العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
تحمل الأذى في سبيل الدعوة والعقيدة
تحمل الأذى في سبيل الدعوة والعقيدة
[من الكنوز التي خلفها الإمام الشهيد للأمة .. وعثر عليها بخطه مما لم ينشر بعد]
بسم الله الرحمن الرحيم
أجمع المؤرخون وكتّاب السيرة النبوية، أن النبي عليه الصلاة والسلام عانى في طريق الدعوة إلى الله عز وجل، ما قلّ أن يعاني مثله داعٍ في سبيل مبدأ!.. فقد صحّ عنه صلى الله عليه وسلم أن المشركين عمدو إلى كرش بعير فألقوه بما فيه على رأسه صلى الله عليه وسلم وهو ساجد، وأنه أُخرج من الطائف طريداً، وقد تجمّع من خلفه الصبية والسفهاء ينبذونه بالحجارة ويلاحقونه ببذيء القول والكلام، وأنه عليه الصلاة والسلام خرج إلى بعض أسواق مكة يوماً، فاستقبله أحد المشركين بحفنة من تراب ألقاها على رأسه، فعاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى داره ورأسه مجلل بالتراب، وقامت فاطمة رضي الله عنها تغسل التراب عن رأسه وهي تبكي. كما صحّ أنه صلى الله عليه وسلم شدّ على بطنه حجراً من شدة الجوع لثالث ثلاثة أيام لم يذق فيها مذاقاً قط، إذ كان منهمكاً خلالها مع أصحابه بحفر الخندق؛ يحفر الأرض آناً وينقل التراب على كتفه آناً آخر!..
فما الحكمة من ذلك كله..؟ وكيف يتّفق هذا الواقع مع ما هو ثابت من أنه عليه الصلاة والسلام أحب الخلق إلى الله، ومع خطابه جلا جلاله له قائلاً: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى). وقوله: (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)؟ ألم يكن من أوضح مستلزمات هذا الحب والعطاء أن يحفظه الله في مأمن من هذه الشدائد كلها وأن تسخّر له أسباب السعادة تسخيراً، فلا يلاحقه إيذاء كافر، ولا يعاني من آلام حرمان ولا فقر؟.. وفيم يبتليه الله بهذا كله وهو إنما يدعو إلى دينه ونصرة شريعته؟..
والجواب: أنه عليه الصلاة والسلام، إنما كان يمارس فيما يعانيه من محنة الدعوة وشدائدها، عملاً من أهم أعماله التشريعية التي جاء ليبلّغها الناس. شأنها شأن العبادات والمعاملات والأخلاق التي كان يعلّمها الناس بعمله وسلوكه. فلئن كان من شأنه أن يصلي أمامهم ويقول: (صلوا كما رأيتموني أصلي)، وأن يؤدي مناسك الحج أمامهم ويقول: (خذوا عني مناسككم) فإنّ من شأنه أيضاً أن يصبر ليعلمهم فنّ الصبر على المكاره، وأن يخضع لشدائد الحق ومحنة الدعوة إلى الله ليعلمهم كيف تكون ممارسة العبودية لقيّوم السماوات والأرض.
وإذاً فلقد كانت سنوات المحنة في حياته صلى الله عليه وسلم عملاً إرادياً قام به النبي عليه الصلاة والسلام عن رضى واختيار، ولم يكن لصيقة إكراه ألجئ إليها إلجاءاً أو كأس مرار تجرعها صلى الله عليه وسلم على كراهية وبدون قصد. ولقد كان في عمله التبليغي هذا يلقي على المسلمين في كل زمان ومكان درساً على جانب عظيم من الأهمية، يقول لهم فيها بلسان الحال:
إن القيام بالدعوة إلى دين الله محور العبودية الصادقة لله جل جلاله. ولا تتم ممارسة العبودية دون تكليف، ولا تكليف بدون مشقة وبذل للجهد. ومن ثم لا يكون المرء مسلماً لله بصدق إلا إذا استهدف أمرين اثنين:
أولهما: إقامة المجتمع الإسلامي الذي أمر الله به.
ثانيهما: السيرُ إلى تحقيق ذلك ف طرق مليء بالأشواك الدامية والعذاب الواصب، واقتحام ألوان العقبات والمخاطر.
أي فإن الله عز وجل كلف عباده أن يؤمنوا بالغاية، وكلفهم إلى جانب ذلك أن يسلكوا إلى تلك الغاية الوسيلة الشاقة المتعبة.
ولو شاء ربك، لجعل السبيل إلى إقامة المجتمع الإسلامي بعد الإيمان به طريقاً سهلاً معبّداً. ولكن السير في تلك الطرق لا يدل حينئذ على شيء من عبودية السالك لله عز وجل، وعلى أنه قد باع حياته وماله لله يوم أعلن الإيمان به، وعلى أن جميع أهوائه منقادة لحكم الله وأمره. وإذاً لتلاقى على هذا الطريق الآمن الجميل المؤمنون والمنافقون جميعاً، لا يفرّق هؤلاء عن أولئك شيء، ولا يستبين صادق عن كاذب. وإنما يقول الله عز وجل: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
وإنها لسنّة إلهية عامة تسري على جميع الناس بما فيهم الأنبياء والأصفياء.
فإذا علمت طبيعة المحنة التي لا بدّ أن يلقاها الداعي في طريق دعوته إلى إقامة الحق الإلهي وتطبيق المجتمع الإسلامي، أدركت أن هذه المحنة ليست في حقيقتها عقبات أو سدوداً تصد السالك أو المجاهد عن بلوغ الغاية، كما قد يتوهم بعض الناس. وإنما هي فيي الحققة اجتياز لمسافة وقطع لعقبة وسلوك في الطريق الطبيعي الموصل إلى الغاية.
ومعنى ذلك أن المسلمين يتقربون إلى الغاية التي كلفهم الله بالوصول إليها، بممقدار ما يتحمّلونه في الطريق إليها من العذاب والآلام وبمقدار ما يتساقط فيهم من الشهداء.
ولو تأمل المسلمون هذه الحقيقة لما تسلل اليأس إلى نفوسهم من جرّاء ما قد يعانونه من النكبات أو المحن المتلاحقة، بل لعلموا أن الأمر يدل على ما يستوجب العكس تماماً، إن عليهم أن يستبشروا بالنصر كلما رأوا أنهم يتحملون في سبله مزيداً من الضر والآلام.
وما أجلى هذه الحقيقة العظمى في قوله جل جلاله: (أمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ). إن نصر الله كامن في تلافيف هذه البأساء ذاتها، فابحثوا عن النصر في مزيد من الصبر عليها والرضى بها.
بل ما أجلى هذه الحقيق في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لخباب بن الأرت حينما جاء إليه عليه الصلاة والسلام، وقد غالبه العذاب الذي أجهد جسمه حتى كاد يغلبه، فكشف له عن أطراف من جسمه المكوي بالنار في سبيل الثبات على الحق، وقال له: يا رسول الله ألا تدعو الله لنا؟!..
فأجابه وقد احمرّ وجهه: (لقد كان مَن كان قبلكم لَيُمشَطُ بأمشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه. وليُتمَّن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلّا الله).
فما معنى هذا الكلام؟
إنه يقول لخباب: إن كنت تتبرم بالعذاب والمحنة، فاعلم أن هذا هو السبيل .. وإنها لسنة الله في جميع عباده، أمّا إن كنت ترى في العذاب دلائل يأس وقنوط فأنت متوهم. إن العذاب الذي تعانيه صابراً ليس إلا سيراً في الطريق واقتراباً من النصر، ولتجدن عاقبته الحميدة عما قريب.
***
غير أنك قد تقول: فكيف أفهم أن ما عاناه المصطفى عليه الصلاة والسلام في طريق الدعوة كان سلوكاً اختيارياً ألقى من خلاله الدرس على الناس ولم يكن ملجأً إلى ذلك عن كره، مع أنه كان في كثير من ساعات الشدة يستغيث ويتضرع إلى الله أن يعافيه مما يعاني، ويشكو إليه عجزه عن تحمل كل هذ البلاء؟.. أوليس هو القائل: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ..)؟
فاعلم يا أخي أن الأمر منسجم وليس فيه تعارض أو تناقض. إن الأمر كله ليس إلا ممارسة للعبودية الضارعة لله عز وجل. وإنما شأن العبد أن يخضع للمحن التي تنزل به فلا يستعلي فوقها أو يثور عليها، وأن يبسط في الوقت ذاته كفّ الضراعة يطلب الرأفة والرحمة.
لقد كان تحمله عليه الصلاة والسلام لشدائد الدعوة إلى الله استسلاماً لحكمه، لا تحدياً أو مغالبة لقهره. فهو يُخضع كيانه لقضاء الله من جانب، ويكشف له عن مظاهر الضعف في ذاته من جانب آخر، يطلب بذلك منه العون والتأييد. وانظر، فإنك واجد في مناجاته العظيمة عند منصرفه عن الطائف تجسيداً رائعاً لهذه الحقيقة بأكملها. فقد بدأ مناجاته بعرض دلائل ذُلّه، وضعفه فقال: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين وأنت ربي ...) ولكنه لم يلبث أن أعلن السمع والطاعة لكل ما يقضي به حكمه، ويجري به سلطانه. فقال: (إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي .. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى).
وتلك هي الحقيقة الكاملة لشطري العبودية في حياة المسلم: استسلام لما يجري به قضاؤه من جانب، والتجاء إليه جل جلاله بالشكوى والضراعة أن يرأف به من جانب آخر. وليس بين هذا وذاك أي تعارض، إذ الشكوى إلى الله تعبد، والضراعة له والتذلل على بابه تقرب وطاعة، وللمحن والشدائد حكم، من أهمها أن تسوق صاحبها إلى باب الله تعالى وتلبسه رداء العبودية له.
ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يعلّم أصحابه بصبره الشديد على المحن كيف يصبرون صبره ويوضح له أن تلك هي وظيفة المسلمين عامة والدعاة إلى دين الله خاصة؛ وكان بطول ضراعته والتجاءه إلى الله تعالى يعلمهم وظيفة العبودية ومقتضياتها.
***
ثم إن هنالك معنى إنسانياً رفيعاً جداً يكمن في تحمل الرسول عليه الصلاة والسلام لما قد تحمله من صنوف المحنة والأذية في طريق الدعوة إلى دين ربه جل جلاله، ولو شاء لعافاه الله عن كل ذلك، ولجعل له من نصره وعافيته جنداً يقيه كل مكروه. كيف لا وهو الذي قال لجبريل يوم اشتد به الكرب مما لحقه من أذية المشركين يوم العقبة، وقد عُرض عليه أن يأذن لملك الجبال فيطبق عليهم الأخشبين .. (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئاً).
هذا المعنى الإنساني العظيم يكمن في شعوره عليه الصلاة والسلام بأنه قدوة للدعاة إلى الله من بعد .. وبأن معجزات النصر بدون محنة إن تحققت له بماله من قرب إلى الله، فإنها لن تتحقق لإخوانه الذين سيأتون من بعده. ولسوف يرون عندئذ أنهم ابتلوا بالمصائب في طريقهم إلى الدعوة حيث عوفي النبي واستراح، وأنهم افتقروا وتشردوا حيث استغنى النبي واستقر آمناً في وطنه، وأنهم أهينوا وذلوا حيث بقي النبي كريماً عزيزاً لم تطف من حوله أي أذيّة.
وما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يميز نفسه بشيء عن أصحابه الذين من حوله أو عن إخوانه الذين سيأتون من بعده. وما كان يطيق – بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام – أن يتخيل المحنة نازلة بواحد من أمته في سبيل الاستقامة على الصراط الذي جاء به من عند الله واتباعه نهجه في الدعوة إلى الله، ثم ينظر إلى نفسه وهي ممتعة بالراحة والعافية والنعيم والاستقرار.
فمن أجل ذلك آثر أن يعاني جميع ما قد يتعرض له أصحابه وإخوانه من أنواع المصائب والآلام في طريق الدعوة إلى الحق: إن كان الفقر والحرمان فليكن أول من يعاني الفقر ويتجرع كأس الحرمان، وإن كان السخرية والإهانة فليكن أول من تحدق به السخرية وتنزل به الإهانة، وإن كان التشرد والابتعاد عن الأهل والأوطان فليكن أول مهاجر إلى ربه في سبيل الثبات على الحق واستمرار الدعوة إليه.
وانظر، كم يتجلى هذا المعنى الإنساني الرفيع في حالته عليه الصلاة والسلام يوم حفر الخندق. لقد تعب الصحابة إذ ذاك تعباً شديداً بسبب أعمال الحفر، فأبى عليه الصلاة والسلام إلا أن يكون أشدّهم تعباً، ولقد وصفه جابر رضي الله عنه إذ ذاك في الحديث الصحيح، فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وهو ينقل التراب على كتفه وقد وارى عني التراب جلدة بطنه!.. ولقد عانى الصحابة إذ ذاك من جوع شديد، فأبى عليه الصلاة والسلام إلا أن يكون أشدّهم جوعاً. ولو شاء لأطعمه الله وسقاه وهيأ له سبيل الراحة والرغد من حيث لا يحتسب.
وعندما تأثر جابر رضي الله عنه من دلائل الجوع الشديد على النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه سراً إلى طُعيِّم بسيط عنده، أبى عليه الصلاة والسلام، انطلاقاً من هذا المعنى الإنساني الذي نتحدث عنه إلا أن يمضي بالصحابة كلهم إلى دار جابر. فلقد كان يشعر عليه الصلاة والسلام أنه وأصحابه متضامنون متكافلون، يتقاسمون النعمة بينهم مهما قلّت، ويتقاسمون بينهم المحنة أيضاً مهما عظمت.
وهكذا فإن أحداً من المؤمنين الصادقين لا يبقى له من عذر في أن يتقاعس عن القيام بأعباء الدعوة الإسلامية لما قد يبصر من عذاب وشدة في طريقها بعد أن خاض رسول الله غمارها ودميت فيها قدماه.
***
فيا أخي المسلم، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى ذروة من الوفاء لك، يوم أبى إلا أن يبدأ فيسبقك إلى كل ما قد يُتصور أن ينوبك من الضر إن أنت أديت حق الدعوة إلى الله في حياتك، فيشركك فيه سلفاً ويتجرعه من قبلك احتياطاً.
فهل كنت بالمقابل على جانب من الوفاء له؟
هل سرت بضع خطوات في الطريق التي دميت فيها قدما رسول الله؟ وهل ذقت شيئاً من الكأس التي تجرعها من قبلك، هل آثرت رضى الله على شيء ولو يسير من راحتك وضمانات عيشك؟..
إن الجواب كما تعلم لمحزن ومخجل، والله المستعان، وهو نعم المولى نعم النصير.