مميز
EN عربي
الكاتب: A MARTYR SCHOLAR: IMAM MUHAMMAD SAEED RAMADAN AL-BOUTI
التاريخ: 20/10/2013

ليس في الإسلام أقلية وأكثرية

مقالات مقالات في قضايا حضارية

ليس في الإسلام أقلية وأكثرية




العلامة الشهيد د. محمد سعيد رمضان البوطي




دأبت فئات من الباحثين في الشريعة الإسلامية اليوم على استعمال كلمة "الأقليات"  تعبيراً عن غير المسلمين في المجتمعات الإسلامية، وهي كلمة لا وجود لها في شيء من مصادر الشريعة الإسلامية، ولا أعلم أن في أئمة الفقهاء من استعملها من قبل.




وإنما ولدت هذه الكلمة في المجتمعات الغربية، بصدد تصنيف درجات المواطنة هناك، فالمواطنون من الدرجة الأولى فيها هم الكثرة الدينية أو العرقية، ثم تأتي رتبة الأقليات الدينية والعرقية مواطنين من الدرجة الثانية، فالكثرة والقلة فيهما هما مقياس القرب والبعد، أو العلو والهبوط هناك.




ولقد نجمت عن هذا الواقع مشكلة، لا تزال تستعصي على الحلّ الجذري، فقد استقر في أذهان كثير من القائمين على إدارة تلك المجتمعات أن عضواً غريباً التصق من جراء هذا الواقع بجسم المجتمعات الغربية، استعصى على الالتئام به والاندماج فيه، فلا أنظمتها ولا قوانينها تتسع لاستيعاب سلوكات هذا العضو الغريب ومعتقداته، ولا أكثر الفئات والجماعات التي يتألف منها هذا العضو تقبل التخلّي عن التزاماتها ومعتقداتها، وترضى بالاندماج في تيار الأنظمة والقوانين المرعية في تلك المجتمعات.




وها نحن نرى اليوم الطروحات المختلفة التي يتبادها القائمون على إدارة المجتمعات الغربية، مع المغتربين الذين جعلهم الواقع عضواً يسمون فيها بالأقلية، للوصول إلى حلّ سليم لا يهزّ شيئاً من أركان الأنظمة والقوانين، ولا يسيء في الوقت ذاته إلى الحقوق الإنسانية المشروعة لهذه الأقليات.




ولست هنا بصدد الحديث عن هذه الطروحات ومدى جدواها، والأكثر ضمانه لحماية الأنظمة والقوانين ولرعاية حقوق الاقليات.. وإنما أنا بصدد بيان الفرق الكبير بين أنظمة المجتمعات الغربية، وأحكام الشريعة الإسلامية في هذه المسألة التي كادت أن تصبح معضلة في هذا العصر.




غير أن هذه الكلمة بهذا القصد لا مكان ولا معنى لها في نظام الشريعة الإسلامية، وفي المجتمعات التي تأخذ نفسها بتعاليمها وأحكامها، إذ أن كل من احتضنتهم دار الإسلام وأظلهم النظام الإسلامي الجامع، يتمتعون بمعنى المواطنة في درجة واحدة، على اختلاف أديانهم وأعراقهم، قلوا أو كثروا.




فأنت مهما نبشت بطون الكتب الفقهية وأمهاتها، فلن تعثر على تصنيف يقسم رعايا الدولة الإسلامية إلى مواطنين أساسيين من الدرجة الأولى، وإلى أقليات دينية أو عرقية من الدرجة الثانية.




إن التعبير الشامل لكل من تستوعبهم دار الإسلام، هو كلمة "رعايا" وهي تعني المواطنين من حيث مسؤولية الدولة عن رعايتهم وحمايتهم والنظر في شؤونهم ومصالحهم. أما التعبير الذي يقابل كلمة الأقليات، فهو غير المسلمين أياً كانوا، غير أن كلمة الأقليات هذه مرفوضة وغير موجودة في قاموس مصطلحات الشريعة الإسلامية لما تحمله من دلالة غير لائقة.




والجامع المشترك بين المسلمين وغيرهم، أياً كان الاسم الجامع لهم والمعبر عنهم، هو أن دار الإسلام تشملهم جميعاً، وأن النظام الإسلامي المتسع للمسلمين وغيرهم، يسري عليهم كلهم طبقاً لقاعدة: "لهم مالنا وعليهم ما علينا". ومن ثم فإن معنى "المواطنة" التي يعبر عنها أحياناً بكلمة "رعايا" يشمل المسلمين وغيرهم على درجة واحدة من حيث نظر الدولة ومعاملتها السياسية والاجتماعية للأفراد، دون أي ملاحظة لخصوصية كثرة أو قلة.




غير أن هذا لا ينطبق على ما قد يشيع بين أفراد المسلمين بعضهم مع بعض من خصوصيات الأخوة والعلاقات الدينية، والصلات التي تتنامى بينهم بحكم تلاقيهم على العبادات ذات النهج الواحد كالصلاة جماعة، وصلاة الجمعة والأعياد ونحوها، كما أن هذا لا ينطبق على ما يشيع بين الكتابيين أنفسهم أيضاً، من الخصوصيات ذاتها.




إن هذه الخصوصيات التي تنبثق من دوائر الاختلافات الدينية، شأنها كشأن الخصوصيات التي تنبثق من دوائر الأعراف المختلفة، ووشائج الأرحام وصلات القرابة. إنها موجودة ولها سلطانها في سائر المجتمعات جميعها قديماً وحديثاً، غير أن الذي يصهرها ويجمعها أخيراً في دائرة إنسانية شاملة، وهو النظام الإسلامي العادل الذي يشمل الجميع بمعاملة واحدة من حيث الحقوق المرعية، والواجبات المطلوبة، وحسن الصلة ما بين الحكام والمواطنين.




إن النظامَ الـمُنبثق عن أحكام الشريعة الإسلامية لا توجد في قاموسه كلمةُ أقلياتٍ قط، ذلك لأن هذه الأحكام روعي في تشريعها حالُ كلِّ مَن تحتضنهم دارُ الإسلام من مسلمين وغيرِهم، وأعطت لكلٍّ منهم حقوقه الإنسانية التي يتمتع بها دون أي حساب لقِلَّةٍ أو كَثرةٍ أو مواطنٍ أو وافدٍ، انطلاقاً من اهتمامِها بإنسانية الإنسان أيّاً كان دينه أو أصلُه، وشدّةِ رحمتِها به.




ومن هنا فلا معنى لما يسميه بعض الناس (تسامح) الإسلام مع أهل الكتاب، لأن كلمة التسامح تعني الـتَّجاوُزَ عن الحقِّ  على سبيل التَّفضُّل والمسامحة، أي بمعنىً آخر أن الإسلام أعطى أهل الكتاب ما ليس من حقهم تجاوزاً منه وتفضُّلاً.




بينما حقيقةُ الأمر أنَّ أحكامَ أهل الذمّة كلَّها تنطلق من تكريم الله للإنسان وتدور على محور واحد هو ترسيخُ ضمانات العدل في التعامل والـمُعايشة بين المسلمين وأهل الكتاب في ظل المجتمع الإسلامي.




فمن أهم مستلزمات الكرامة التي هي ثمرةُ تكريم الله للإنسان أن يربَأَ بنفسه عن الوقوع تحت مِنَنِ الإحسان ومشاعر الرحمة، وأن يَنشُد بدلاً عن ذلك النِّدِّيَّة في التعامل وأصول التعايش، دون أن يسريَ خلال ذلك تفضُّلٌ من طرفٍ على طرف.




 قلت: إن النظام المنبثق عن أحكام الشريعة الإسلامية لا توجد في قاموسه كلمة الأقليات قط، وإن تاريخ المجتمعات الإسلامية التي كانت تستظل بأحكام الإسلام لم يمر بهذه الكلمة في شيء من أطواره وتقلباته السياسية، فما السبب؟ وما نقطة الفرق في هذا بين أنظمة الشريعة الإسلامية وأنظمة المجتمعات الغربية اليوم؟




إن السبب يتمثل فيما يلي: إن الأحكام الإسلامية المتعلقة بنظام المجتمعات الإسلامية -على الرغم من أن كثيراً منها لا يجوز أن يطبق إلا في أرض إسلامية، أو في دار الإسلام، حسب المصطلح الفقهي- إلا أنها ليست خاصة بالمسلمين دون غيرهم، بل روعي في تشريعها حال كل من تحتضنهم دار الإسلام من مسلمين وغيرهم دون تفريق، بين مستوطنين ووافدين، وبين مقيمين وسائحين، أما المسلمون منهم فيربطهم بقوانينها وأنظمتها انتماؤهم الديني إلى جانب ضرورة انسجامهم مع نظامها الإداري والاجتماعي، وأما غير المسلمين فتربطهم بها ضرورة التجاوب مع أنظمتها العامة التي تعنى برعاية الحقوق والواجبات لشرائح الناس وفئاتهم على اختلافها، على أساس من العدالة التامة ودون أي تمييز.




ولعل في الناس من يَعجَب إن ذكرتهم بأنه ليس في الأنظمة والقوانين الإسلامية ما يرسم أي فرق بين مستوطنين أصليين على أرض الإسلام، ومتجنسين طارئين عليها، ووافدين مقيمين فيها إلى أجل، ما دام الكل يجنحون إلى السلم، ولا يتطلعون في وجودهم الدائم أو الموقوت على أي عدوان أو كيد، وأن النظام الواحد يشملهم جميعاً ويرعاهم دون امتياز ولا تفريق.




وعندما يلتقي على أرض الإسلام من جراء هذا الشمول أكثر من دين واحد، فإن الشريعة الإسلامية ترعى لكل ذي دين حقه في ممارسته، دون أي ظلم أو اضطهاد، ضمن دائرة النظام الإداري العادل والشامل لمصلحة الجميع.




وبوسعنا أن نتبين في الدولة الإسلامية الأولى التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة أبرز نموذج تطبيقي لهذه الحقيقة الهامة التي ينبغي أن نتبيّنها. إن المجتمع الذي تكونت منه تلك الدولة لم يعرف في أي عهد من عهوده ما يسمى اليوم: أكثرية وأقلية، بل ظل يحتضن الكل، على أنهم رعايا للدولة الإسلامية الفتية. ولقد تألفت تلك الرعايا من غالبية مسلمة، ومن قلة من القبائل اليهودية. فما نبذت الدولة الإسلامية الدين المخالف، ولم تحرم أصحابه من الحقوق التي تمتعت بها الغالبية المسلمة، بل نص نظام تلك الدولة على أن اليهود يتمتعون بدينهم وحقوقهم الإنسانية كاملة، كالمسلمين سواء بسواء. وإليكم النص الذي يشكل جزءاً من دستور أملاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان هو المعمول به: "يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ –أي يهلك- إلا نفسه".




ويقول في بند آخر مؤكداً أن أبواب الدولة الإسلامية مفتوحة للمقبلين إليها أياً كانوا، وللنازحين عنها أياً كانوا دون تفريق: "من خرج من المدينة فهو آمن، ومن قعد فيها فهو آمن".




ولقد سارت سلسلة الدول الإسلامية فيما بعد على هذا النهج، لا تستبدل به ولا تحيد عنه، ولم يزدها اتساعها وتراميها في الآفاق إلا رسوخاً على هذا النهج، والدليل على ذلك أن البلاد التي دخلت في الفتح الإسلامي كمصر والشام والعراق لم يُكره أحدٌ من أهلها على الدخول في الإسلام، فبقي ما يقارب نصف أهل الشام على نصرانيتهم، وظل كثير من أقباط مصر على دينهم، وكذلك الشأن في بلاد فارس لم يفتن نصراني منهم عن نصرانيته ولا يهودي عن يهوديته، وأظلهم جميعاً نظام المجتمع الإسلامي، يرعى فيهم العدالة التامة دون أي حساب لقلة أو كثرة أو مواطن أو وافد. وإنما سرى الإسلام فيما بعد بالتدريج وبشكل ذاتي على عقولهم يقيناً، ثم إلى قلوبهم حباً دون أي إلزام مادي أو أدبي.




ودعوني أضعكم أمام مشهدين من مئات المشاهد التي تبرز غياب كتلتي الأكثرية والأقلية داخل تيار العدالة الاجتماعية الراسخة التي تتعالى على الانتماءات الدينية والعرقية في ظل الحكم الإسلامي:




أما المشهد الأول منهما، فهو انتصافٌ لمظلوم، شاب من أقباط مصر خاصمه ولد لعمرو بن العاص رضي الله تعالى عنه في فرس له، فأوسعه ابن عمرو ضرباً بسوط في يده، قائلاً له: خذها وأنا ابن الأكرمين! فما كان من الشاب القبطي إلا أن اتجه إلى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في المدينة المنورة، وشكا إليه ما فعل به ابن عمرو بن العاص في مِصر، فأرسل عمر رضي الله عنه إلى عمرو بن العاص أن يأتيه مع ابنه محمد إلى المدينة، وأكرم وفادة الشاب المصري واستبقاه عنده إلى أن وصل عمرو بن العاص وابنه إلى المدينة. يقول أنس بن مالك راوي هذا الخبر: فوالله أنا عند عُمر، وإذ نحن بعمرو قد أقبل ومعه ابنه، فقال عمر: أين المصري؟ قال: ها أنا ذا. قال: دُونك الدُّرة فاضرب بها ابن الأكرمين، فضربه حتى أثخنه، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين، ثم قال للمصري: أجلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، ثم أقبل إلى عمرو بن العاص يقول له: أيا عمرو، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟




وأما المشهد الثاني، ففيه انتصاف من ظالم، إنه جبلة بن الأيهم ملك من ملوك الغساسنة، أقبل من الشام إلى المدينة مسلماً، فاستقبله عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، وأكرم وفادته، ثم أراد عمر الحج فخرج جبلة معه، فبينما هو يطوف بالبيت إذ وطئ إزاره رجل من بني فزارة، فانحلَّ فرفع جبلة يده فهشم أنف الفزاري، فشكا الفزاري أمره إلى عمر، فبعث إلى جبلة فأتاه، فقال: ما هذا؟ قال: إنه تعمد حل إزاري، ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيه بالسيف. فقال له عمر: قد أقررت بذلك! فإما أن تُرضي الرجل، وإما أن أقيده منك. قال: وما تصنع بي؟ قال: آمر بهشم أنفك كما فعلت. فاستمهله جبلة تلك الليلة ليرى رأيه في الأمر فأمهله، فلما انتشرت العتمة وهدأت الحركة ولى جبلة عائداً إلى القسطنطينية مرتداً إلى نصرانيته. ثم إنه ندم على ارتداده وتركه الإسلام، وكان كلما اهتاج به الندم تغنى باكياً بأبيات له يقول فيها :




تنصّرتِ الأشرافُ من عارِ لطمةٍ







 



وما كان فيها لو صبرتُ لها ضرر







تكنفني فيها لجاج ونخوة







 



وبِعْتُ بها العينَ الصحيحةَ بالعَوَر







فيا ليت أمي لم تلِدني وليتني







 



رجَعْتُ إلى القول الذي قال لي عمر







و يا ليت لي بالشام أدنى معيشة







 



أجالس قومي ذاهبَ السمع والبصر








 




ذلك هو حال المجتمع الإسلامي عندما كان مكلوءاً برعاية الشريعة الإسلامية، الكثرة الظالمة فيه قليلة حتى ينتصف منها، والقلة المظلومة فيه كثيرة حتى ينتصف لها، دون أي تفريق بين من ينتسب فيه بجنسية إلى الأرض والوطن، ووافد إليها غريب، ومقيم فيها لمصلحة أو رزق.




ومع ذلك فها أنتم ترون كيف أن محور الطغيان في العالم يجرد اليوم أمضى أسلحة الإرهاب فتكاً؛ في حرب معلنة على الإسلام الذي هذا هو قانونه وتاريخه وشأنه، وقد مهد أقطاب هذا المحور لحربهم هذه بأكذوبة لم أجد في قاموس الجرائم أشنع منها، إنها جريمة الكذب المتعمد على التاريخ! وهل التاريخ إلا لسان الدهر وعقله؟ إنها الأكذوبة التي وضعت الدهر كله في قفص الاتهام، لا بل في زاوية التجريم، وذلك عندما أعلن الطغيان الأمريكي أن الإسلام دين الإرهاب.




ويقيناً إن الإسلام لو كان مجموعة أفكار أنتجتها أمة من الناس لكان في هذه الحرب المعلنة عليه ما يقضي عليه اليوم. ولكن المستقبل القريب سيؤكد الحقيقة التي يعرفها كل ذي دراية عقلية حرة، وهي أن الإسلام ليس إلا وحي الله إلى عباده في الأرض، ومن ثم فلن تغيب شمسه ولن يخبو نوره.




 




المصدر: كتاب الإسلام والغرب "للدكتور محمد سعيد رمضان البوطي"



تحميل