مميز
EN عربي
الكاتب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 28/09/2015

سبل إمكانية التجانس في الفتاوى المالية في أعمال هيئات الرقابة الشرعية

مقالات مقالات في فقه المعاملات

سبل إمكانية التجانس في الفتاوى الماليه


في أعمال هيئات الرقابة الشرعية

الإمام الشهيدالبوطي

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه وبعد:

ففي اللقاءات السياسية تتغلب عادة الدبلوماسية على الشفافية، وفي مثل هذا اللقاء أعتقد أنه يجب أن تتغلب الشفافية والصدق على الدبلوماسية.

ويقيناً مني بهذه الحقيقة أقول: إن المأمول في الفتاوى والأحكام الشرعية التي يدلي بها أعضاء هيئات الرقابة الشرعية، أن تشكل فيما بينها هيكلية واحدة، وذلك بأن يكونوا منسجمين متناغمين فيما يصدرون عنه من نقول وأحكام، وإن كان لهم الحق في أن يختلفوا في ترجيح ما هو خلافي من الأحكام. ذلك لأن فتواهم إنما تصدر من معين واحد هو معين الشريعة الإسلامية.

ولكن كثيراً من هذه الهيئات يواجه مؤسساتها المالية، ومن ثم يواجه الناس بأحكام وفتاوى متخالفة وربما متناقضة. ومن شأن ذلك أن يثير فيما بين هذه المؤسسات عوامل الاضطراب، وأن يزج الناس في حيرة تجاه معرفة الحق الذي يبحثون عنه، وربما أوهمهم أو أوهم كثيراً منهم أن فرق ما بين الحق والباطل أو الحلال والحرام في أمور الشريعة الإسلامية عامة والاقتصادية منها خاصة، ناتج عن تصورات وأفكار اعتبارية ابتدعها المتخصصون بفقه المعاملات، فتبنوها ثم جعلوا منها فيصل ما بين الصحيح والباطل أو الحلال والحرام.

وإنا نعوذ بالله أن ننظر فنجد أن رسالة هذه الهيئات الشرعية أو بعضها إلى الناس، هي بث مثل هذه الأوهام أو الرِيَب الخطيرة في أفكارهم عن الشريعة الإسلامية.

في اعتقادي أن هذه المشكلة تنبثق من الأسباب التالية:

السبب الأول: عدم النضج الفقهي أو عدم تكامل الملكة الفقهية المتعلقة بأحكام المعاملات المالية في الشريعة الإسلامية، لدى بعض أعضاء هذه الهيئات، وهي ظاهرة يعود سببها إلى ما آلت إليه حال كثير من جامعاتنا الإسلامية، بل إلى بعض الشهادات العليا التي لا تستند إلى مصداقية، ولتمنيت لو عقدت مؤتمرات أو ملتقيات لعرض هذه الظاهرة والبحث عن علاج لها، قبل أن تستفحل وتترك المزيد من آثارها في أنشطتنا الدينية والعلمية وقضايانا الاجتماعية.

السبب الثاني: عدم الاهتداء أو الاستئناس بفتاوى المجمع الفقهي المنبثق عن منظمة المؤتمر الإسلامي بجدة. وعدم الرجوع إلى مدونة المعايير الشرعية التي تحوي بحمد الله أحكام كثير من المسائل الفقهية المتعلقة بالمال عموماً، وبالخدمات المصرفية خصوصاً.

والاهتداء بهذين المرجعين وإن كان لا يقوى على سد الخلاف في القضايا الخلافية، إلا أنه يساعد كثيراً على تبديد الوهم الذي ذكرته وحذرت منه.

السبب الثالث: يتمثل في عدم وجود منهج معرِّف وملزم بالطريقة المثلى للبحث في أحكام الشريعة الإسلامية، وموضح لمظاهر الفرق بين عمل المفتي وعمل الناقل للأحكام من مراجعها المعتمدة، مما يؤكد أن مهام هؤلاء الأعضاء لا ترقى إلى درجة الفتيا بحال، وإنما هي في أحسن الأحوال نقل لما قرره أئمة الشريعة الإسلامية من أحكام مجمع عليها أو أقوال مختلف فيها، ومن ثم يفرض عليهم التقيد بهذا الضابط.

وإنما الواجب في هذه الحالة توخي الأمانة في النقل، ولا مانع بعد ذلك من أن يرجح الناقل الرأي الذي قد يرى أنه الأصوب من حيث الأدلة، أو الأكثر استجابة لمصالح الأمة ولمقاصد الشريعة الإسلامية.

إن وجود منهج يبصّر بمهمة هيئات الرقابة الشرعية، ويعرّف بالموقع الذي يشغله كل من أعضائها، ومن ثم يلزمه بالضوابط التي ينبغي أن يأخذ نفسه بها، في مجال عرضه للأحكام التي يطلب منه بيانها، من شأنه إذا تحقق أن يذيب عوامل التخالف والتشاكس بين الهيئات الشرعية المعتمدة وأن يحقق ما بين أعضائها هيكلية واحدة تيسّر سبيل الانضباط بأحكام الشريعة الإسلامية أمام المؤسسات المالية الإسلامية التي تستهدي بإرشاداتها، وتبعدها عن المتاهات والاضطراب، وعن الانجرار إلى أسباب التناقض في مواجهة الأحكام ومن ثم إلى الجدل العقيم بشأنها.

وإلى أن يوجد هذا المنهج المُعْلم والملزم، بوسعي أن أضع بعض الخطوط العريضة له، متمثلة فيما يلي:

أولاً: إن كلمة (مفتي) تساوي في الدلالة والمعنى كلمة (مجتهد) فلا يتأتى للفقيه أن يكون مفتياً حسب المصطلح الفقهي المعتمد إلا إن كان مجتهداً. فإن تدانى عن رتبة الاجتهاد أصبح عندئذ ناقلاً لا مفتياً([1])

وهذا يعني أن المفتي يجتهد فيما يُسأل عنه، ويعطي السائل أو المستفتي ما دل عليه اجتهاده. وإن لم يبلغ درجة الاجتهاد وجب عليه أن ينقل في المسألة التي سئل عنها ما ذكره الفقهاء المعتمدون فيها.

ثانياً: إن الذي يصدق عليه حال هيئات الرقابة الشرعية ممثلة في أعضائها، أنهم مجرد ناقلين لما وصلوا إلى معرفته من الأحكام الفقهية المدونة في مراجعها وأمهاتها المعتمدة، وليسوا مجتهدين فيها، وإني لأعدّ نفسي نموذجاً لهذا المستوى.

ثالثاً: إن الفقيه الذي أتيح له أن ينقل بفهم دقيق وأمانة تامة أقوال المذاهب الفقهية في مسألة ما، لا يعدو أن يكون إما ملتزماً بمذهب من المذاهب الفقهية المدونة، فهو لا يُعنَى لدى النقل إلا بما قد حفظه من أقوال الفقهاء في مذهبه هو، وإما أن يكون متوسعاً في المعرفة والالتزام، فهو بسبيل من الاطلاع على أقوال الفقهاء في جميع المذاهب المدونة وتقديم خلاصة علمية جامعة فيها.

ولا شك أن لكل من الفريقين أن ينشط في بياناته الفقهية ضمن أحد هذين الاختيارين ما دام بصيراً به متقناً له. هذا من حيث المبدأ وبقطع النظر عن المهمة المسندة إلى أعضاء هيئات الرقابة..

رابعاً: غير أن عضو هيئة الرقابة الشرعية للمؤسسات المالية الإسلامية، لا يكتفى منه ببيان الرأي أو الآراء الفقهية في مذهبه الذي يتبناه ويلتزم به، وإنما المطلوب منه أن يكون على بينة من أقوال الفقهاء في مختلف المذاهب الفقهية المدونة، في المسألة التي هو بصدد بيان حكمها. إذ إنه لا يبحث عن الحكم الفقهي في تلك المسألة لعمل نفسه. وإنما هو يبحث عنه ليقدم منه بصيرة فقهية تهتدي بها المنظمات الاقتصادية أو المؤسسات المالية التي تنشد حكم الله عز وجل فيما هي بصدده.

ولا يشترط لسلامة القيام بهذه المهمة أن يكون الباحث مستحضراً لأحكام المسألة في مختلف المذاهب حافظاً لها سلفاً، بل يكفي أن يكون ذا ملكة فقهية راسخة، تمكنه من الوصول إلى معرفة تلك الأحكام بالرجوع إلى مصادرها المعتمدة (وإني لأوصي بعدم اتخاذ الكمبيوتر بديلاً عن الرجوع إلى المصادر والأمهات، بل ينبغي أن لا يزيد دور الكمبيوتر على اتخاذه مفتاحاً أو فهرساً ميسراً للوقوف على أماكن المسألة من المصادر، بقطع النظر عن اقتباس الحكم منها).

خامساً: بناء على هذا يجب أن يتفق أعضاء الهيئات الشرعية مهما تعددت منهم الأماكن أو باعدت بينهم البلدان، في نقل الحكم الفقهي أو الأحكام الفقهية لمسألة ما من مصدرها أو مصادرها. فلا يختلفوا في نقل الاتفاق إن كان الحكم متفقاً عليه، ولا يختلفوا في نقل الخلاف فيه وعدد الأقوال إن كان الحكم مختلفاً فيه. فإن اختلافهم في ذلك مظهر للجهالة في المسألة أو لعدم الدقة في الرواية والنقل، وإن من شأنه أن يزج أصحاب النوايا السليمة من رجال الاقتصاد وعامة الناس في حيرة واضطراب تجاه ما يحرصون عليه من معرفة ما انتهى إليه أئمة الشريعة الإسلامية في تلك المسألة، وإن من شأنه أن يعطي أولي الأهواء ممن لم يقتنعوا بأحكام الشريعة الإسلامية بديلاً عن النظم الاقتصادية التقليدية الربوية، حجة لما يروجونه في الأوساط من أن الشريعة الإسلامية ليست في حقيقتها إلا نسيج أفكار بشرية تتفق عليها آناً، وتختلف بشأنها آناً آخر، أو تتفق في بعضها وتختلف في بعضها الآخر.

سادساً: إذا تم الالتزام بهذا الذي ذكرناه من ضرورة الاتفاق في نقل الحكم أو الأحكام الشرعية من مصادرها المعتمدة، فلا مانع بعد ذلك من أن يختلف أعضاء الهيئة أو الهيئات في ترجيح ما يُرى أنه الأصح دليلاً أو الأقرب مصلحة من الأقوال المختلفة في المسألة الواحدة .. إن اختلافهم هذا من شأنه أن يصدر عن رؤية اجتهادية جزئية يفترض أنهم يتمتعون بها، فهو يثري ولا يربك، ويضع المؤسسات المالية والقائمين عليها أمام خيارات أكثر كلها مقبولة وداخلة في نطاق الشريعة الإسلامية.

ولنبرز هذه الضرورة بأمثلة هي نموذج لإشكالات وقعت فعلاً. فلنتخذ منها درساً لما ينبغي أن يكون الشأن عليه في المستقبل.

* هل نكول الآمر بالشراء في عقد المرابحة يخضعه لمسؤولية قضائية تجبره على العودة عن نكوله؟

في أعضاء هذه الهيئات من أجاب بالنفي مؤكداً أن الآمر بالشراء في هذا العقد يملك أن يرجع عما وعد به بقطع النظر عن الضمانات التي قدمها أو لم يقدمها .. وفيهم من أجاب بأنه ملزم بالوفاء قضائياً وأن المسؤولية القضائية تلاحقه.

إن هذا الاختلاف في النقل خطأ كبير، يدل على جهالة فقهية منافية للحقيقة، ثم إنه يبعث على الحيرة واتهام الشريعة الإسلامية بما هي بريئة منه .. ولدى التمحيص والتدقيق يتبين أن المسألة خلافية، فالشافعية والحنابلة والحنفية يرون أن التزام الآمر بما وعد به، ضرورة أخلاقية لا أكثر، في حين أن المالكية أو جمهورهم يرون أن التزامه يحمله مسؤولية جزائية.

إن من الضروري عند عرض الحكم الفقهي لهذه المسألة، بيان الخلاف الذي جرى فيها، ونقله بأمانة كما هو .. ولكن لا مانع بعد ذلك من أن يرجح عضو الهيئة ما يرى أنه الأصوب أو الأكثر انسجاماً مع المصالح والنظم الاقتصادية القائمة، بل هو الأفضل. ولا حرج في أن يختلف أعضاء الهيئة في الأرجح من القولين، بعد أن يتفقوا في نقل الخلاف وعرضه كما هو.

* وإليكم هذا النموذج الآخر: يتكرر السؤال عن حكم بيع العينة، وتمرّ مناسبات لاستعادة الحديث عن حكمه، عند دراسة عقود نمطية معينة. والأمر الذي يتكرر هو أن في أعضاء الهيئات من ينقل الاتفاق على حرمته وبطلانه، وفيهم من يخالف .. والمخالفون فيهم من يذكر فيه خلافاً عن الأئمة، وفيهم من يجزم بالصحة والجواز ليس إلا.

إن نقل حكم بيع العينة بهذا الشكل لا يتفق مع الواقع الفقهي في الجملة، طبقاً لما هو مقرر في المراجع الفقهية المعتمدة. إن من المعلوم أن الإمام الشافعي صححه وأجازه، أما الذين حرّموه وأبطلوه فهم الحنفية والحنابلة والمالكية. إن على أعضاء الهيئات الشرعية أن يكونوا أولاًً أمناء على صحة النّقل، ولن يكونوا عندئذ إلا متفقين فيما بينهم، ثم لا مانع بعد ذلك في أن يختلفوا في المصير إلى أرجح القولين، بل ذلك هو المطلوب، لأنه اختلاف في الاجتهاد، والاجتهادات المختلفة تثري ولا تزج المستفتي أو المؤسسات المالية في إرباك ولا تناقض.

وحصيلة القول أن على عضو هذه الهيئات أن يتمتع بملكة فقهية في أحكام المعاملات المالية وأن يكون بصيراً بالخدمات المصرفية، وأن يرعى في عمله خدمة الشريعة والدين، لا خدمة مصالحه الشخصية.

السبب الرابع: لغياب هذه الهيكلية التي تجمع هيئات الرقابة كلها على صراط واحد من منهجية العمل وتعلو بها فوق أسباب التسيب والضياع عن الهدف المرسوم لهيئات الرقابة الشرعية هو عدم وجود رابطة لها تتمثل في لقاءات دورية بين أعضائها جميعاً، تتكرر كل ستة أشهر على أقل تقدير.

ولكي يتم ذلك ينبغي أن تمثَّل هذه الهيئات كلها في هيئة واحدة، يمثل كلاً منها واحدٌ من أعضائها، ومن ثم تعهد إليها مهمة الرقابة لأنشطة سائر الهيئات وأعمالها وفتاواها، كما تعهد إليها مهمة دعوة سائر الأعضاء إلى لقاءات دورية منتظمة. وعلى هيئة المحاسبة والمراجعة العامة أن تعمل على تيسير ذلك من الناحية المادية والإجرائية.

وأعتقد أن سلسلة هذه المؤتمرات (ومؤتمرنا هذا واحد منها) لا يتأتى لها تحقيق هذه المهمة. إن المطلوب أن يكون لهذه الهيئات المتفرقة في مناهجها وبلدانها، جذع واحد ترتبط به وتعود إليه، يتكون من هيئة جامعة تمثلها جميعاً. وبذلك تتحقق الهيكلية الواحدة لهذه الهيئات المتناثرة كلها، ومن ثم تتلاقى جهودها على منهج واحد جامع وتخضع لقواعد شرعية وأخلاقية تشكل دستور العمل للجميع.

والله هو الموفق، وهو المستعان والحمد لله رب العالمين.

(1) يحسن الرجوع إلى ما ذكره النووي مفصّلاً عن شروط الفتوى وآدابها في مقدمة كتابه المجموع.

تحميل