيان الله عز وجل. ولكن فما النتيجة التي ننهي إليها؟
النتيجة هي أن على الإنسان الذي آمن بالله عز وجل قيوماً واحداً للسموات والأرض، أن يعلم أن عالم الأسباب والمسببات مرتبط بمقاليد، وأن هذه المقاليد بيد الله تعالى.
على الإنسان العالم، ولا أقول المؤمن، عليه أن يعلم أن هذا الذي يراه عالم المادة مما يتصوره أسباباً، ليسوا إلا جنوداً لله سبحانه وتعالى، يسخرهم لما يشاء في الوقت الذي يشاء، وما ينبغي له، إن كان عالماً حقاً، أن يخدع بالمظاهر عن الأسرار، ولا بالصور عن المصور، ما ينبغي أن ينسى الحقيقة الخفية ويجنح إلى ما تبصره به ظواهر الأمور .. هذا ما ينبهنا إليه بيان الله عز وجل.
ولكن هل يؤيد العلم الحديث اليوم هذا الكلام الذي يؤكده بيان الله تعالى، بهذه العبارة الدقيقة الأخاذة؟ أطرح هذا السؤال وأنا موقن أننا لسنا بحاجة إلى ما يؤيد بيان الله تعالى من علم حديث أو قديم. بل العلم هو الذي يحتاج إلى أن يجد دلائل صدقه في بيان الله عز وجل.
غير أني أطرح مع ذلك هذا السؤال، لأحاور على أعقابه هؤلاء الإخوة الذين يعتدون بالعلم الحديث، ويبالغون في ذلك إلى درجة تذهلهم عن ضوابط وحدود العلم ذاته!..
أذكر أنني قرأت كلاماً لدافيد هيوم، وهو العالم الوضعي الذي يعتد به الغرب، يقول فيه: لو أني رأيت هشيماً احترق في النار لآلاف المرات، فلن أستطيع أن أدلي بقرار علمي قاطع، بأن هذا الهشيم سيحترق مرة أخرى، إلا بعد أن أجرب وألقي هذا الهشيم في النار، وأرى أنه قد احترق.
ومن المعلوم أن هيوم لا ينطلق إلى قراره هذا من رؤية دينية. وإنما ينطلق من الموازين العلمية التي هو موقن بها.
إنه يريد أن يقول: إن القوانين الطبيعية التي نراها أمامنا إنما استخرجنا قيمة الاستمرار فيها من التجارب الكثيرة الماضية، والتجارب الماضية لا تضمن دائماً الأحداث المستقبلية، كما قد نتوقعها .. لعل خارقة تقع .. لعل أمراً غير متوقع يحصل .. ومن ثم فإني أظن ظناً قوياً أن الهشيم سيحترق، ولكني لا أستطيع أن أرقى بظني أو بقناعتي هذه إلى درجة القرار العلمي. بمعناه الأكاديمي.
إذن فهذا الذي يقرره هيوم، إنما يقرره من دراية علمية، وها نحن نرى كيف أن كتاب الله عز وجل يحذرنا من أن نرتاب في أن هذه الأنظمة الطبيعية التي نراها، إنما ينظمها الله تعالى ويسيرها كما يشاء.
إن في كتاب الله تعالى مشهداً لحوار أخاذ بين سيدنا نوح وابنه، يبرز هذه الحقيقة التي أقولها، ويجلي تفاهة المنطق الوهمي الذي يسجن صاحبه في ظلام من الحيرة، ويبرز الموقف العلمي الذي يستنشق صاحبه عبير الإيمان بالله عز وجل..
عندما اهتاج الطوفان، وتحولت الأرض اليابسة إلى بحار ترتج وتفور بالأمواج المتلاطمة، كان لنوح ولد شارد عن صراط الله تعالى، يضعنا البيان الإلهي أمام هذا الحوار الذي جرى بينهما آنذاك.
نادى نوح ابنه، وكان في معزل، يا بني اركب معنا في السفينة التي أمرنا الله أن نجتمع فيها، ولا تكن مع الكافرين.
قال الابن: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء!..
ذلك هو منطق الإنسان الذي يسجن عقله داخل أقطار المادة أو الطبيعة كما يقولون، إنه يقول: إن هذا الماء المنهمر من السماء والمتفجر من الأرض، إن كل ذلك إلا طغيان طبيعة. وها أنا سألجأ من طغيان الطبيعة إلى حصن الطبيعة!.. سألوذ من طغيان الطبيعة بهذا الجبل الباسق الأشم.
لم يتصور هذا الجاهل أن ثمة فاعلية كامنة في هذه الظاهرة، اللهم إلا الطبيعة العمياء التي يراها.
فماذا كان منطق النبوة؟ ماذا كان جواب الأب الشفوق لابنه؟.. ذلك الأب الذي دعته شفقته عليه إلى أن يجذبه عن هذا التيه إلى صعيد الإيمان بالله عز وجل.
أجابه قائلاً: لا عاصم اليوم من أمر الله، إلا من رحم.
لا عاصم اليوم.. إن المسألة ليست مسألة طغيان طبيعة .. ليست المسألة أن طبيعة استشرى بها الطغيان، حتى تتصور أن بوسعك أن تلجأ منها إلى جبل أشم .. إنه أمر الله تعالى .. الماء الهاطل من السماء والمتفجر من الأرض، والأعاصير المختلفة، إن ذلك كله إلا جنود مجندة لله عز وجل. والجند إنما يأخذ تعاليمه من غرفة العمليات .. إنه يأخذ تعاليمه من قائده .. وهذا العالم كله جنود له .. وما يعلم جنود ربك إلا هو .. هؤلاء الجنود مرتبطون بمقاليد .. مرتبطون بمفاتيح والمفاتيح بيد الله سبحانه وتعالى.
ويأتي بيان الله على أعقاب هذا الحوار قائلاً:
{وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} {هود:43}.
هذا الكلام .. هذا المشهد الحواري، يعمق هذه الحقيقة التي يتحدث عنها بيان الله تعالى، بعبارة علمية وإيمانية واضحة.
ولكن أحسب أن هاهنا إشكالاً قد يطوف بأذهان كثير منا.
ولكن أحسب أن هاهنا إشكالاً قد يطوف بأذهان كثير منا.
إذا صح أن نقول: إن مفاتيح الغيوب بيد الله عز وجل، وليس للأسباب التي نراها في عالم الطبيعة، أي فاعلية إطلاقاً، وإذا كان علينا أن ندرك ذلك، فإننا سنجد أنفسنا في وضع لا نستطيع فيه أن نتعامل مع الحياة، لأن الثقة بيننا وبين عالم الأسباب والمسببات تنقطع عندئذ.
لن آخذ نفسي عندئذ بعلاج، فلعل هذا الدواء تول فاعليته .. لن أنهض للتسبب بأي رزق، لأن هذا السبب لا قيمة له، إنما الفاعلية لله، بل لن أحمي نفسي من النيران المحرقة ولا من السموم المهلكة، إذ لعل الفاعلية التي أراها تغيب وتنفصل عنها.
وهكذا فإن الإنسان إذا استسلم لهذا التصور، فربما أداه إلى عدم الثقة بشيء من نواميس الكون .. ومن ثم فإن الإنسان لن يتحرك ابتغاء هدف!. وهي مشكلة كبرى، فما الجواب عنها؟
لعل خير من أجاب عن هذه المشكلة، حجة الإسلام الإمام الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة).
صور هذا الإشكال، ثم قال: أجل، إن الغيوب التي نتوقعها ليست حتمية الوقوع، لأن مقاليدها ومفاتيحها بيد الله عز وجل، ولكن لله سنة في كونه، أي له قانون سار أقام عليه نظام الكون، ورتب بموجبه علاقة ما بين الأسباب والمسببات، وأعلن في كتابه المبين أن سنة الله لا يحلقها أي تبديل (سنة من قد أرسلنا قبلك من رسلنا، ولا تجد لسنتنا تحويلاً).
وقد أكد البيان الإلهي هذا المعنى في أكثر من آية. فإذا رأينا أن الطعام يشبع، وأن الدواء يشفي، وأن النار تحرق، وأن دلائل الذكورة في الصبغيات مرتبطة فعلاً بالذكورة، وكذلك العكس، فينبغي أن نعلم أنها سنة ماضية في كون الله عز وجل. وقد قال الله تعالى: {لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} {الروم:30}
قانون!.. العالم ليس فوضى. ومن ثم فإننا نملك ما يسميه الإمام الغزالي: اليقين التدريبي، بأن ما استمر على نهجه في الماضي سيبقي مستمراً في الحاضر وفي المستقبل.
نعم .. ولكن هنا لفتة دقيقة جداً، يقول الله عز وجل (فلن تجد لسنة الله تبديلاً) أي لن تقوم سنة جديدة مستمرة، مقام السنة القديمة .. لن يقوم نظام جديد، مكان النظام الذي شاءه الله عز وجل في علاقة ما بين الأسباب والمسببات.
لكن الاختراق ممكن!.. والاختراق يختلف عن تحويل السنة إلى سنة أخرى .. كثيراً ما تقع اختراقات، أو خوارق، باسم المعجزات أو الكرامات، بقطع النظر عن ارتباطها بنبي جاءت المعجزة تأكيداً لصدقه، وقوع هذه الخوارق أنزل التوقع من مستوى العلم اليقيني إلى ما يسميه الإمام الغزالي: اليقين التدريبي.
فأنا كطبيب مثلاً رأيت في حياتي ظاهرة ارتباط دائم بين نوع من الصبغيات وبين ذكورة الجنين. إذن من حقي أن أجعل من هذه الظاهرة يقيناً، على أن أعلم أنه يقين تدريبي لا يقين علمي أكاديمي حتمي.
وجدت أن الدواء يشفي، أي يقترن استعماله بالشفاء، إذن من حقي أن أتعامل مع هذا الدواء على هذا الأساس .. ذلك لأنها من سنن الله، ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
وجدت أسباب الهلاك، ووجدت أن الهلاك مقترن بها فعلاً، إذاً أتعامل معها على هذا الأساس.
بل إن الشريعة الإسلامية تأمرني بذلك. يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (تداووا يا عباد الله، فإن الله ما أنزل داء إلا وأنزل له دواء إلا السأم)[1] أي الموت.
ولو أن إنساناً علم قانون هذه الأسباب التي أقامها الله في عباده، ولم يتعامل معها، فألقى نفسه مثلاً في مهلكة، كان منتحراً ولقي الله آثماً عاصياً.
ولو أن إنساناً شكا الظمأ، ورفض أن يسعى إلى الماء قائلاً لا أقيم لسببية الماء وزناً، فإن الله قادر على أن يرويني بدون أن أشرب .. فهو يسيء الأدب مع الله، كما قال العلماء. لأن الله أقام في كونه هذا سبباً لربي، كما أقام سبباً لشبعي. وإذا كان الأمر كذلك. فما ينبغي أن أتجاهل قانونه وسننه التي أقامها في عباده.
وهكذا، فإن المشكلة تتجلى بهذا الذي يقوله الإمام الغزالي: أخذاً من شريعة الله عز وجل.
نتعامل مع الحياة، طبقاً لنظام الأسباب والمسببات التي أقامها الله بيننا. إذا سمعت نشرة الأرصاد الجوية، أتعامل معها، وأعلم أن المختصين بشأنها لم ينطلقوا إلى قراراتهم الغيبية إلا من يقين تدريبي، وهو كما قلنا اليقين الذي لم يترسخ في الذهن والقناعة العقلية، إلا من كثرة التكرار المستمر، ومن التجارب المتلاحقة ذات النتائج الواحدة..
ولكن يجب أن أعلم أن احتمال الشذوذ قائم ... وهو ما يذكرني به دائماً قول الله تعالى (وعنده مفاتح الغيب..).
ولعلنا جميعاً نعلم أن في الأسواق كتاباً اسمه (غرائب العالم) جمعه أحد الباحثين الأجانب فيما أذكر، كلها غرائب يتجلى فيها الشذوذ الصارخ عن قانون الأسباب والمسببات، ولا شك أن الشاردين عن هذا المنهج الذي نتحدث عنه، (منهج التنسيق بين العلم وحقائق الإيمان بالله) ينظرون إلى هذا الغرائب في حيرة، وأقصى ما ينتهون إليه من قرار، أنه من شذوذات الطبيعة.
ولكنا نحن الذين أكرمنا الله بالإيمان الذي يناكب العلم، لا نعاني في الوقوف أمام هذه الغرائب من أي حيرة.
تفسير بلك أمامنا واضح بين.. وهو أن الله عز وجل، يرينا بين الحين والآخر من خلال هذه الخوارق، أو الغرائب، ما يذكرنا بأن مقاليد هذا الكون بيد الله، وبأن مفاتيح الغيوب عائدة إليه عز وجل.
إنه يقول لنا، من خلال تعريفه لنا بأنظمة هذه الحياة الدنيا: تعاملوا مع مرافق الحياة كلها، طبق السنة التي أقمت حياتكم الدنيا على أساسها، ولكن إياكم أن تسجنوا أنفسكم من هذه السنة في تصور مادي طبيعي أرعن!.. وإياكم أن تشغلكم مظاهر الاقترانات الكونية عمن بيده مقاليد ذلك كله.
أحسب، أن هذا الكلام الذي ذكرته، ينبه العالم إلى هذه الحقيقة الدقيقة التي ينبهنا إليها بيان الله عز وجل في هذه الآية. ومن ثم فلا بد _إن كان عالماً حقاً_ أن ينغص الرأس لبيان الله عز وجل.
وأحسب أن الإنسان الغيور على العقيدة الإسلامية لا بد أن ينغص الرأس، بدوره، للحقيقة العلمية التي تستوجب التفاعل والتعامل مع عالم الأسباب والمسببات، على أن لا ننسى أن الجذع الجامع والمغذي لتلك العلاقات السببية كلها، إنما هو جذع القدرة الإلهية، دون شريك ولا ميعن.
أجل.. إنه لمهم جداً أن لا نفصل بين هذا الجذع الواحد وأغصان الأسباب والمسببات الكثيرة، المنبثقة عنه، وأن نتذكر دائماً أن صلة ما بينهما تتمثل في (المفاتح) التي يقول لله تعالى عنها (وعنده مفاتح الغيب..)
ما النتيجة التربوية العلمية التي نعود بها من هذا الكلام؟
لعل النتيجة واضحة، في مجال الأحاديث والبحوث النظرية.
ولكني لا أحب. بصدد مثل هذا الموضوع، أن نكون نظريين، أحب أن نجند كل مسألة علمية من هذا القبيل، لما يناسبها من الوظائف السلوكية.. فما هي الفائدة السلوكية التي يمكن أن يجنبها المسلم من هذا الذي قلناه؟
الفائدة تتمثل في أن الإنسان إذا وعى هذه الحقيقة عاش مع ما ارتقى إليه الربانيون، من وحدة الشهود.. ولن يصل أحدنا إلى الإيمان الحقيقي بالله ووحدانيته، إلا بعد أن يصل إلة وحدة الشهود هذه.
بل لن يذوق المؤمن نشوة إيمانه بالله، ولذة اليقين بأنه وحده الفعال لكل شيء، إلا إذا ذابت الأكوان أمام بصره، وهو موقن بوجودها، ببصيرته، وأصبح لا يرى من خلالها إلا المكوِّن عز وجل.
وكم في الناس من يسأل: ما المسلم الذي يمكن أن يرقى به المسلم إلى سدة وحدة السهود هذه؟ ما السبيل إلى أن أكون مع الأكوان وأن أتعامل معها، وأن لا أرى من خلالها إلا الكوِّن؟
السبيل إلى ذلك أن يهضم عقلي هذه الحقيقة التي ذكرتها.. أن أعلم أن الغيوب المحجوبة والمتناثرة في الكون، مردها إلى مقاليد بيد الله عز وجل. فهو العليم بها، وهو المتصرف بها.
وتتم تغذية هذه الحقيقة، بالإكثار من ذكر الله عز وجل.
إن الإنسان إذا وعى هذه الحقيقة التي ذكرتها، ثم تعهدها بالكثير والكثير من ذكر الله تعالى، يعيش (وهو يتعامل مع الأكوان) مع المكون.
إن تناول الماء على ظمأ، وشعر بلذة الريّ تسري في كيانه، نسي الماء وتذكر الله الذي تفضل عليه بهذا الريّ!.. وعاش مع قبس وهاج من محبته عز وجل.
وإن تناول الدواء، وقد وصفه له الطبيب، ونظر فوجد أن الشفاء جاء على أعقابه، نسي الدواء، وعاش مع المداوي بل الشافي الحقيقي وهو الله.
كذلك عندما يتناول الطعام فيشعر بالشبع..
كذلك عندما يرى أخطاراً تطوف به، ثم إن أسباباً أياً كانت، أبعدت هذه الأخطار عن كيانه، يعيش في كل ذلك مع من بيده مقاليد الغيوب ومفاتيحها، ومع خالق الأسباب والمسببات كلها.
وإذا استمر بالإنسان هذه الحال: يتعامل مع الأكوان، ولا يرى إلا فاعلية المكون وسلطانه، فلسوف يستطيع عندئذ أن يجمع بين أمرين طالما صعب على كثير من الناس الجمع بينهما.
يكون في تعامله مع الناس فرشياً، كما يقولون، أي أرضياً دنيوياً ينسجم مع شؤون الدنيا وأحوالها، فهو ينقلب في أحوالها تاجراً.. زارعاً.. سياسياً.. قائداً. ويسبح في خضمها شأنه في ذلك كسائر الناس.. ولكن عقله، ومن ثم وجدانه، يظل منصرفاً خلال ذلك كله، إلى شهود الله عز وجل. فهو بكيانه الجسدي وتحركاته العضوية مستغرق في شؤون الدنيا وأعمالها.. ولكنه بيقظته العقلية، ومشاعره الوجدانية منصرف إلى الله، لا يتعامل إلا معه، ولا يتلقى إلا منه.
هذه هي النتيجة .. بل هذه هي نتيجة النتيجة.
النتيجة الأولى: تحقق العقيدة الإيمانية بالله عز وجل، ووحدانيته ذاتاً وصفاتٍ. وقد رأينا أن من شأن هذه العقيدة أن تجمع في تنسيق تام بين العلم الحقيقي، وجوهر الإيمان بالله عز وجل.
النتيجة الثانية: (وتأتي بعد ترسيخ هذه العقيدة إدراكاً وإذعاناً في العقل، وشعوراً ووجداناً عن طريق الإكثار من ذكر الله عز وجل) هي الرقي الذي يتم إلى مستوى وحدة الشهود، ولا أقول وحدة الوجود.
إن الإنسان الذي أخذ نفسه بهاتين الثمرتين أو النتيجتين ينظر إلى الأكوان كلها من حوله، وكأنها ألواح من الزجاج الصافي الدقيق. لا ريب أن هذه الألواح موجودة، ولكن هذا الإنسان مهما حدّق فيها، لا يرى منها إلا ما وراءها، أي لا يرى فيها إلا صفات المكون سبحانه وتعالى.
نحن نقرأ قول الله عز وجل: {اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} {البقرة:255} نقرأ قوله تعالى {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} {طه:111} وندرك معنى هذا الكلام علماً، ولكنا قلما نتفاعل به وجداناً. والمأمول إذا أدركنا النتيجة التي نطمح إليها من وراء هذا البحث أن يتناسق الوجدان مع الإدراك العلمي على طريق التمسك بهذه الحقيقة والتعامل معها.
المصدر : هذا ما قلته أما بعض الرؤساء والملوك
[1] رواية أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد في مسنده بألفاظ متقاربة.