العلّامة الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي
من التطرف إلى الحوار - الجزء الثاني
من التطرف إلى الحوار
الجزء الثاني
الإمام الشهيد البوطي
والآن ما عوامل القضاء على التطرف أو الإرهاب الديني؟
كان لا بدّ من بيان هذه العوامل الكامنة وراء ظاهرة العنف غير المشروع دينياً، لكي يتبين على ضوئها المنهاج الأمثل لوضع رؤية مستقبلية تضمن حلّ مشكلة العنف هذه.
إن المنهج الأمثل _ بكلمة موجزة _ للقضاء على هذه المشكلة هو السعي التعاوني إلى القضاء على العوامل الثلاثة التي هي سبب المشكلة.
وبوسعنا أن نشرح هذه الكلمة الموجزة من خلال عرض النقاط التالية:
1– ينبغي أن تكون الحكومات الإسلامية، وأخص منها العربية، أكثر اهتماماً وجديّة في رعاية المبادئ والأحكام الإسلامية على أرضها وبين رعاياها، فضلاً عن أن عليها أن تكف عن الدعوة إلى النظام العلماني.. إنها عندما تضاعف من اهتمامها الجادّ بهذا الأمر بضوابط علمية معتدلة سليمة، فلسوف تمتص بذلك قدراً كبيراً من عوامل التشنج التي تتجمع في نفوس الشباب الذين تجتاحهم عاطفة الانبعاث الإسلامي، ولسوف يفقدون ما كانوا يتخيلونه من شرعية تطرفهم الإرهابي باسم (الجهاد).
2- إن اليأس من جدوى النظام العالمي الجديد، الذي تطور إلى ما يسمى (عولمة) والذي ما زال يجنح إلى التحيز في كل شيء، ويكيل بمكاييل متناقضة شتى طبق ما تمليه مصلحة 11% من سكان العالم، سواء فيما يتعلق بالمشكلات السياسية أو الاقتصادية أو الأخلاقية أو التربوية العامة، يجب العمل على معالجته طبق خطة استراتيجية، لا تحتمل التواني والتأخير.
إذ إن هذا اليأس إذا تفاقم سيتحول ألياً إلى وقود لتأجيج نيران التطرف في سائر أنحاء العالم. ولسوف يعبّر هذا التطرف عن نفسه بتعابير شتى، حسب طبيعة المكان والثقافة والمناخ. وربما كان ذلك بذور انهيار الحضارة الغربية عاجلاً أم آجلاً.
إن صلحاً حقيقياً يتم بين شطر الشمال والجنوب من العالم، قائماً على ضوابط العدل الحقيقي، محتكماً إلى جامع مشترك من الأخلاق الدينية (ومن ثم الإنسانية)، من شأنه أن يخفف من ضرام هذا اليأس، إن لم نقل: إن من شأنه أن يجتثه من النفوس، ومن ثمّ من شأنه أن يقضي على فدر كبير من عوامل التطرف.
إن الضغط إذا من شأنه أن يولد الانفجار، كما يقولون، فإن الظلم هو الذي يولد الضغط. والظلم في عالمنا اليوم إنما تمارسه الأقلية القوية ضدّ الكثرة المستضعفة. والتطرف اليوم له مظاهر منتشرة هنا وهناك في جهات العالم الثالث، ولكن له جذوراً مهيجة تبدأ من هناك، حيث القوى المتحكمة بناصية السياسة والاقتصاد، ساعيةً سعيها اللاهث إلى أن تتحكم حتى بالمصير.
إن الدين السماوي إذا ترك وشأنه، ومارسه أهله ممارسة حقيقية دون وجود من يستثيرهم ويضيق عليهم، لن يهدي إلا إلى الحب، ولن يمدّ بين الناس إلا جسور التعاون. أي: إن المشكلة ليست في جوهر الدين، ولكنها تتمثل في الطريق الضيق المظلم الذي يُلْجَأ المتدينون إلى السير فيه.
ومع ذلك، فإن الذين يضبطون أنفسهم من التوجه الإسلامي بضوابطه العلمية، ويمارسون قدراً كبيراً من البطولة في الثبات على النهج السليم، ويتسامون جهد استطاعته فوق عوامل الاستثارة والتهييج، كثيرون. ولكن كثرتهم، لأمر ما، لا تلفت النظر.
هل أضعكم أمام مثال حيّ؟.. حسناً، إن التوجه الإسلامي في تركيا يهيمن اليوم على حال غالية الشعب التركي. وهو إلى اليوم لا يحاول التعبير عن وجوده والقيام برسالته إلا من خلال ممارسته لحقوقه الإنسانية في حرية التعبير واتخاذ القرار.
غير أن القوى الأجنبية التي تصر على أن تتحكم هي بالأمور، ترى في التوجه الإسلامي، من حيث هو، خطراً على مصالحها. فهي توحي إلى رسلها وعملائها في تركيا أن يضيقوا السبل على تلك الغالبية، وأن يستثيروا في نفوس أفرادها عوامل التطرف والانزلاق إلى الأعمال الانتقامية كي تلتصق بهم جريمة الإرهاب!.. وإن المراقب لحال تركية اليوم عن كثب يلاحظ كيف أن القوى الأجنبية ماضية في استثارة الإسلاميين وإلجائهم إلى التطرف بأقصى السبل الممكنة، ويلاحظ في الوقت ذاته كيف أن الإسلاميين هناك يمارسون بطولة نادرة في الانضباط بالنهج الإسلامي السديد والبعد عن الانزلاق في أي غلطة تشوه وجه الإسلام الحف أمام الناظرين. هذا على الرغم من أن الاستفزاز المستمر الدافع إلى التطرف يلاحقهم من كل جانب.
والآن.. من التطرف إلى التعاون والحوار. كيف؟!..
لقد آن للغرب، وللغرب الأمريكي خاصة، أن يعلم أن مشكلته لا تكمن في الإسلام، لا الإسلام الوافد إليه من الخارج ولا النابع عنده من الداخل.. وإنما تكمن المشكلة في الأمراض الاجتماعية الكبرى التي تجتاحه اليوم، والتي تهدد الحضارة الغربية من جذورها.
إن على الغرب الأمريكي أن يعلم أن جيله النامي الجديد، جيل المخدرات.. جيل ضياع عن حصن الأسرة والتائه بين اللاأدرية الموحشة.. جيل الأمراض النفسية المستشرية.. ليس مؤهلاً قط لأن يرث شيئاً من مسؤوليات القيادة السياسية، ولا الفكرية والعلمية ولا الرعاية الاجتماعية.. وإن الغد القريب سيكون خير شاهد على ما نقول.
وليعلم الغرب، عندما يتبين هذه المشكلة ويقدّرها حق قدرها، أن العلاج واحد لا ثاني له. إنه يتمثل في التلاقي على الدين الحق، عندما يتحقق الإخلاص في اعتناقه وممارسته.
وسبيل ذلك أن تتلاقى جهود الرعاة المخلصين للدين الحق (وهو دين واحد في أصله وجذره) من مسلمين ومسيحيين بل ويهود أيضاً، ممن تحرروا من النزعة الصهيونية التي جاءت شؤماً على اليهودية كدين مجرد، قبل أن تكون شؤماً على أي شيء آخر.
ولا شك أن فيكم من يسأل: فما السبيل إلى مدّ جسور التعاون الحقيقي بين المسيحيين والإسلام قبل أن نضيف إليها اليهودية شريكاً ثالثاً؟
والجواب أن السبيل موجود ومعبد، يعرفه، بل يتعشّقه كل من كان صادقاً مخلصاً في إيمانه بالله وفي محبته له.. ويتلخص هذا السبيل في التركيز التعاوني على الجذور الجامعة والمشتركة بينهما، وهي تشكل منطلقاً جاداً ذا أهمية كبرى، إن خلا من شوائب الخلفيات السياسية والمصالح المحورية المستغِلَّة.. وضمانة هذا الشرط الإخلاص لوجه الله عز وجل.
أما الفروع الخلافية فسيبل معالجتها هو الحوار، على أن يتصف طرفاه بالندِّيَّة المتكافئة في الظروف والإمكانات والدوافع والمنطلقات.. وعلى ألا يبتغى من الحوار إلا البحث عن الحق، بأسلوب من الاحترام المتبادل، بل من المحبة الحقيقية المتبادلة.
ولعلّ القرآن رسم أدقّ دستور لهذا المنهج الحواري، وذلك قوله عز وجل:
(ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحدٌ ونحن له مسلمون)
وهذا المنهج التعاوني والحواري ينطبق على واقع حال المسلمين مع المسيحيين في البلاد العربية والإسلامية، كما ينطبق على صلة ما بين المسلمين والمسيحيين في العالم الغربي بكلا شطريه الأوروبي والأمريكي. أي يجب تطبيق هذا المنهج على علاقة ما بين المسلمين والمسيحيين أينما وجدوا.
إلا أن من أهم ما ييسر تطبيق هذا المنهج التعاوني في أوروبا مثلاً، التقاء المسلمين والمسيحيين على جامع مشترك يحقق لهم مشروع الاندماج في نظم مجتمع إنساني أفضل فوق هذه الأرض الأوروبية. ولعلّ أفضل جامع مشترك، يتمثل في ضرورة احترام المسلمين للنظام الأوروبي الساري، الذي يظلهم وسائر المواطنين الأوربيين الذين يعيشون معهم على أرض مشتركة.. على أن يحترم كل طرف خصوصيات الدين لدى الطرف الآخر، وألا يتجاهل النظام الأوربي حقوق هذه الخصوصيات، مادام ذلك لا يضر بالمصلحة الوطنية العامة.
إن وجود الجاليات الإسلامية اليوم في بقاع أوروبا على اختلافها، وتكاثرها يوماً بعد يوم واقع لا مفرّ منه، تلحّ عليه مصالح كثيرة مشتركة.
ولكي يكون هذا التلاقي لمصلحة الجميع، لا بدّ من اتباع نظام تعاوني جادّ، يعين على الانسجام والاندماج اللذين يحافظان على الهوية والذات.. ومن ثم يحقق المصالح المشتركة. غير أن هذا النظام لا يؤتي ثماره المرجوّة إلا من وراء اعتراف حكومي رسمي بالإسلام ديناً سماوياً، له خصوصياته التي ينبغي مراعاتها، والتي تشكل جزءاً من حقوق الإنسان. ولعلّ بلجيكا مثال يحتذى في هذا المجال.
وفي ظل هذا التآلف التعاوني، تغيب سائر التشنجات النفسية والفكرية التي قد بعثت على التطرف والعنف. وسيتشكل تيار تعاوني واحد يمثله الجذع الديني الجامع لفروع الديانات المتعددة، يقف بنجاح في وجه التطرف وأسبابه.. هذا، على أن يؤخذ بعين الاعتبار ضرورة تنفيذ الشرطين اللذين ذكرناهما.
وينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أن العلاقات الإسلامية المسيحية في أوروبا، تتلون إلى حدّ كبير بلون هذه العلاقات ذاتها في بلادنا العربية والإسلامية، كما أنها تتأثر بمدى ظهور أو غياب التطرف في البلاد العربية ذاتها.
أي: إن الأمر إن عولج بالطريقة التي ذكرناها الآن، في بلادنا العربية والإسلامية، فلسوف يهون الخطب هنا، ويحلّ الانسجام والوئام محلّ التخوف وأسبابه.
ولكن في أوروبة أفواهاً من الغرب تنفخ في نيران التطرف وأسبابه في الشرق، في شرقنا العربي والإسلامي. في الوقت الذي تتحرك ألسنة هذه الأفواه باستنكاره والبحث عن السبل التي تقضي عليه!.. زارني مسؤول دبلوماسي كبير في واحدة من أبرز السفارات الغربية، وسألني قائلاً:
إنني ألاحظ أن الأنشطة والتوجهات الإسلامية تأخذ مدى وحظاً كبيراً يلفت النظر في سورية، أليس كذلك؟ قلت: نعم، ربما كان الأمر كذلك.. قال متعجباً: فلماذا لا تبرز ظاهرة العنف والتطرف هنا، كما تبرز في جهات كثيرة أخرى؟!..
لقد كان واضحاً أن الرجل يعبر بسؤاله هذا عن أسفه لعدم اندلاع ظاهرة العنف، والتطرف عندنا.
قلت له: إن حوافز الدين عندنا ليست محصورة في عاطفة هوجاء. وإنما هي قائمة قبل ذلك على ضوابط الوعي الإسلامي، وكوابح المعرفة بقواعد الدين وأصوله.
وقلت له: إن الوعي الديني الذي يمتاز به رجل الشارع في سورية، قد أكسبه قناعة تامة بأن أي تطرف ديني يظهر في بقعة ما من بقاع عالمنا الإسلامي، إنما يتم تصنيع أسبابه وتحضيره هناك في الغرب، ثم إنه يبعث به عبر أقنية خفية إلى هنا، بشتى وسائل الاستفزاز والاستثارة التي أصبح أكثر (سيناريوهاتها) محفوظة ومدروسة.